الفكر التنويري بين العودة المشروطة وبين التخلي عن نقطة البداية

عباس علي العلي
fail959@hotmail.com

2019 / 6 / 25

الفكر التنويري بين العودة المشروطة وبين التخلي عن نقطة البداية


هناك أتجاهات عديدة في الثقافة الفكرية التنويرية تعتمد خطين من الاستراتيجيات ,الأولى تجنح إلى العودة للمربع الأول ومن ثم تتبع الميزان المنطقي الديني الذي خطه أصحاب الرسالات دون الأعتماد على الأجتهاد في مورد النص أو في خلق نصوص تعريفية أو تفسيرية للنص تخرجه من دائرة القصد التام إلى تعدد المقاصد , أي هدم نظرية الظن والأحتمال الغالبة في تأويل وتفسير وشرح النصوص الدينية , هذه المدرسة ما زالت تؤمن بأن الطريق لا بد أن يقطع من أوله ولكن وفق منهجية نقدية جديدة تخرج الدين من الوصاية البشرية الحسية والمنفعية لتعيده لدائرة الفعل العقلي المجرد .
في هذه الرؤية هناك تدارك لحقيقتين وهما:
• الرجوع للنقطة صفر تمثل عودة لتجديد القراءة بعيدا عن الانحرافات والتداخلات التي حرفت الفكرة وأضاعت المقاصد، وبالتالي فهي حريصة أولا على تجنب الخطأ السابق، وثانيا حريصة على التعامل مع النص بروح الزمن الحالي كي تستقيم الرؤية وفقا لعوامل التعاطي الصحيح.
• في الرجوع للبداية يكون بالإمكان هناك أن يرسم القارئ حدود القراءة خارج المدى المنظور الذي قرأ فيه أسلافه ذات النص، مضافا لها أن الرؤية الواسعة والبعيدة تمنحك خيارات أكبر في توجيه القراءة دون أن تكون ملزما بما في البيئة التي نزل فيها النص من التزامات، وهذا يقودنا إلى تحرير النص من مقتضيات القراءة التقليدية والتوجه نحو القراءة النقدية العلمية.
في كلا الحالتين تمثل العودة تصحيح لمعطيات ووسائل ومناهج معالجة النص ودراسته وفق محددات قادرة على التخلص من عبء الزمان والمكان محدودية المعرفة التي تعاملت مع النص سابقا، هذا الحال بإمكانه أن يخرج الدين كفكر من صيغة الأمر الضبطي الفردي والجماعي إلى دائرة الخطاب التكويني، الخطاب الذي يعتمد مركزية العقل وأساسيته في الاستجابة والتغيير والتحول.
أما الاستراتيجية الأخرى والتي تتبنى القطيعة مع كل الإرث الفكري والماضوي سواء أكانت قراءات أو نتائج والشروع بالطلاق الخلعي التام معها، وتبني خيار التجديد دون الإلتزام بما تركه الماضي جيده وطالحه والخروج برؤية حداثية يهمها من الفكرة ما تقدم للغد وليس ما يتبناه الواقع من موجبات آنية، القراءة الحداثية هنا تستخدم كل الفضاءات المفتوحة ولتفتح كل المغاليق أمام النص لتستخرج منها ما يتناسب مع حركة الزمن ويتماشى معه حتى بأستخدام أشد أساليب النقد والمحاكمة العقلية.
هذه الاستراتيجية مهمتها أن يكون النص أو الفكرة تدور بهدف مهم تتبناه إن الدين ككل الفكر والرؤى هدفه الإنسان وليس غير الإنسان وتتبنى شعار رفعه الدين سابقا وهو تكريم الإنسان من خلال تسخير الموجودات الكونية له لينطلق لعالم الكمال النسبي لينال محل الأخيرية والأحسنية في الوجود، هذه الحقيقية تؤسس لحداثية القراءة وتتماهى مع غائيات الدين الكلية وهدف الرب من الخلق (لتعارفوا) وهنا التعارف هو التواصل والمشاركة والتكامل ,ولا تتقاطع كهدف إلا مع الرؤية والفكر الكهنوتي الذي يرى في قداسة النص والتدين فوق حق وقداسة الإنسان.
إن الإشكالية في الرؤية الأولى تتمثل أولا بأن استنهاض الفكر الديني من تأريخه المثقل بالزيف والتحريف والتخريب واللعب بالنصوص والتأسيس السياسي والأجتماعي للكثير من الأحكام ,سيكون مستحيلا أن يتخلص من هذه الإشكاليات لمجرد الرغبة في التغيير والشروع على هدم بناء في أجزاء كثيره منه متماسك وصعب الاختراق ,ليس لأنه مناسب ولكن لأن التجربة الدينية في حد ذاتها كانت لا تؤمن بهذا الحل , تعاقب الديانات وعدم تجديد الدين بصيغته الأولى مثال مهم على أستحالة التصحيح من نقطة البداية , هكذا كان الدين المسيحي ثورة بكل القيم الأخلاقية على اليهودية التي حرفها الكهنوت وحجرها في حدود ظاهرة التدين .
الإسلام كدين وإن كان لا ينتمي ظرفيا وموضوعيا لنفس البيئة الفكرية التي كانت عليها المسيحية ومن قبلها اليهودية، لكنه ينتمي لنفس الفكرة والآلية والمنهج، عندما جاء ليؤسس لفكر أخر لم يبادر بالعودة لنقطة الصفر بل بدأ جديدا وتحديثا للمعطيات والمقدمات التي كانت تتناقض حتى مع زمنها ومكانها ليعلن أن الإسلام ينسخ ما قبله، أي أن قراءة الإسلام للدين قراءة لا تعود لماضي الدين لتؤسس عليه بل جاءت محاولة تجديد لمفاصل حركية مهمة في منحنى الدين والتدين العقلي.
من هنا ستكون للرؤية والمنهج الثاني فرصة ولو أفتراضيا تمتلك كل العلل بأن تتحول لتجربة حقيقية عندما يفهم الدارس والناقد الفكري أن التأسيس على نقطة ماضوية يعني البناء على قبر أجوف قد ينار في أي لحظة , ولا بد من التأسيس على أرضية صالحة وجديدة وغير حاملة للفايروس المدمر الأول , هنا يمكننا أن نقول إن عوامل التحديث هي الأصوب وإن كانت هي الأصعب لكنها تبقى الخيار العلمي والعملي لمن يريد أن يعيد الدين كفكر نهضوي تنويري إلى دائرة الفعل العقلي , ويتماهى مع العصر أولا ومع غائية الدين ثانيا وهذا ما يشكل حلا عقلانيا لإشكاليات الإنسان مع إشكاليات فهم الدين ودوره الوجودي في الحياة.
إنه خيار الطلاق أذن هو من يمتلك الفرصة الراجحة والأكيدة لمستقبل الدين ولمستقبل الإنسان الذي لا يمكنه أن يتماشى ماديا مع الوجود دون الشعور بالجزء المثالي منه في الحياة، طلاق لا يستهدف الدين ولا يقاطعه ولا يتقاطع مع الطبيعة التكوينية للإنسان ولكنها يعيد العقل إلى دائرة الدين، العقل الذي يتسلح بالشجاعة والواقعية المتحركة الباحثة عن أستحقاقات الإنسان للحرية.
هذا العقل لا يمكنه المسامحة أو التساهل مع الذي يجعلون الدين حلقة من سلسلة حلقات تقيد الإنسان عن الحركة وتجعله أسير فكر الأخر مهما أمتلك الأخر من سعة في العلم أو الرؤية لأن قاعدة فوق كل ذي علم عليم قاعدة صالحة دوما لأن تثبت وجودها الواقعي في كل المجالات التي يكون فيها العقل هو الناطق الرسمي عن الوجود.
بقى هناك إشكالية مهمة ولا بد من التطرق لها ولو من باب التعرف على مستلزمات التحول والتغيير , وهي مدى إمكانية العقل المتدين على التوافق مع نتائج الطلاق ومدى قدرته على القبول به كحل ؟, الصحيح أننا عندما نتحرك نحو التغيير لا نتأمل من المتدين الطبيعي ولا الكهنوتي أنه سيوافق على ما يجري , بل علينا أن نتوقع المزيد من الأعتراض والتعارض , ولكن ما يمكننا أن نفعله أن نتجاهل هذه الأصوات ونمضي في البناء الجديد الذي سيكون قادرا على إفراز قوة تطبيع حقيقية عندما يأت بالبديل العقلاني البديل الذي يعيد الإنسان إلى دائرة التكريم والأحترام والقدسية الطبيعية.
من خلال هذا القول يمكننا أيضا أن ندرس واقع الرسالات وكيفية تعامل الرسل مع واقعهم ومنهج التغيير ليس من خلال التأمل والتنظير الإنشائي العاطفي، بل بمنهج فاحص ومتتبع للحركة التاريخية التغييرية دون أن نفرض على واقع الدراسة ملامح الأعجاب والفخر، الرسل لم يكونوا طلاب مفاخرة بل كانوا طلاب تغيير ورسل مقاومة وعمل، الدراسة التاريخية هنا لا تنبش الماضي لتستخرج قوانين بل دراسة مقارنة والبحث عن جوهرية الفعل عندما يكون محركا مهما وأصيلا في التغيير.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن