(مسرح الرؤى) بين الحلم والتجريب قراءة فى كتاب -تطورات في الثقافة المسرحية الصورية- للكاتب العراقى والمخرج المسرحي/ عبد الكريم عبود عودة أستاذ المسرح التجريبى بجامعة الموصل .

سحر النحاس
1shrook@gmail.com

2019 / 7 / 29

(مسرح الرؤى) بين الحلم والتجريب
قراءة فى كتاب "تطورات في الثقافة المسرحية الصورية"
للكاتب العراقى والمخرج المسرحي/ عبد الكريم عبود عودة
أستاذ المسرح التجريبى بجامعة الموصل
بقلم : سحر النحاس
كاتبة من مصر


إن الكتابة عملية معقدة، وفيها ما هو عام عند كل الفنانين وفيها ما هو خاص لكل فنان على حدي. وكلما زادت مساحة الخصوصية، واقتربت من المعان الإنسانية العميقة، كلما سما الفن المكتوب وعليه فإن الفردية والذاتية للمبدع هى العنصرالاساسي الذى يجعل هذا الفن يتسم بالاصالة، وهي سمة الإبداع والابتكار.
وفى المبحث الذى نحن بصدده يهدف مسرح الصورة إلى:
مغادرة البديهي والإنحياز إلي المدهش والطليعي؛ الذي يتطلب هدم قوانين المسرح التقليدية، والدخول بالمُشاهد إلى عوالم الحلم الطقوسية بالمُبهِر، والغرائبي والفانتازي، لتشكيل عرضًا مسرحيًا يؤسس إلى فرضية فلسفية على مستو الشكل، والمضمون، حيث يهييء مساحات لتوصيل رسالة فكرية حضارية بأن يعرض مثلا، مأساوية العالم ويطلب من المتلقى، أن يعي تلك المأساوية فالصورة هنا لون من ألوان التواصل مع المتفرج، بإثارتها للمثير والمدهش والعجائبي لحظة اندماجه بالعالم الحُلُمي.
ولغة الصورة كما طرحها الاستاذ الدكتور/ أبو الحسن سلام الأديب والمخرج المسرحي الكبير، وأستاذ المسرح في معهد الفنون المسرحية، فى مقدمة الكتاب "هى مرآة تعكس روح الغائب على شاشة ذهن حاضر، وهى مدد يسد دين فراغ روح متلقيها "
ففي عصر مجتمعاتٍ نضب فيها خيال المبدعين كتابة وأداءا وعرضًا لأدب المسرح،؛ كان لابد من ضرورة إلى وجود ما يسمي "السياحة المسرحية" في عالم الصورة، والتي تحتاج إلى وسائط لامرئية ولا مسموعة، لدحض مخيلة المبدع، وتفجير طاقته الإبداعية من اللاوعي ، فالخيال هنا هو بيت القصيد وهو مفتاح مغاليق بُنى الصورة.

والخــــيال في مجال الإبداع، لا يستبعد المُدركات أو الخبرات السابقة، ولكنه يتحرر في تشكيلها من جديد، كي تخرج على هيئة إبداع أدبى وفني، يعتمد على حدس الفنان، أو نبع إلهامه، وإشراقاته، وتفرد رؤاه لصنع صورة أكثر تجديدًا لكيان متوهم مبني على حقائق، ولكن تفصيلاته من ملكاته الإبداعية؛ ليخلق لنا واقعًا وهميًا مثيرًا وغرائبيًا، وخلق تأويلات تبعث بالنص روح فلسفية تكشف عن جوهر النص، وملامسته للواقع المعاصر، وتحويل المدرك إلى محسوس، في سياقات التشفير والترميز؛ وعليه فإن الممارسة الإخراجية أو (فعل التحول) تعنى تحويل النص السكوني لحركة جمالية متجاوزة لمساحات النقل والتقليد.

والإشكالية في مسرح الصورة، أننا لا يمكننا نقل الحقيقة إلا بعد تحويلها لصور شاعرية بخيال مخرج مُبدع. وتعتبر خاصية (التوليد الدلالي) على المسرح الصوري نقيض للفاعلية السيميائية حيث تعتمد الأخيرة على أهمية الخطاب، بينما تُمثل الدلالات الرمزية، لمخرجوا مسرح الصورة، تخطيا لحدود التقليدية إلى الإبتكار والتجديد بما يتلائم مع العصر ومشكلاته. وتعد بنية المسرح الأدبية التقليدية في مسرح الصورة ميتة، والاشتغال على تحويلها بما يتلائم ومسرح الصورة، يعتمد على فكرة هدم وتفكيك تلك البنية النصية على مستوى المضمون والشكل .

مــغايرة المضمون : تتطلب اختيار نصوص خالدة يقوم فيها المخرج بمغادرة النص فكريا، وايجاد تفاسير وتأويلات معاصرة للوصول إلى مغايرة جمالية ورؤيا جديدة. وجدير بالذكر فى هذا المقام أن نذكر للمخرج القديرصلاح القصب؛ وهو من رواد مسرح الصورة بالعراق؛ رؤي مغايرة لتلك المقولة ففي إحدى تصريحاته الصحفية نوَّه أنه ليس بالضرورة أن يكون النص خالدًا، فأى نص يحمل رؤيا فلسفية تستفزه لتحويل العمل إلى مسرح الصورة يسعى لتجربتها وتعتبر تحديًا لابد من مواجهته.

على مستوى الشكل : يتم مغادرة المتن الحكائي للنص ولغة الحوار، وإيجاد بدائل تُرجِّح الجانب البصري عن الجانب السمعي، ويتم توظيف أدوات المخرج للعرض وتتمثل في (المُمثل والمُفردة والفضاء المكاني).

المُمــثل : طاقة جسد تعبيرية تشكل جملة بصرية، يُحوِّل ذاته إلى علامات تحمل دلالات بلاغية بمعطيات حركية وانتقالات نحتية (كشفرة) تنتقل لوعي المشاهد. وتعد لغة الجسد وانحناءاته؛ أداة هامة لتوصيل رسالة العرض للمتلقي، كأن يتكور على الأرض في دلالة على بدء الخلق مثلا كما فى قصة (الخليقة البابلية)، أو يتمدد على الأرض كنهاية للحياة وهكذا.. فالممثل هنا فكرة تشكيلية مجردة من المشاعر والعواطف، مهمتها اشغال المكان. والتمثيل هنا يعني إبداع أشكال بلاستيكية في المكان، ولقد اعتمد "القصب" في عروضه على المُمثل كونه طاقة إبداعية مخزونة، فيه اكتشاف الأسرار الغامضة لطبيعة الفعل الداخلي والخارجي.
واعتمد المخرج "القصب" على تدريبات شاقة للممثل على المستوى الذهني والجسدي "الفيزيائي" للتوصل إلى ما يُسميه (بالصدفة) في تشكيل الصورة القائمة على الهدم والبناء والتشكيل.
المُــفرَدَة : هى تُشكل عنصرًا حيويًا ومُهمًا من عناصر الصورة ( المِظلة، القماشة الكبيرة المتحركة، التوابيت التي تتحرك على عجلات تحمل شخوصًا ميتة حالمة) تنطق بحقيقة التناقض بين الموت والحياة. (الملك لير ) السلطة والتشرد، والضياع. شواهد قبور، ورمال كرمزية للموت والبعث النارالموقدة، النجوم في سماء العرض، استخدام جلود حيوانات، تماثيل ، أقنعة.. كلها مفردات تحمل ابعاداَ فلسفية أو فكرا يعكس رؤيا مخرج العرض في رسالته البصرية. وتتداخل الأشياء أو المفردات في غير وظائفها وعلاقتها وأحجامها بشيء غرائبي وعجائبي لتكون علاقات سريالية بين المتلقى وتلك المفردات.
المـــكان : هو فضاء مُطلق في مسرح الصورة لا تحده حدود، أو تقف في بعث جغرافيته أى سمات للتقليدية المسرحية، وعليه فإن إفراغ المكان من علاقاته وتوظيفها بلغة رمزية حلمية طقسية، هو ما يهدف إليه مسرح الصورة. لكي يتخلي المتفرج عن نظرته للعالم من خلال موروثاته، وما لُقِّن إياه.

مغادرة النص وتأسيس معطيات ودلالات توليدية مستقلة بسياق العرض المسرحى تنقسم الى ثلاث أنماط:
- النفي الكلى : وفيه يكون المدلول المنتج للصورة مُنافيا تمامًا عن معناه المرجعى للنص .
- النفي المتوازي : ويكون المدلول المنتج مرتبط بمعناه المرجعي في بنية النص ولكنه يأخذ صيغ
تعبيرية صورية تنفى العلاقة التطابقية بين النص والعرض.
- النفي الجزئي : يأخذ المدلول المتحول من بنية النص ويجرى على الجزء الأخر مجموعة من
التغيرات الدلالية ليحدث تقاطعا جزئيا بين النص والعرض

ويُقصد بالهدم والبناء هدم المنطق النصي وبنيته الأسلوبية وتفكيكها وقتل زمنها الساكن، وبناء منطق صوري قائم على تشكيل فضائي، والتقاط بؤرة مركزية فلسفية تنسجم ورؤيا المخرج، وبناء شبكة من العلاقات الصورية اللاوعية تؤدى إلى التشكيل البصري لمفردات العرض وعلاماته.
ليظل المتلقي يملأ فجوات الخطاب الإبداعى ويفك شفرات الصورة بروحه الفلسفية ووعيه الفني في التلقي، أنه متلق غير مستلب الإرادة والفكر، بل له دورًا فاعلًا في اكتمال الرسالة الاتصالية للعرض.
إن العرض المسرحي رسالة متكاملة بين المتفرج وكل مايتلقاه من فكر وأداء وعرض واضاءة. ومؤثرات سمعية وبصرية تهدف في النهاية، لادماج وعي وتفاعل المشاهد بالعرض، وهنا يضع القائم علي المسرح في اعتباره عدم الإفراط في الرمزية والتشفير ليظل التواصل بينه وبين المتلقي في صدام فكري، واذا انقطع هذا التواصل فقد المشاهد حماسة وانفصاله عن روح النص والمتابعة والمتعة. إن بقاء المتفرج على مقعده حتى نهاية العرض، تعني وصول تلك الرسالة ومؤشرعلى نجاح العرض.



وفي الفصل الثاني من الكتاب
تناول الكاتب عبد الكريم عودة معالجات اخراجية معاصرة
(الحركة منطلقات التنظير واجراءات التطبيق)

واختار ثلاث نماذج:

- مسرحية (احتفال تهريجي للسود) للمخرج "سامي عبد الحميد"

وقد اعتمد في الطرح على فرضية حالة من الاتصال بين الممثليين السود وجمهور البيض الذي يؤكد عدم أحقية الأسود بالاتصال بالأبيض إلا من خلال تمثيل دور، وعن طريق ذلك يؤكد (روبرت بروستاين) أن المسرحية عبارة "طقس من طقوس القتل والقربان والثورة يؤديه زنوج متفوقون، ويبلغ هذا الطقس منتهاه في الذبح للجنس الأبيض بكامله" وعند تقديم العرض المسرحي غادر المخرج مسرح العُلبة إلي المسرح الدائري كي يمثل الحلقات الطقسية الأفريقية وأضاف مجموعة من الاكسسوارات والاقنعة والبخور بما يتوافق وطبيعة الاحتفال

- مسرحية ( أحزان مهرج السيرك) للمخرج "صلاح القصب"
الذي تبني شعرالفضاء وجماليته بدلًا من شعر الحوار وذلك من خلال ملئه بالشكل المادي لجسم الممثل مضافا إليه عناصر التشكيل الحركي ومكوناته كالضوء، والخط، واللون كرمزية اسطورية وأثيرية، تُشكل فيه الحركة ركناً أساسيا من أركان الصورة والحلم، المبني على استحضار الذاكرة الجمعية للعناصر المشاركة لانتاج الصورة (ذاكرة المؤلف، ذاكرة الممثل، ذاكرة المتفرج ).
- مسرحية (تداخلات الفرح والحزن) للمخرج "عوني كرومي"

الذي اعتمد عرضه على تأسيس سمعي ومرئي. ويعتمد على استخدام وسائط متنوعة ومكونة من شتي عناصر التجسيد المادية علي مستوى الالتقاط السمعي والبصري، جاعلًا منها علامات يعتمدها في توصيل رسالته الفنية، إلى المتفرج الذي يعده عنصرا فاعلًا في هذا التأسيس. فالعرض يمثل جدلًا بين الانسان وذاته، والانسان ومجتمعه.

- وفى النهاية سيبقى مسرح الصورة في حدود التجربة والتجريب مثال لمسرح حالم طقسي متطور يعلن مخرجه في كل زمان أن مقومات هذا المسرح (القدسية ) ويظل مسرح الرؤى حلما متجددًا ابداعيًا تجريبيًا .

سحر النحاس



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن