أخرج من سوريا كي أعود إليها

راتب شعبو
ratebshabo@gmail.com

2019 / 5 / 20

في ذلك الصباح كان العناصر يستبدلون عبارة "صباح الخير" بعبارة "مبروك النصر" في إشارة إلى "فوز" بشار الأسد في "الانتخابات الرئاسية التعددية" في سوريا. كنت في ذلك الصباح أنتظر أمام بوابة الفرع 255 التابع لإدارة مخابرات أمن الدولة في كفرسوسة للحصول على ورقة ترفع عني منع السفر ولو لمرة واحدة، بعد أن سدت في وجهي السبل كافة. كنت أنتظر بالخوف الذي يرافق الجاهزية لكل التوقعات الروتينية في مثل هذا الموقف في مثل هذا البلد. ورغم قلقي وهشاشة شعوري بالأمان وانعدام شعوري بالقيمة، تخيلت ما أنا فيه على خلفية حجم التضحيات السورية لتغيير هذا الحال الذي يبدو ثابتاً كما لو بفعل لعنة ما.
أكثر من ساعة انتظار راودتني نفسي فيها مراراً أن أعود إلى اللاذقية راضياً من الغنيمة بالإياب. هذا دون أن تدري نفسي أن ساعة الانتظار هذه ليست سوى جزء قليل من الانتظار القادم. لكنني غالبت نفسي وانتصرت لفكرة "المقاومة"، يساعدني في ذلك أمل شحيح بالخلاص من العيش الدائم على حافة هاوية.
بعد فترة من القلق، وبآلية غريبة، بدأت وجوه الموظفين القادمين إلى دوامهم في الفرع تبدو أليفة لي. يقترب الشخص القادم من مسافة طويلة نسبياً سيراً على قدميه بسبب الحواجز الاسمنتية الضخمة التي تعيق أي مرور آلي، فتقوم نفسي بإعادة صياغة وجهه إلى أقرب وجه في مخزن ذاكرتها من معارفي أو أصدقائي أو أقاربي. فاجأني هذا، كانت نفسي تبحث فيما يبدو عن شخص تألفه كي تريح على جسر التواصل الشخصي الودود معه حملها من القلق والخوف والترقب، فراحت تجتهد في صناعة الوجوه الأليفة المحفوظة لديها من المادة الأولية التي توفرها الوجوه المارة، وكانت بذلك إنما تصطنع خيبات صغيرة متكررة تزيد فوهة القلق اتساعاً.
وطدت نفسي على الانتظار، وكأنني جئت إلى هنا لا لشيء سوى لكي أنتظر. غير أن أحد العناصر الشابة تقدم مني وقال لي بلهجة شامية أصيلة إن مشكلتي ليست في هذا الفرع إنما في الفرع 279 المسمى "الفرع الخارجي". أشار لي إلى الجهة التي توصل إلى الفرع الخارجي ومضى. كانت المسافة بين الفرعين غير قليلة، وكانت الكتل الاسمنتية تستبد في تقطيع المكان في كل اتجاه. بينما كنت أقطع تلك المسافة انتابني شعور بأنني قد أكون في هذا المجال الخالي موضوعاً لعبث قناص يتخذ من أحد الأبنية المحيطة مستقراً لعرشه. حيناً أشعر أن إشارة الزائد تستقر الآن على رأسي من الأمام فتقوم يدي بحركة لا إرادية وكأنها تطرد الإشارة كما تطرد ذبابة، وحيناً أتخيل الإشارة وهي تستقر على رأسي من الخلف فألتفت إلى الخلف كما لو أنني بذلك أمنع القناص من مباغتتي.
شغلني القناص الافتراضي عن الانشغال بالتفكير في مصير أسرتي الصغيرة التي كانت في طريقها إلى لبنان، وفي تخيل متاعب زوجتي وطفليّ على الحواجز التي طالما سمعت عنها. رأف بي القناصون ولم يعترض سبيلي الحراس الذين صادفتهم على الطريق ببواريدهم وجعباتهم وضجرهم، فوصلت إلى المبنى المقصود وقدمت نفسي لشاب يقف على الباب. أخذ الشاب الموبايل مني وسمح لي بالدخول. بعد قليل كنت في قاعة انتظار تملؤها شتى صور الرئيس الفائز في "الانتخابات". صور بربطة عنق وصور بدون ربطة عنق، وأخرى يبدو فيها وجهه ومن خلفه تبدو دمشق صغيرة وقد كتب على يسار الصورة: قاهر المؤامرات وصانع المعجزات.
جلست على كرسي حديدي مخصص لجلوس أمثالي، وانتظرت كما يفترض بي أن أفعل. هنا كانت نفسي قد يئست وكفت عن صناعة الوجوه الأليفة من الوجوه المجهولة، واستسلمتْ. قاعة الانتظار هذه كانت تضم أشخاصاً آخرين. يجلسون على المقاعد الحديدية مثلي، وهم مثلي أيضاً لا يتبادلون فيما بينهم النظرات ولا الكلام. كل فرد منهم منغلق على ذاته يداري مخاوفه ولا تجتمع عيونهم سوى على الصور العديدة والمختلفة التي تغطي الجدران والأبواب. على أن الكثيرين منهم كان قد فضل حني الرأس والتمعن في أرضية الغرفة.
قدم لي أحد الموظفين ورقة وقلماً وطلب مني الإجابة على ما فيها من أسئلة. هي الأسئلة نفسها التي أجبت عنها قبل أكثر من ثلاثين سنة. ولادتك ودراستك وحياتك وعملك السياسي وأقاربك نساء ورجالاً، من الجد السابع حتى اليوم مع أعمالهم وتوجهاتهم السياسية ثم أصدقاؤك وأعمالهم وتوجهاتهم ..الخ. الفارق أنها الآن أسئلة مطبوعة ومجدولة فيما كانت في السابق أسئلة شفهية يُطلب منك الإجابة عنها كتابياً. هذا هو الفارق الذي يختصر "التطوير والتحديث" ويخلق "سوريا المتجددة".
يدخل قاعة الانتظار رجل في الخمسينات من عمره، بشوارب عريضة وحذاء من النوع الذي لا يتأثر بالموضة، وبنطلون قماشي بني اللون وفي جيب قميصه السمني قلم ومفكرة صغيرة ونظارات طبية. نظر الرجل ببرود وتعال إلى المنتظرين، كما يمكن أن ينظر الناجون إلى الملعونين، وبدت عليه بهجة لزجة حين راح العناصر يتملقونه بالسلام والتحية. جعلتني رؤية هذا الرجل أسقط في الزمن ثلاثين سنة، حين اعتقلني جهاز أمن آخر وقرر معالجتي من داء المعارضة. لم يكن هذا الرجل أحد أبطال تحقيقي وسجني، لكنه كان نسخة عنهم بالشكل والنظرة والملابس. وها أنا بعد ثلاثين سنة أقف هنا خائفاً وقلقاً أمام النمط نفسه من الأشخاص وكأن الزمن لا يمر إلا لكي يحسب من أعمارنا.
انتهى الدوام، وبدأ العناصر يغادرون ويغادر مع كل واحد منهم قطعة من أملي بالمغادرة. بقيت وحيداً في قاعة الانتظار. وبدأ من بقي من العناصر يتحللون من رسمية الدوام ومن رقابة العناصر الذين غادروا. اقترب أحدهم، يبدو أنه بموقع مؤثر قليلاً، وطلب مني استشارة بشأن ما يعانيه من أعراض التحسس الأنفي. وأحيا أملي بأن قال: "انشالله بتسافر اليوم بالسلامة على لبنان".
غير بعيد عن مبنى الهجرة والجوازات في المرجة حيث اتجهت لاستلام برقية السماح لي بالسفر لمرة واحدة، قرأت على جدار قديم عبارة تقول: (الأسد أو نكمل حرق البلد). ثم وعلى حائط آخر استطعت أن أقرأ عبارة عليها علامات شطب، تقول العبارة: (لا نطلب الرحمة من أحد لأننا لن نرحم أحداً). ثم وفي مكان آخر: (اضحك، لأنك لن تعيش طويلاً). تلك كانت سورية التي تركتها خلفي وتأبى إلا أن تبقى أمامي.
حزيران 2014



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن