شام-الفصل الرابع والعشرون

منير المجيد
moniralmajid@gmail.com

2019 / 7 / 24

استدنت من مالكة الغرفة وديعة مبلغ خمسمائة ليرة، كانت كافية للبطاقة الطلابية الرخيصة، إلى زيويخ، على خطوط أليتاليا، حيث توقفنا في روما مدة ساعتين. وفي جيوبنا، منذر وأنا، القليل من الفرنكات السويسرية.

في مطار زيوريخ أدخلو منذر دون تفتيش، ووقف على مسافة وعلى وجهه علامة سخرية ماكرة، بينما انهمك رجلا الجمارك بتفتيش حقيبتي كالعقبان، لأنني شرق أوسطي السحنة، وليس أحمر الشعر والوجه مثل منذر.
مجرّد إستنتاج.

البعض من أصدقاء منذر كانوا هناك طيلة أشهر الصيف الفائت، وعملوا بأجور مغرية، وتمتعوا بإجازة بديعة، في نفس الوقت.
هكذا كانت خطة منذر التي تحمّست لها أيضاً، والتي دفعت بنا إلى تلك المدينة السويسرية النظيفة والمُتّسقة.

كان في جيبه عنوان فندق شبيبة (يوث هوستيل)، توجهنا إليه، وهناك دسّوا في أيدينا ورقة تعليمات صارمة، منها: يُمنع الإتصال الجنسي منعاً باتاً داخل البناء.
الفندق كان عبارة عن مهاجع بأسّرة مزدوجة للفتيات والفتيان معاً.

صباح اليوم الثاني، وجدنا مكتب العمل، ووقفنا في صف طويل سمعنا منه لغات عديدة، تُمثّل نصف شعوب الكرة الأرضية.
سجّلنا إسمينا وزوّدونا ببطاقات عالمية للطلبة، وطلبوا منّا أن نعود بعد يومين.
في محطة القطارات الرئيسية (بانهوف) اشتريت كّراساً للرسم وبضع أقلام، ثم تناولنا السباكيتي في مطعم إيطالي.
«متْ زاوس؟»، سألت المرأة المليئة التي لها عينا كلب لطيف.

سنأكل هذا السباكيتي كل يوم في نفس المطعم طيلة إقامتنا في زيوريخ، لأنه كان أرخص وجبة في المدينة.
في الأيام الأولى كنّا نأكله مع المرق (زاوس) وسلطة خضار، وحينما شحّت النقود ألغينا السلطة، وكنت أقول لها «لا شكراً» للمرق، لكنها، تلك المرأة المليئة، المليئة بكل ما في العالم من حنان، كانت تنظر حواليها، ثم تصب المرق عليه تعاطفاً وشفقةً، حين ترانا نعّد الفرنكات القليلة.

نذهب بعدها، بجولة منهكة، عابرين «بانهوفپلاتز» باتجاه بحيرة زيوريخ على الجانب الظليل المُشجر بكثافة من جادة الجنرال غويسان.
أو إلى الجبال المحيطة بالمدينة، للإحساس بالنشوة، ورؤية الغابات المثقلة بالأشجار والنباتات، التي كانت السحب المُحمّلة بالرطوبة، على الدوام، تغلف قممها، وكنّا نحسّ بملامساتها على جلودنا.

كنت أحمل معي كُرّاسي وأقلام الرصاص، وحينما قاربت نقودنا على النفاذ، عرضتُ على بعض المارة رسم بورتريهاتهم.

قلة منهم وافقوا، ولأني لم أستطع أن أطلب منهم مقابلاً مالياً، خجلاً على الأغلب، كانوا يأخذون رسوماتهم ويتشكرونني عشر مرات.

فتاة شابة عرفت، بحدسها السويسري الدقيق، أننا كنّا في ورطة، فقالت أن لا مال لديها، لكنها ستكون سعيدة بتقديم وجبة عشاء في شقتها القريبة.
حالاً، صار منذر يخطط لليلة حمراء في أحضان الفتاة، بينما طلبتُ منه أن يتصرف بتحضّر وهدّدته بعواقب.
في شقتها البسيطة التي كانت تشبه شقة أية طالبة أو طالب في العالم، أحضرت لنا، من المطبخ، طبقاً كبيراً من السباكيتي، تبادلنا النظرات، منذر وأنا، ابتسمنا، ثم انكببنا على تناول العشاء.

لم يجدوا لنا عملاً في مكتب العمل بعد يومين، ولا بعد أسبوع.
قبل أن يُطفأ ضوء المهجع، وبعد أن صارت السباكيتي كلمة تشعرنا بالمغص والإنقباض، تحدثت مع شابتين نرويجيتين، كانتا في رحلة «انتر-ريل» حول أوروبا، بعد أن تجاوزتا المرحلة الثانوية.

وعلى مائدة الإفطار، صباح اليوم التالي، جلستا معنا. منذر اختار حالاً ذات الشعر الداكن، وصرنا نخرج معاً.

لم تكن بشرة النرويجية الثانية الحليبية المزرقّة، ولا شعرها الأصهب ولا صلابة نهديها الفتيين، كافية للإيقاع بي.

اشتهيتها بكل جنوني البهيمي، أعترف، لكنني تمنّعت كناسك ولجمت رغباتي، فأنا عندي دمشقية منحتها حبي حتى آخر مليغرام. بينما كان منذر يتودّد إلى صديقتها، وكنت أقوم بدور المترجم، فمنذر بانكليزيته التي يحملها من المدرسة لم تسعفه إلا في بضع كلمات.

كان يغازلها ويدخل لسانه في فمها ويغمض عينيه، وأحياناً يقرأ لها قصائد حب كنت أجد صعوبة بالغة في ترجمتها. لكنني استطعت ترجمة «أصابع الببّو يا خيار» بسهولة، وهو يمسك بيديها، فسحبتهما وأنفجرت غضباً متمتمة كلمات نرويجية، بينما دمُعت عينا صديقتها من كثرة الضحك.
تطلّلع منذر إلي وكأنه يسأل «ماذا قلتَ لها؟». منذر! الخيار في هذه البلاد طوله نصف متر. وضّحت له.
أكملت الفتاتان النرويجيتان رحلتهما إلى باريس، وودعناهما في المحطة، التي صرنا نعرف كل تفاصيلها وحوانيتها، وكان منذر على وشك البكاء وهو يلّوح بيده ويحاول اللحاق بالقطار، كما في الأفلام الدرامية.

بما تبقي معي من الفرنكات السويسرية، هاتفت أخي في كوبنهاغن، وسمعت صوت شهقة. ماذا تفعل في زيوريخ؟ هل فقدت عقلك؟ لماذا لم أعرف شيئاً عن هذه الخطّة؟

ذهبت إلى القنصلية الدانماركية، وأعطوني فيزا مباشرة، عندما لاحظوا أنني كنت هناك عدّة مرات خلال السنوات القليلة الماضية.

في اليوم الثاني، كانت بطاقة الطائرة على الخطوط السويسرية بإنتظاري في مكتب المبيعات القريب من المحطة الرئيسية. وبعدها بأربع ساعات كنت أحطّ في مطار كوبنهاغن، مُخلّفاً منذر وحيداً في زيوريخ، حيث كان ينتظر حوالة مالية آتية من أحد المعارف من ألمانيا.

لحق بي منذر إلى كوبنهاغن حينما وصلته الحوالة، وبعد أن نام ليلتين جائعاً على مقاعد في حدائق المدينة، وانصرف إلى زيارة مصانع الألمنيوم يرافقه أخي لسهولة الإتصال.
الألمنيوم، كان بدعة جديدة وحارّة في الشرق الأوسط.

عدت إلى دمشق، تاركاً منذر ورائي مرّة اخرى، وكنت أتحرّق لمقابلة سميّة، وللذهاب إلى قصر البلّلور لاحتساء العرق، ذلك السمّ الذي يُصيبنا بالجنون.

وحين عاد منذر إلى دمشق، كان مُحمّلاً بكومة منشورات وكتيبات ونماذج ألمنيوم.

تزوج بعد شهرين، وجرت له عراضة ميدانية شامية، لم يكلف نفسه مشقة دعوتي إليها.
ماذا يفعل قامشلاوي في عرس شامي، على أية حال؟ لم أعاتبه.

سافر إلى السعودية، تاركاً الدراسة في الكلية، وتشارك مع سعوديين في افتتاح معمل يُنتج شبابيك وأبواب من الألمنيوم، ولم أسمع منه بعد ذلك أي شيء.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن