الاستعراب الاسباني الحديث وجاذبية الحضارة الإسلامية في الأندلس

فضيلة الوزاني التهامي
fadilaouazanitouhami@gmail.com

2019 / 7 / 29

"الاستعراب الاسباني الحديث
وجاذبية الحضارة الإسلامية في الأندلس"1
قراءة في أعمال المستعرب إميليو غارثيا غوميث
هو جزء ثان من اطروحة شاملة، إصدار ثان بعد الإصدار الأول:
" الأندلس برؤى استعرابية، دراسة في جهود المستعربين الاسبان المهتمين بالتراث الاندلسي" للدكتور محمد العمارتي2.
وهو الكتاب الذي جعل أبوابه تتمحور حول مجمل القضايا النظرية والمنهجية المرتبطة بالدراسات التي طالت التراث الأندلسي دراسة وترجمة، فعرض لمصطلحات: الاستشراق والاستعراب والاستفراق، وحدد المفاهيم الاصطلاحية على ضوء خلفياتها الابيستمولوجية، وما يتفرع عنها من مفاهيم اجرائية. كما تناول الدراسات العربية الدلالية والمفاهيمية التي دفعته للمناداة بمصطلح بديل للاستعراب العربي يكون أكثر تعبير عن هذه الحركة الفكرية وأكثر رصدا لتجلياتها في العصر الحديث.
ثم اتخذ الباحث المحور الثاني للحديث عن الدراسات العربية بإسبانيا وقضايا الترجمة، فعالج دوافعها ورصد حركة الترجمة في العصر الحديث وروادها من المستعربين الإسبان، ومجهودهم في إخراج ذخائر الخزانة العربية الاسلامية بالأندلس.
وفي باب لاحق وقف على الإنجازات التي حققتها الدراسات العربية بمدرستي مدريد وغرناطة، ثم دور المجلة الأدبية " الأندلس" في التعريف بالتراث الأندلسي وإخراجه إلى العالمية.
ثم أنهى العمل برصد بعض تجليات الكتابات النثرية عند المستعرب غارسيا غوميث وموقفه الايجابي إزاء التراث التاريخي الأندلسي، وانتهى إلى إبراز دور اميليو غاريا غوميث في خدمة الفكر الاندلسي بصفة عامة.
كان هذا عرضا سريعا لكتاب أكاديمي بامتياز جدير بالقراءة بعنوان:
" الأندلس برؤى استعرابية، دراسة في جهود المستعربين الإسبان المهتمين بالتراث الاندلسي".
وكان لابد من البدء بهذا العرض في تقديم الكتاب الذي بين أيدينا اليوم:
" الاستعراب الاسباني الحديث، وجاذبية الحضارة الاسلامية في الأندلس،
قراءة في أعمال المستعرب إيميليو غارثيا غوميث".
أ‌- أهداف الكتاب:
الهدف من تأليف هذا الكتاب ليس هو التقصي المستفيض للإنجازات العلمية في تناولها للتراث الأندلسي كأفق للدارسة والبحث الدقيق، فهذه أمور قتلت بحثا ودراسة، وألفت فيها العديد من الأعمال والمؤلفات، ولكن جوهر مساعينا ومقاصدنا هنا هو فتح أفاق علمية ونقدية جديدة في تناول مباحث هذا التراث من خلال رؤى وتصورات وزاوية نظر اسباني مغايرة إلى حد ما. ص ...
هكذا يوطئ الباحث محمد العمارتي لكتابه الثاني عن الاستعراب الاسباني الحديث، ودافعه في ذلك هو أن أغلب الباحثين العرب مغاربة أو مشارقة، اهتموا بالمصادر الأندلسية العربية باعتبارها عنصرا أساسيا في البحث في التراث الأندلسي دون أن ينفتحوا على المصادر الأجنبية، في حين تميز اهتمام المستعربين الأجانب ، والإسبان منهم خاصة بنظرة شمولية لهذا التراث، وعمق في البحث والمعرفة.
إنه عمل نقدي علمي يعيد الاعتبار لهذه الأبحاث الموازية التي درست هي الأخرى تراثنا الأندلسي المشترك بنفس الغيرة التي نمتلكها إزاءه، بنفس التفاني في تناول قضاياه وعناصره. ص 6
إن هذا التصريح يجعلنا أمام مسألتين ولا أقول حقيقتين:
الأولى، أن هناك جدية وتفاني وإخلاص في دراسة الفكر العربي بالأندلس من قبل المستعربين الإسبان.
والثانية، هو غيرة هؤلاء المستعربين على هذا التراث
ولعل هذا التفاني ناتج عن هذه الغيرة وليس للغيرة غير تفسير الحب، فالمستعربون الإسبان من هذا المنظور إنما انكبوا على دراسة التراث الأندلسي، ليس باعتباره تراثا أجنبيا، نتاج لشعب دخل أرض الإسبان عنوة وخرج عنوة، بل هو نتاج تفاعل حضاري بين شعوب مختلفة تعايشت في هذه البقعة لقرون عديدة، لعلهم أيضا يعتبرون تميز اسبانيا عن باقي دول أروبا مرده إلى أسبقيتها في الاحتكاك بالعرب والاستفادة من حضارتهم وثقافتهم مما جعلها تتبوأ مكانة خاصة في ميدان الاستعراب.
ب ـ إميليو غارسيا غوميث، قراءة في أعماله:
لماذا إميليو غارسيا غوميث موضوعا لهذا العمل؟
هذا سؤال منطقي لأجوبة يوجزها محمد العمارتي كالتالي:
ـ لأن مشروعه يستحق الاهتمام والنقاش والدراسة، ص 7
ـ لعدم وجود دراسة أو مؤلف مستقل عن غارسيا غوميث باللغة العربية.
ـ لإبراز مكانة الرجل ودوره في خدمة تراثنا الأندلسي والتعريف به لدى الباحثين العرب.
ـ محاولة كسر الإهمال الذي عرفه مشروعه العلمي.
ـ وأيضا لأنه يجمع بين المعرفة التاريخية واللغوية والفكرية والجمالية للتراث الأندلسي...
جعل الباحث محمد العمارتي كتابه على ثلاثة فصول:
الأول؛ اميليو غارسيا غوميث : الإنسان، الأستاذ العالم، الديبلوماسي.
وعالج العتبات الأولى في حياة هذا الرجل، ثم بداية انفتاحه على العالم العربي والاسلامي، وسفاراته المتعددة ببعض الدول العربية والإسلامية، أيضا تحدث بإسهاب عن استقراره بغرناطة وبداية مجده العلمي بها ثم عودته إلى مدريد.
لم يغادر العمارتي هذا الفصل قبل أن يقدم جردا مفصلا لمؤلفات غارسيا ومنجزاته العلمية وعلاقته بأساتذته وزملائه وتلامذته، ثم مجمل الجوائز والأوسمة والتقديرات التي نالها في حياته العلمية والسياسية الحافلة إلى وفاته.
ج ـ الترجمة عند غاسيا غوميث:
إذا كان محتوى الفصل الأول عتبة ضرورية لأي عمل أكاديمي يتعلق بشخصية معينة، فإن الفصل الثاني إلى أهم ما ميز مسيرة غوميث العلمية وهي الترجمة، وعنونه بـ : قراءة في المفاهيم والحصيلة والتلقي.
هو فصل فريد يثير مجموع القضايا الأدبية والعلمية والتاريخية والمعرفية والمنهجية المتعلقة بالترجمة ( مباحثها ومفاهيمها ومستواياتها وحقولها وأهدافها وتوجهاتها).
الترجمة عند إميليو غارسيا غوميث مشروع مرتبط بالملابسات التي أنشأته وساهمت في بلورة منطلقاته وصيغه، والتي كان من نتاجها هذا الكم الهائل والمتنوع من الترجمات للأعمال والمؤلفات الأندلسية، شكلت موضوع رسالة علمية ضخمة تحمل غوميث عبء مسؤولية إخراجها إلى الوجود.
انطلاقا من أسئلة جدية يخوض الباحث محمد العمارتي في حل لغز أسئلة يسميها بالاستراتيجية؛
ـ كيف يرى غوميث الترجمة؟
ـ ما هو مفهومه للترجمة ولوظيفتها؟
ـ كيف كان يتصور مهمة المترجم ورسالته؟
ـ من هو المترجم الجيد في نظره؟ وكيف يستطيع تحقيق الجودة ولماذا؟
ـ ما هي المنطلقات العقائدية والعرقية والثقافية العلمية والحضارية التي أطرت توجهاته وتصوراته أثناء الترجمة؟
ـ ما هي عناصر التفرد عند غارسيا غوميث؟ وهل كان منسجما مع الطرح والتصور الاسبانيين في مسألة تعامله مع التراث الأندلسي في شموليته؟ ام كان يسير في الاتجاه المعاكس؟
ـ هل ثمة تلاحم وترابط بين المنطلقات والتصورات للترجمات التي أنجزها، دلاليا ومعرفيا ومنهجيا، بحيث كان لها القدرة على إقناع قرائها على تعدد انتماءاتهم واختلاف جنسياتهم وثقافتهم؟
د ـ غارسيا غوميث بين الترجمة والتأويل والتفسير:
الترجمة هي تأويل وتفسير، هما عصب الترجمة ومركزها وليست الترجمة عملية نقل حرفية تلغي روح الأعمال وجوهرها. ص 73
غارسيا غوميث نفسه صرح في مقال نشر بصحيفة المعهد المصري للدراسات الاسلامية بمدريد ، من ترجمة حسين مؤنس بقوله:
ط إنما الترجمة هي في الواقع تأويل وتفسير، وهي أشبه شيء بالجلوس إلى المعزف أمام نوتة موسيقية وعزفها، وقد يقال إن القطعة الموسيقية صامتة على الورق وإنها لا تفهم إلا إذا عزفت، في حين أن المؤلف المنقول ناطق في لغته، ولكن هذا الاعتراض إنما يؤيد ذلك التشبيه ولا يضعفه، ذلك ان المؤلف المنقول وإن كان ناطقا في لغته إلا أنه صامت في غيرها من اللغات، ونحن نترجمه إليها لينطق وبدون ذلك يظل صامتا فيها...فليست هناك ترجمة ما لم يقم المترجم بالمقابلة الالية للألفاظ، غير أن الترجمات العديمة الروح هي التي تتمسك بالناحية الآلية وحدها... في حين أنه لابد كذلك من التجاوز واستعمال لفظ و دارجة عن المعنى تعبيرا دقيقا أو إدخال لقطة مألوفة،... وذلك كله يلقي ضوءا بينا على المعنى العام، لابد من " بث الروح" في النص المترجم". ص 239 " كتاب الأيام ومكانه في تاريخ النثر العربي، لغارسيا غوميث، عن صحيفة المعهد المصري للدراسات الاسلامية بمدريد، المجلد 2 العدد 1و2 السنة 1373 هـ يضيف أيضا :ط إنه لمن الوهم أن نظن أن الترجمات إنما هي مجرد عمليات آلية، وقد يصح هذا في حالة ترجمة كتاب في الجبر مثلا، مع أني أشك في ذلك، ولكنه لا يصدق بحال على ترجمة عمل إبداعي أدبي" نفسه ص 250.
ويستنتج الباحث محمد العمارتي أن غوميث يؤسس للترجمة من خلال إجراءين:
التأويل والتفسير؛
وبما أن التأويل والتفسير هما بحد ذاتهما عملية قراءة وإنتاج جديدة لدلالات النص المترجم، فالترجمة هي انتاج نص جديد مخالف للأصل الذي انطلقت منه، بذلك تكون الترجمة من خلال هذا التصور محاولة لتقديم معرفة للنص الأصلي بلغة جديدة تتلاءم وتصورات ورؤى مبدعه الأول والنص معا. ص 75
كما أن كل ترجمة تنطلق من تأويل أو تفسير هي بالضرورة تخدم النص في أبعاده ومضامينه وتبتعد عن النقل الميكانيكي للألفاظ، وبهذا تكون الترجمة التأويلية التفسيرية بمثابة نقل أو استدعاء لأبعاد النص المترجم وبُناه، ولا تعير اهتماما كبيرا للمستوى اللغوي الضيق فيه. ص 75
ذلك أن اللغة تستمد قوتها الدلالية من سياقاتها التداولية والمقامية، لذا كان غوميث يتصرف في أغلب ترجماته بمقتضى ما يمليه سياقها الوظيفي داخل النص. ص 75
ويدافع غوميث عن اتجاهه هذا قائلا:" ..فلم نسرف في تعليق، وتصرفنا في الترجمة وفي المصطلحات الفنية بحرية كاملة، حتى نقربه للقارئ الاسباني.. بقدر ما استطعنا، ولسنا نظن بعد ذلك أننا فرطنا في شيء" ص 75.
ويلاحظ الدكتور العمارتي أيضا أن الترجمة من خلال مفهومي التأويل والتفسير تؤطرها اعتبارات ثلاثة: الرؤية والكيفية والإجرائية.
حيث تنطلق من رؤية أو زوايا النظر مرسومة سلفا، وتبحث في كيفية خلق التأثير الإيجابي المقنع والفعال في المتلقي عبر ترجمة إجرائية هادفة تخدم النص وتبني عالمه التداولي والدلالي. ص 77
وهذا يساعد على ترقي الترجمة بإنجازها إلى مستوى التداول والانتشار والانفتاح، ويولي الاهتمام الى البعد الصوتي الإجرائي الوظيفي الذي يخلق تأثيرا لدى المتلقي ثقافيا ومعرفيا. ص 77
وبذلك فالترجمة عند غوميث لم تكن مجرد تصور ذهني يرتبط بما هو نظري فيها بل يتعداه إلى إبراز الطاقات الوظيفية، وهو بتركيزه على الترجمة كسلوك وكتطبيق لا كتصور فقط إنما يعكس موقفا نقديا وعلميا منها يتجاوز المستوى النظري الصامت الساكن للنص عبر صورته إلى مستوى أرقى من الفاعلية والأداء والتداول .ص 77
ويخلص الباحث إلى القول أن المفاهيم التي تبناها غوميث حول الترجمة قد مكنته من الرفع من مستوى الكفاءة والأداء للفعل الترجمي عبر مباحث هذا التراث ص 78.
وهذه المفاهيم نفسها لا ترى في وظيفة الترجمة ورسالتها عملا جافا حرفيا ينقل العمل أو النص من لغته الأصلية إلى اللغة المترجم إليها، بعيدا عن الخلفيات المعرفية والملابسات والمعطيات التي أنتجته، بل أنه يعتبرها حوارا بين المستوى الداخلي للنص في انسجامه العضوي والدلالي، والمستوى الخارجي له المتمثل في الاستعانة بالمعلومات المساعدة التي تعين على فهم واستيعاب شمولي قصد ترجمته ترجمة هادفة وظيفية أقرب إلى الوجه الذي أراده له صاحبه، مبدعه الأول، وهذا مطمح ينشده المترجم دائما من هذه العملية. ص 78.
من هنا فالترجمة عند غوميث ليست مجرد ظاهرة لسانية لغوية وتقنية ، المقصود منها نقل نص ما وتحويله إلى لغة أخرى غير لغته الأولى، وإنما لها وظيفة أسمى وهي الوظيفة البلاغية، كما يؤسس في سياق ذلك لحوار علمي جاد بين الثقافات والبن النصوص والرؤى والتصورات المختلفة. ص 82.
هذا الكتاب هو كما أراده له صاحبه ينطلق من تصور علمي أن إقامة معرفة عميقة ودقيقة وشاملة بالحضارة الاسلامية العربية بالأندلس من زاوية نظر عربية أحادية يبقى ناقصا ما لم ينفتح على الآخر، أي ما كتبه المستعرب الإسباني في الموضوع، من أجل بناء معرفة شاملة، وأن مشروع اميليو غاسيا غومث العلمي فيه من الغنى والتنوع والعمق ما يلفت الانتباه، لهذا فدراسة أعمال غوميث المتعددة والانطلاق منها كقاعدة نحو الاهتمام بالاستعراب الاسباني إجراء علمي صائب، إذ يمثل غوميث مفتاح هذا الاستعراب...
فضيلة الوزاني التهامي
نافدة وكاتبة من المغرب




1ـ صدر عن دار جنان للنشر والتوزيع ـ عمان المملكة الأردنية الهاشمية. الطبعة الأولى 2014 م.
2ـ محمد العمارتي، باحث أكاديمي من المملكة المغربية حاصل على الدكتوراه بموضوع (الاستعراب الاسباني ومساهمته في دراسة التراث الأندلسي)، من جامعة عبد المالك السعدي كلية الآداب والعلوم الإنسانية تطوان المغرب.
ـ متخصص في مجال الاستشراق والاستعراب والاستفراق والدراسات الأندلسية.
ـ له :
. الأندلس برؤى استعرابية، دراسة في جهود المستعربين المهتمين بالتراث الأندلسي.
. إميليو غارسيا غوميث شيخ الاستعراب الحديث(قراءة في حياته وأعماله المهتمة بالتراث الأندلسي).



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن