لماذا لابدّ للرأسمالية أن تزول؟ (6)

محمد يعقوب الهنداوي
azizmy@yahoo.co.uk

2019 / 7 / 28

(6)

تمنح الرأسمالية الأولوية للرأسمال والربح على حساب المجتمع البشري وتنميته وتطوره الايجابي مما يؤدي الى عدد من النتائج المحتومة منها الاستلاب والاستقطاب والتسليع:

1. الاستلاب:

تؤدي أساليب الإنتاج الرأسمالي الى خلق قطيعة وانفصام بين الانسان وما ينتجه.

ولا تقتصر هذه القطيعة على انعدام أية لذة في الإنتاج أو متعة وانسجام في العملية الإنتاجية، بل يتحول العمل فيها الى سلسلة من الحركات والفعاليات الرتيبة التي تستهدف استحصال الحد الأقصى من الطاقة العضلية والتركيز الفكري للإنسان مما يستهلكه ويستنفذ طاقته الإبداعية والجسدية تماما، وتحوّل البضاعة الى سيّد أعلى من الانسان المنتج لها ويغدو الفرد عبدا للبضاعة التي تأخذ الأولوية عليه في كل شيء، بحيث يصبح العامل مجرد رقم لا قيمة له ضمن أعداد من الأفراد الذين اذا مات أحدهم أو مرض أو طرد، يتم استبداله فورا من دون أن يؤثر ذلك بأية صورة من الصور على العملية الإنتاجية، ولا دور ولا موقع لأية مشاعر انسانية في هذه العملية.

وستؤدي علاقة الاستلاب هذه الى الاغتراب بين الانسان وعمله الذي ينتهي بالفرد الى أداء عمل روتيني رتيب واحد يفتقد الى الروح والحس الإنساني، ويتسبب هذا بالكثير من المشاكل العصبية والنفسية التي تستهلك طاقة الانسان وقدراته الحياتية أيضا.

وتزيد الرأسمالية من تقسيم العمل على الصعيد العالمي لتجعل الكثير من البلدان، وخصوصا في الشرق الأوسط وافريقيا وآسيا الوسطى وأمريكا اللاتينية، مجرد بلدان مصدّرة للمواد الخام، وتعتمد في المقابل في كل احتياجاتها الحياتية على الاستيراد.

ولا أدلّ على ذلك من مثال العراق الذي يستورد القمح من استراليا والألبان من السعودية والمواد الانشائية من تركيا والحبوب الغذائية التالفة من ايران والماء من الكويت ودول الخليج الأخرى والسيارات من كل مكان، وأردأ أنواع الخضر والفواكه من الأردن، وفقد حتى سمعته ومكانته التاريخية كبلد زراعي ومنتج للتمور حيث تتفوق عليه فيها الآن كل من ايران والسعودية وتونس والجزائر وأمريكا وبلدان أخرى، ولم يعد العراق بلد الرافدين العظيمين طبعا مع ما يعانيه من شحّ في المياه يزيد من اعتماده في غذائه وأهم حاجاته الحيوية على الاستيراد، بينما يقبع الملايين من شبابه بلا عمل بانتظار توظيفهم من قبل مافيات الأحزاب التي تزجّهم في معاركها القذرة الهادفة الى إلحاق المزيد من الخراب بالبلاد وأهلها.

2. الاستقطاب:

يحصل الاستقطاب على مستويين داخلي وخارجي:

فعلى الصعيد الداخلي ينشطر المجتمع الى شطرين أحدهما قلة قليلة من الأفراد تمتلك كل ثروات المجتمع والسلطة والمؤسسات ورأس المال ووسائل الإنتاج، وتمتلك القدرة على تسخير وتحريك كل شيء لخدمة مصالحها بما في ذلك وضع السياسات والأنظمة والقوانين وشن الحروب وعقد المعاهدات وترتيب الصفقات.

بينما يضم الشطر الثاني الغالبية العظمى من المجتمع التي لا تمتلك إلا كفاف يومها وتضطر الى الكد والكدح كالعبيد تماما لأجل ضمان ديمومة بقائها على قيد الحياة.

وعلى المستوى الخارجي ينقسم العالم الى مجموعة صغيرة من بلدان المراكز الرأسمالية المتقدمة اقتصاديا وخدميا، تعيش شعوبها في بحبوحة نسبية وتتوفر لديها الخدمات والضمانات الأساسية للحياة، رغم فقر طبقتها العاملة بالمقارنة مع أصحاب رؤوس الأموال في مجتمعاتها ذاتها، مقابل الغالبية الساحقة من البشرية التي تعيش في بلدان الأطراف التابعة المحرومة من كل شيء تقريبا، والمحكومة من قبل حفنة من وكلاء بلدان المركز الذي يتحكمون بمقدرات هذه البلدان وشعوبها ويكون دورهم الأساس تسهيل استعمار ونهب ثرواتها وتركيع شعوبها واخضاعها للهيمنة الأجنبية.

وفي حالات السلم والحياة العادية يلعب هؤلاء الوكلاء دور الجلاد والدكتاتور المتسلط الذي يتحكم بمصائر هذه الشعوب ويمارس ابتزازه واستبداده عليها باستخدام حفنة من المرتزقة والمنتفعين.

أما حين تقرر المراكز الرأسمالية شن الحروب الإقليمية أو الدولية أو انتاج سياسات معينة، فيكون دور هؤلاء الوكلاء السمع والطاعة وتنفيذ ارادات تلك القوى الأجنبية وسَوْق قطعان شبيبة هذه الشعوب الى المجازر وتسخير كل إمكانات هذه البلدان لخدمة البرامج العسكرية للدول المتسيّدة صاحبة القرار.

ويوما بعد يوم تزداد الهوة بين بلدان المركز والأطراف بحكم ما يتحقق من قفزات تكنولوجية وتطور في وسائل واساليب الإنتاج تجعل المردود المادي للعامل المنتج في البلدان التابعة يقل يوما بعد آخر عن المردود المادي للعامل المنتج في بلدان المركز المتقدمة.

وعلى سبيل المثال فان ما يتقاضاه العامل في رومانيا في شهر كامل لا يعادل ما يتقاضاه العامل الفرنسي أو الأمريكي في يوم واحد فقط. وكلنا نذكر رواتب العراقيين واجورهم أيام النظام البعثي حين كان أولياء الأمور مضطرين للعمل في أكثر من وظيفة لسد رمق أطفالهم مع تحمّل كل صنوف الذل والمهانة، ولم يكن راتب المعلم يكفي لدفع أجرة التكسي مثلا.

وبينما تبلغ قيمة بعض الشركات الرأسمالية مئات المليارات من الدولارات، حيث بلغت قيمة شركة أبل وشركة أمازون الأمريكيتين مثلا أكثر من ترليون دولار لكل منهما في الفترة الأخيرة، نجد أن أكثر من تسعين بالمائة من البيوت في الهند ليس فيها حتى مراحيض عادية ويضطر أهلها الى قضاء حاجتهم في العراء مع كل ما يسببه ذلك من انتشار الأمراض والأوبئة.

وتفتقر عشرات آلاف القرى في الصين الى دروب مشاة عادية يمكن لأهلها استخدامها في الذهاب والإياب حتى في أكثر المناطق الجبلية وعورة وخطورة، ناهيكم عن الخدمات الأساسية كالماء والكهرباء والاتصالات وغيرها، علما ان نفوس هذا الجزء من العالم (الصين والهند وباكستان ودول جنوب شرقي آسيا) يبلغ أكثر من ثلثي عدد نفوس البشرية جمعاء أي أكثر من أربعة مليارات ونصف المليار انسان.

ويعاني الكثير من سكان أمريكا اللاتينية درجات حرمان مشابهة، بينما أحوال الأفارقة أسوأ بكثير، ويبلغ عدد سكان افريقيا لوحدها أكثر من مليار انسان كلهم تقريبا يعيشون الفاقة والحرمان وانعدام الأمل، بينما يعيش في أمريكا اللاتينية حوالي نصف مليار نسمة.

ويأخذ الاستقطاب أيضا شكل النفاق الصريح الذي تمارسه الرأسمالية بلا خجل، حيث تعيش هذه الشعوب ظروفا بالغة البؤس والتعاسة والحرمانات بينما تنعم الفئات الحاكمة في بلدانها ذاتها بكل منجزات الحضارة الحديثة وتسهيلات الحياة في قصور شامخة تتمتع بكل ما يخطر على البال من وسائل الرفاهية والبطر.

وفي العراق، كانت قصور صدام التكريتي "تزهو بالنصر"، كما اعتاد البعثيون على القول حتى عندما استسلموا وسلّموا كل شيء للأمريكان والكويتيين في خيمة صفوان، بينما كان العراقي العادي لا يكاد يعرف طعم الفاكهة أو الحلويات أو أي ترف. واضطر بعض الأدباء والمفكرين والفنانين الى بيع حتى كتبهم وأبواب بيوتهم لسد رمق العيش. وكان شباب العراق يذهبون للعمل في الأردن حيث يقضون شهورا في الكدح والذل لينتهي رب العمل الأردني بطردهم بلا أجر بل وتهديدهم بتسليمهم لشرطة التسفيرات إذا ألحّوا على تقاضي حقوقهم.

وفي الهند، وهي دولة نووية وتعتبر من أكثر بلدان العالم انتاجا للبرامج الالكترونية والمساهمة بتطوير التقنيات الحديثة، تحرص المنظومة الحاكمة على إبقاء الناس في حضيض التخلف والانحطاط حيث تمنع القبض على الأبقار والقرود "المقدسة" التي تعيث خرابا في المدن والأحياء والمناطق العامة وتبول وتتغوط في أي مكان، كما تمنع حبس أو ذبح الأبقار "المقدسة" ولا توفر أية توعية بصدد مخاطر الاغتسال ببولها أو الشرب منه، وهو طقس شائع في الهند، تماما كشرب بول البعير في السعودية ومحميات الخليج ولدى الكثير من المصريين وغيرهم من المسلمين.

ويموت الملايين من الأطفال الهنود بالأوبئة والأمراض من دون اهتمام من السلطات بإيجاد أي علاج. وربما تكفي الاشارة الى أن أكثر من مائة ألف من الهنود يموتون سنويا بعضّات الأفاعي ولسع العقارب وغيرها ولا يستطيعون الحصول على علاج طبي مناسب لأنهم يعيشون ظروفا في منتهى البهيمية والبؤس والقذارة، بينما تعتبر الهند من أكبر الدول المنتجة للأدوية وتوفير العلاج الطبي.

وللمقارنة يمكننا أيضا النظر الى مدينة البصرة العراقية التي تنتج حوالي أربعة ملايين برميل من النفط يوميا بقيمة تقرب من ربع مليار دولار كل يوم، لكنها محرومة من الماء الصافي ومن أبسط الخدمات التي لا يكلف توفيرها شيئا ذا قيمة بالقياس الى صفقات الفساد المستشرية وحجم السرقات التي تشهدها البلاد.

ومن الناحية الأخرى، فان الهند التي تنتج مئات الأفلام السينمائية سنويا وتقارن نفسها بهوليوود أمريكا وتباهي بتطورها (في الهند ثمة مدينة كاملة للإنتاج السينمائي يطلقون عليها "بوليوود")، تشهد أكثر من مائة ألف حالة اغتصاب وقتل للنساء كل عام، وكثيرا ما تكون ضحايا الاغتصاب والقتل والتشويه والحرق بنات صغيرات بعمر لا يزيد عن خمسة أو ستة أعوام.

وتمتنع المحاكم عن النظر في هذه القضايا بحجة حماية سمعة الأسرة بموجب الأعراف والتقاليد، والسبب الحقيقي هو علاقة مرتكبي هذه الجرائم والاعتداءات بالأحزاب الحاكمة والقوى المتنفذة وأصحاب الأموال.

ومثال آخر على ذلك يتجلى في أفغانستان وتعليم البنات، فبينما تنشط الدعاية الغربية في فضح ممارسات الحكومة الإيرانية (التي تنافس السعودية في رجعيتها الدينية) مثلا في فرض الحجاب على النساء في الاماكن العامة، نجدها تدعم ومنذ أكثر من ربع قرن ممارسات طالبان وبقية القوى الظلامية الأخرى في أفغانستان التي تفرض على الفتيات الختان والحجاب وتزويج القاصرات وتمنعهن من الذهاب الى المدارس، بينما تتمتع الطبقات المترفة بآخر إصدارات التكنولوجيا والتسهيلات الحضارية من سيارات ومعدات منزلية وترفيهية وغيرها من وسائل الراحة والترف.


كما تمارس منظومة الإعلام الغربي الديمقراطي المسخ الدور المنافق نفسه حين تقيم الدنيا ولا تقعدها عن أحقيّة أو عدم أحقيّة المرأة من أصول اسلامية بارتداء البرقع أو النقاب القميء في مجتمع أوروبي متحرر ومتنور جاءته هي وتعيش فيه باختيارها، مقابل الصمت الرهيب لعشرات السنين عن انتهاك حقوق الانسان عامة والمرأة والطفولة بشكل خاص في المجتمعات الخليجية التي يعتبرها النظام الرأسمالي محميات مشمولة بالجملة بحمايته ورعايته وتواطئه.


* * *



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن