معضلة الأخلاق والسلوك في العقائد

سامح عسكر
ascooor@gmail.com

2019 / 6 / 3

أظن أن نقطة ضعف المؤمنين أمام الملحدين في شئ واحد

هي (تأليههم لأنفسهم)

أصبحت المعادلة هي : هناك إله..وأنا أيضا إله

ثورة الملحد في رأيي هي في الادعاء الثاني الذي يربط كل علوم البشر وأفعالهم بالسماء، وهذه كانت نقطة اعتراض ديكارت على فلاسفة الإيمان في كتاب التأملات، برغم إن ديكارت نفسه مؤمن..وفي رأيي أن كانط استفاد من رؤية ديكارت كتير في نفي القدرة على معرفة ما وراء الطبيعة بالمجمل..

أتخيل لو تم الاكتفاء بالادعاء الأول فقط (يوجد إله) ثم استخدام كل عبارات التأمل والحكمة العقلية لإثبات ذلك وهي كثيرة، مع نفي القدرة على التأله البشري وإظهار مواطن الضعف والخلل في الإنسان بشكل عام..لتغيرت أشياء كثيرة، إنما الذي يحفز خيال الملحد ويدعم تصوره هو صورة البشر المتألّه..ففي ذهنه المسبق قصورا بشريا ينفي تلك القدسية..وهي صورة فطرية بالمناسبة لاسيما أن الإنسان المعاصر بالذات يعد أكثر الأجيل تمردا ورفضا لتأليه البشر بحكم التجارب.

شئ مشترك يجمع المؤمنين والملحدين معا هو "مسئولية الإنسان عن الحياه وكوكب الأرض" لكن بعض صنوف الإيمان تنفي أجزاء من تلك المسئولية بدعمها لنظرية الجبر ومسئولية الله عن كل شئ بما فيها أفعال الشر، وهذه خدمت الملحدين بشدة وصارت في الوقت الحاضر ممثلة لأغلب حجج الملحدين في اتهام الأديان بالظلم ولحقائق الإيمان بتأسيس هذا الظلم في البداية، وهذا الاتهام برغم صحته الشكلية لكنه يُقابَل باتهام مماثل للإلحاد بتقرير ظلم أكبر والتحلل من الأخلاق والفضيلة

فمن وجهة نظر المؤمنين أن ممارسة الأخلاق عند الملحدين هي فقط لخوفهم من القانون أو لعلاقات اجتماعية طيبة أو لتصدير صورة حسنة لا علاقة لها بالضمير، وبالتالي وظيفة الدين في رأيهم هي حمل الناس على الفضائل لاسيما أن المشهور عن فلاسفة التنوير اعتناقهم المذهب الربوبي وعدم إنكار الخالق، واشتهر عن أحدهم قوله " لا تقول لخادمك أن الله ليس موجودا كي لا يسرقك" في تقرير للبراجماتية الدينية وتوظيف العقائد لأول مرة في مصلحة البشر، ولربما هذا القول يخدم وجهة نظر المؤمنين بأن البشر يمارسون الأخلاق لتدينهم بالفعل وليس لشئ آخر، علاوة على دليل البرمجة العكسية والشيزوفرينيا في إسقاط حجية العقل في الأخلاق..وهذا مبحث طويل آخر أفرد له مساحة خاصة.

لكني أعترف بأن كثيرا من الملحدين – بحكم صداقتي معهم وقرائتي لبعضهم – أبرياء من هذا الاتهام جزئيا، فقد يمارس أحدهم الأخلاق من وجهة نظر اجتماعية وقانونية وبراجماتية..لكن العديد منهم يتخلّق بضميره إذ يمكنك اكتشاف ذلك في ظل غياب المحاسبة أو الظهور الاجتماعي، وهو الجانب المفضل في الإيمان وعرف طقسيا بأن أحب الأعمال إلى الله أخفاها وأدومها، أي الفضائل التي لا يراها الناس كي لا يصبح مقصدك ماديا، والمؤكد أن كثير من الملحدين مارسوا تلك الأخلاق وأسسوا بها مؤسسات دولية ورعاية خدمية وإنسانية للكون والمخلوقات والأشياء هي في رأيي أصبحت صلب الحضارة المعاصرة.

فقد استفادت الحضارة المعاصرة بأخلاق اللادنيين بالمجمل وضميرهم في خدمة العلم، ونموذج حفظ الغرب لآثار مصر وسوريا والعراق في القرن 19 وأوائل القرن 20 يشهد بذلك، إذا ما الذي كان سيجبرهم على عدم سرقتها وبيعها لمصالح خاصة فيما لو لم يقرروا ذلك؟..وقد يأتي الجواب أنها ثمار طبيعية للدولة الديمقراطية وجانب المحاسبة في الغرب، قلت: وما بال هؤلاء المستكشفين لحملة فرنسا على الشرق الأوسط في ظل حكومة نابليون القمعية، فلو قرر أحدهم سرقة تلك الكنوز ما حاسبه أحد.

حتى في رحلات العلم وبعثات فرنسا لمحمد علي باشا وجدنا "مسيو جومار" الفرنسي مسئولا عن تعليم أبناء مصر في باريس، ماذا لو رآهم بطريقة عنصرية ألا يجدر به أن يرفض تلك الخدمة ويحرض عليهم ؟..وماذا لو عمل دون إخلاص وأسقاهم علما خاطئا أو ناقصا من الذي سيحاسبه؟..وهل كان محمد علي والدولة المصرية بكاملها على قدرة من إدراك ذلك النقص والخطأ إذا تبين؟

لكن تظل العجرفة والغطرسة سمة بشرية عامة لا تفرق بين مؤمن وملحد، لذا من الخطأ حمل تلك الأوصاف بالعموم على اتجاهات الفكر، حيث أن العقائد في طبيعتها لا تقول بالشر، إنما الشرور تبقى عوارض ونتائج تحديات خاصة يتعرض لها الإنسان، وهذه كانت نقطة استشكالي في ذم اللادينيين حقبة المدينة في الإسلام باعتبارها قائمة على الحرب والغزوات، وقلت أنها كانت تحديا وعارضا في تاريخ الإسلام منفصلة عن طبيعته التأملية والاجتماعية في مكة، فلو جاز لنا محاسبة تلك الحقبة فلماذا لا نحاسب أنظمة الملحدين السياسية – وهي كثيرة – بنفس المنطق؟

وقد يُقال أن جريمة الملحد تظل مخصوصة له وبظروفه دون حملها على الآلهة، والجواب أن هذا يليق فقط بالجانب الفردي، وأصدقك القول أن الفرد في تجلياته الأخلاقية لا يهتم بالدين بل بالمجتمع أولا ، لكن النظام السياسي الذي يرى الدين ومظاهره جريمة ونوعا خاصا من الشرور لا يمكن حمل جرائمه وأخطائه لأنفسهم وكياناتهم الخاصة، بل هي نتاج طبيعي لدولة ملحدة متعصبة فكرت بطريقة مماثلة لطريقة دولة الخلافة، وهذا كان مبعث ردي واستشكالي على طرق بعض الملحدين واللادينيين في الاعتراض على الأديان حيث وجدتهم يستخدمون نفس أساليب السلفية والإخوان في الاعتراض، وأن حجم جهالاتهم العقلية كبير لا يليق بمفكر باحث عن الحقيقة.

فالذي يحدث في منتهى الغرابة، أن يحاول لادينيا إثبات تهمة إرضاع الكبير وتزويج الصغيرات وضرب الزوجات للإسلام، وبرغم اطلاعه على اجتهادات تنفي ذلك لكنه يصر على إثبات التهمة، هنا كان الوجه المقابل للأصولية السلفية فالنفي والإثبات لذاتهما ليس عملا عقليا، بل الاجتهاد هو محور كل قضية إنسانية بما فيها نظريات العقل، وبالتالي أي اجتهاد يخدم الإنسان – ولو من وجهة نظر دينية – هو شئ جيد في الأخير لا يرفضه عاقل، بل متعصب غبي أراد تحميل أحد الفلاحين البسطاء الذي لا يعرف في حياته سوى المسجد والحقل وتربية أبناءه على الفضائل ويكره الجماعات والأحزاب أن يُحمّله جرائم " أبو بكر البغدادي"..!!!

فعلاوة على عيب الإسقاط والتمثيل هنا متلازمة تبقى مهيمنة على عقول البشر مؤمنين وملحدين معا، وهي " رؤية كل نفي أساسا لعقائدهم خطرا يستوجب المقاومة" فالسلفي والأصولي يرى أن إنكار فتوى لابن تيمية أو ابن حنبل جريمة تستوجب المقاومة، ليس لأنها تخطئة لشخص يراه جيدا..هذا يمكن أن يمر بشكل طبيعي، لكن مبعث تعصبه هو تدمير قناعاته التي اكتسبها في فترة طويلة خلال زمن قصير، وكلما طالت هذه المدة زاد حجم تعصبه والعكس صحيح، وبالتالي نفهم أن الملتزمين الجدد في الجماعات الدينية ربما يكونوا أقل تعصبا وأكثر قبولا للمراجعة من القدامى والقيادات.

نفس الشئ في الإلحاد واللادينية، فهو يرى إنكار حكم لرمز وزعيم له عملا يستوجب المقاومة، ليس فقط لأن انهيار صورة الزعيم قد تهدم مرجعتيه في الإلحاد ولكن لأن قناعاته التي اكتسبها ربما دفع لها ثمنا غاليا من تضحيات بحكم انغلاق مجتمعاتنا الشرقية، وكلما كانت تضحياته وخسائره كبيرة في الانتقال كلما زاد غضبه وحجم تعصبه عن المعتاد، هنا المسألة لم تعد خاصة فقط بقضايا النظر والحكمة بل في ثمن غالٍ مدفوع دون فائدة.

مع ذلك أؤمن أن الانتقال السريع بدون مناقشة موضوعية واحتكاك وخبرات وبحث صادق عن الحقيقة يزيد من حجم التعصب، إذ بفقدان الركيزة المعرفية يحدث فراغا عقليا ينتج ردود أفعال عنيفة حسب القاعدة الاجتماعية الشهيرة "إذا قَصَر العقل طال اللسان" وفي رأيي أن أكثرية الأصوليين والملحدين العرب في زماننا هم من تلك الطائفة مما يعني أننا أمام معضلة معرفية تجتاج جوانب الإيمان والإلحاد معا، فالعلم ليس مطلوبا بما يكفي لتقرير حقائق بل يكفي ترديد كلام فلان وعلان أو السخط على فتوى الشيخ هذا وسلوك الكاهن ذاك يكفي جدا للانتقال..!!

وهذا أمر غريب انتقدته كثيرا بتوسع ضمن كتابين "رسائل في التجديد والتنوير" و " تحرير الفكر" عرضت فيهما مشكلة هذا التقابل والتضاد بين السلفية والإلحاد وقلت أن تناولهما للأديان والعقائد يكون يكون متشابه، فإيمان السلفية نصوصي غير عقلي ولا علمي ولا روحاني، وهذا بالضبط مبعث ثورة أكثر الملحدين على الإسلام بالذات فيرونه نصوصيا غير مُلمّين يجوانبه العقلية والروحية والعلمية التي يُكتب فيها مصنفات محترمة، لاسيما أن تشابه ردة أفعالهم وحججهم لإثبات رأيهم يؤكد هذا التقابل فسمعت من أحد أصدقائي الملحدين حجة قوية لنسف الإسلام وهي باللغة المصرية "إنت جاي بعد 1400 سنة تنكر ثوابت الدين وكلام الرسول"..!!

برغم أنها نفس الكلمة التي توجه من السلفي للمجتهدين الجدد غير مدركين لطبيعة العلم والانفتاح والمعلومة التي ساعدت الباحثين على التأمل وإعادة النظر، فالمشكلة إذن ليست في هذا قول جديد أم قديم، بل في تغير كامل حدث للبشرية لم يعد فيه التقيد بأقوال القدماء حجة للإثبات والنفي، بل النظر إليها في سياقها الزمكاني فحسب، وهذا ما ترجمته في مقالي منذ أيام بعنوان "حكم ضرب الزوجة في الإسلام" ووصلت باجتهاد عقلي تاريخي اجتماعي أن نصوص القرآن لا تقول بالضرب.. بل تعالج أمراض مجتمع قريش وقتها الذي كان يضرب النساء بكثرة، واستشهدت بحديث ابن أبي ذباب في سنن أبي داوود ، لكن كالعادة يخرج السلفيين والملحدين معا لإنكار هذا الاجتهاد وبنفس الأسلوب والألفاظ "أنت كذاب..أنت تضحك على جمهورك..الإسلام ليس هكذا"..ثم يغضبوا بقولنا أن كلاهما مرآه للآخر..

هنا السؤال المشروع: ما الذي يضيرك كمُلحد تبحث عن حقوق الإنسان قول أحد المؤمنين أن الإسلام دين سلام ومحبة لا يضرب النساء؟..على الأقل من الناحية البراجماتية عليك تقبله كمشترك إنساني تتعاونان فيه على البر من أجل إصلاح المجتمع، أما التعصب لإثبات عكس ذلك وأن الإسلام ابن ستين في سبعين هذا (عبث وتهوّر) ناتج عن تعصب غبي سقت أسبابه منذ قليل.

ختاما: قد لا نملك دليل موحد يسوق لفكرة موحدة عن تصوراتنا الأخلاقية، لكن حتما نملك فكرة إنسانية تجمع بين المؤمنين والملحدين جميعا لإصلاح المجتمع، هنا الإيمان بالتعددية هو الأصل الذي يجب البناء عليه، وفي محاضرتي في مدينة المنصورة منذ شهر تقريبا قلت: "أن الاستنارة لن تحدث إلا بالتأثير، والتأثير لن يحدث سوى بالانتشار، والانتشار لن يحدث سوى بالتعددية والإيمان بالآخر" فأي حديث تنويري إذن لا يؤمن بجانب تنويري مؤمن أو ملحد هو عودة بالإنسان لعصر الجاهلية ، وربما عودة لعصر ما قبل اكتشاف النار وقت العيش في مجموعات صغيرة عشائرية تحترب فقط على الطعام..



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن