التغيير والطغمة العسكرية !

عبدالرحمن مطر
al.matar60@hotmail.com

2019 / 6 / 18

تدّخل العسكر في عالمنا العربي اليوم، لم يأت سوى بمزيد من التعقيد للمشكلات السياسية، المتصلة بالعلاقة بين المجتمع والسلطة. والعسكر ليس جزءاً من مظاهر السلطة فحسب، وأدواتها، بل هو ذراعها الأهم، والذي يمنحها قوة فرض سياساتها على المجتمعات التي تتحكم بها، خاصة في ظل عدم الإلتزام بالدستور والقوانين الناظمة لإدارة الدولة. مثلما هي القوة التي تمكِّن للسلطة مصادرة مؤسسات الدولة وتعطيل دورها ووظائفها. لم تساهم في انتاج نُخب وطنية حاكمة، تستند الى قوة القانون، ولم تكن في يوم من الأيام - وفقاً لتجاربنا في المنطقة العربية - قوة فاعلة في الإستقرار، أو حل المشكلات الناجمة عن تمسك الأنظمة بسلطاتها، وتجاوز محددات القانون الى المطلق والمؤبد. الأمثلة على قارعة الطريق: في سوريا والعراق ومصر، وليبيا والجزائر، وأخيراً السودان.
قادت مرحلة الاستقلال وبناء الدولة الوطنية، منذ منتصف القرن الماضي، الى بروز دور مؤثر للعسكر لمرحلة ما بعد الاحتلالات، ولعبت قوى الجيش، أدوراً رئيسة في تكوين السلطات الحاكمة، وكانت الثكنات هي من تقودها، بشكل مباشر أو خفيّ، وتتحكم في صناعة القرار الوطني، وتتدخل في إدارة مصالح الدولة وفي توجيه سياساتها الداخلية والخارجية. طوال ما يقارب من ثمانين عاماً، ما يزال الجيش يقوم بهذا الدور، في كل من سوريا والعراق ومصر والجزائر بصورة خاصة، بما لها من مكانة ودور في العالم العربي، وعلاقاتها بالتأثيرات والمصالح والسياسات الإقليمية والدولية في المنطقة.
كان الانقلاب، أحد مظاهر الاستيلاء على السلطة، كأسلوب تقليدي للعسكر، إلى ان انحسر بصورة ملحوظة منذ مطلع ثمنانيات القرن الماضي، عبر تهديد دولي حدّ من الاعتراف بالسلطات الناتجة عن تغيير السلطة بالقوة. لكن ذلك، كان على الدوام، مرتبطاً بمصالح القوى الدولية الكبرى، خاصة الولايات المتحدة، التي اتبعت سياسة احتواء الأنظمة الحاكمة، بصورة أو أخرى في المنظقة العربية.
في المحصلة، لم تستطع الأنظمة العسكرية الحاكمة، الذهاب الى تغيير ديمقراطي، يتيح للمؤسسات المدنية، أداء دورها الطبيعي في إدارة شؤون الدول دستورياً. ولم تساهم – أو تسمح - في خلق بيئة طبيعية ملائمة لتطور العمل السياسي والنهوض بالمجتمع المدني. بل على العكس من ذلك، أجهضت المشروعات السياسية النهضوية، وحدّت من الحراك السياسي، وسيطرت على المؤسسات العامة بما فيها الجامعية والتعليمية والثقافية، التي يمكن لها أن تقود الى انتاج المعرفة. ويُحسب لها أنها جميعها فرضت حالة الطوارئ، بهدف خنق المجتمع وإخضاعه، ولكن بحجة الحفاظ على الدولة وحمايتها من الأخطار الخارجية.
لقد تحولت الأنظمة العسكرية الحاكمة، إلى طغمة فاشية غاشمة، بددت أحلام المجتمعات في تعزيز الاستقلال، وفي بناء الدولة الوطنية، وفي تحقيق تنمية مستدامة. لقد أجهضت كل مشروعات التنمية التي أنتجها المجتمع في ظلّها. لم تتحقق تلك التطورات بمنّة من الطغمة الحاكمة، ولكن بفعل المجتمع، ونتاجه. ثم لم تلبث تلك الأنظمة أن أحرقت كل شئ، عندما واجهتها استحقاقات التغيير الحتمي، في المجتمعات التي تحكمها ( سوريا وليبيا كمثال حيّ ). كان التحول الى استبدادية الفرد، واحدة من أشد التغيرات التي قادت الى كوارث مهولة في العالم العربي، فمعها لم تعد هناك نُخب تُسند إليها أدوار اجتماعية او سياسية، من شانها رسم استراتيجيات الدولة، وإدارة المؤسسات التي تحول الى مرافق تتمظهر الدولة من خلالها، دونما دور او قيمة في ظل الحاكم الأوحد.
وقد لقيت الطبقة العسكرية الحاكمة، عبر الفرد القائد، دعماً كبيراُ، من القوى الدولية، ذات الديمقراطيات "المدرسية" الرائدة في مجتمعاتها، واعترفت بالديكتاتوريين الذين تمكنوا من فرض الاستقرار في بلدانهم، عبر الترهيب والقهر وإخضاع المجتمع، الأمر الذي مكّن لهذه الأنظمة، أن تستمر لفترات حكم طويلة، دون أن تهتز عروشها. كان التفريط بالسيادة، شرطاً مفروضاً على الأنظمة الديكتاتورية، مقابل القبول بها، والإشاحة عن جرائمها، وتمرير ممارساتها وانتهاكاتها الصارخة للحقوق والحريات، وعدم إدانتها أو محاسبتها. وهكذا حظيت انظمة الأسدية والقذافية، بالتغاضي عن جرائمها البشعة، فيما كانت تستجيب لشروط الدول الكبرى في نطاق تحقيق المصالح البينية، على حساب حقوق الشعوب في الحرية والديمقراطية والتنمية المستدامة. الأمر مماثل أيضاً في العراق وإن كان بصورة مختلفة، وفي الجزائر ومصر، وفي لبنان هذا البلد الصغير، يلعب فيه العسكر دوراً محورياً، حتى وإن كان نابعاً من ارتباطه بالطغمة الأسدية.
لقد وجهت الأنظمة الديكتاتورية، القوات المسلحة، نحو وظيفة مغايرة تماماً لوظيفتها الأساسية، وهي حماية الطغمة العسكرية الحاكمة، من أي حركة تغيير وطني في الداخل، بعد أن ضمنت عجز الجيش عن القيام بأي تغيير بالقوة، عبر إعادة بناء المؤسسة العسكرية والأمنية، بما يؤمن حماية ( رأس ) النظام الديكتاتوري. وهكذا وجدنا تحكّم العسكر بالمجتمعات الوطنية، مانعاً لأي مسار سياسي يقود الى التغيير نحو الديمقراطية، والمدنية. وعندما هبّت رياح الربيع العربي، واجهتها الأنظمة بالقوات المسلحة، وما تزال. كما حدث في ليبيا، ومثلما لا يزال يحدث اليوم في سوريا. فيما لعبت المؤسسة العسكرية في مصر دوراً أساسياً في اختطاف ثورة يناير، ومن ثم في القيام بثورة مضادت جاءت بالطغمة العسكرية مجدداً للاستيلاء على السلطة.
تأخر السودان ثمان سنوات، قبل أن يذهب الشارع الى إحداث التغيير في سدّة الحكم. وعلى الرغم من نجاحه في الدفع نحو إسقاط البشير، إلاّ أن النظام العسكري، بقي متحكماً بالسلطة، وظل المجلس العسكري أميناً على الروح الفاشية التي يتحلى ويتسم بها، كأي طغمة عسكرية، تستولي على الحكم، وتخوض حروبها ضد الشعب، للحليولة دون التغيير، والذي يعني ابعادها عن التحكم بمصير الدولة والشعب ومستقبلهم، وهو ما قادهم للكشف عن حقيقة موقفهم الرافض للتفاوض مع قوى المعارضة السودانية، بشأن تقاسم قيادة المرحلة الانتقالية في البلاد، والتي قادت الى مجزرة القيادة العامة، ومن ثم – تالياً – الى إلغاء عملية التفاوض برمتها، وما نتج عنها، والذهاب الى استفتاء عام بعد 9 أشهر حسب رئيس المجلس العسكري.
هذه الجريمة البشعة، مؤشر هام على تطلعات المجلس العسكري كأي سلطة عسكرية، لعدم التنازل عن الحكم، أو القبول بمبدأ التشارك فيه، وأنها لا يمكن أن تذهب إلى اي شكل من أشكال الديمقراطية في رسم المستقبل، شأنها في ذلك، كل الطغم العسكرية الحاكمة – أو التي حكمت - في المنطقة: مستبدة، مستأثرة، فاسدة، ولا شئ يحول دون ارتكابها للانتهاكات الجسيمة، بما فيها المجازر بحق المدنيين.
المشكلة أن أحداً لا يريد أن يتذكر مصير القذافي !



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن