البحث عن إسرءيل: مناظرات حول الآثار و تاريخ إسرءيل القديمة(7)

محمود الصباغ

2019 / 5 / 17

الكتاب[ المقدس] و علم الآثار :إسرائيل فنكلشتين
التاريخ الكتابي وعلم الآثار هما فرعان مختلفان من فروع المعرفة ذات الطابع التخصصي. ولايعد الكتاب في شعورنا الشعور المعاصر سجلاً تاريخياً، بل نصٌ مقدس كُتبَ من قبل أشخاص أصحاب قناعات إيديولوجيّة و دينيّة قويّة. تغلف "أجزاءه التاريخية" "وما هو تاريخي منه" مواضيع متنوعة مثل العلاقة بين رب إسرءيل وشعب إسرءيل، وشرعية السلالة الداودية ومركزية العبادة في هيكل أورشليم. في حين أنه لم يتطرق إلى المواضيع الأخرى ذات الأهمية البالغة للمؤرخ الحديث "المعاصر"، وعلاوة على ذلك وحيث أن الكثيرمن مادة النص دونت في فترة متأخرة نسبيا من تاريخ إسرءيل-من القرن السابع حتى الخامس - فهو بذلك لا يزودنا بشهادة عن زمن الحدث مباشرة للعديد من الأحداث المروية في متنه، لاسيما تلك التي تصف المراحل التكوينية في تاريخ إسرءيل القديمة. إلى جانب ذلك, حتى تلك النصوص القديمة التي تعيد وصف أو فرز الأحداث من منظور الزمن الحقيقي مثل السجلات الآشورية في الفترة من القرن التاسع ق.م وحتى القرن السابع ق.م, لا تخلو من الميول الإيديولوجيّة، لذلك لا يمكننا الحكم على نص الكتاب المقدس وفقا للمعايير الحديثة من حيث الدقة التاريخية.
وفي الحقيقة، لا بد في كل وصف تاريخي أن يكون واقعا تحت تأثير الوقائع التي تعود لفترة أو زمن جمعه. ومن أجل إظهار مدى صعوبة قبول النص القديم كسجل موثوق وكامل للأحداث، يكفينا أن نتذكر كم من التأويلات المتناقضة التي نعطيها لأحداث تحصل معنا يوميا. ومن جهة أخرى يزودنا علم الآثار ظاهريا بشهادة "موضوعية"لما حدث في الماضي. فهو يميط اللثام عن اللقى كالأواني الفخارية والأسلحة والمباني القديمة التي تعيطنا صورة من الزمن الحقيقي للعصر موضوع البحث و الاستقصاء. ويمكن تشبيه تلك اللقى بـ"شهود عيان"لما حدث في الماضي. وبعيداً عن كشف الثقافة المادية للشعوب القديمة فإن علم الآثار باستطاعته أن يلقي الضوء على العمليات الاجتماعية والديموغرافية والاقتصادية طويلة الأجل (على العكس من الأحداث قصيرة الأجل). وفي الوقت الذي نكون فيه قادرين بشكل تام على قراءة وفهم القصة المعقدة التي يتيحها لنا علم الآثار فإننا سنحصل على أداة مثالية لدراسة الماضي. ولكن علاة على الحقيقة التي تقول بأن التأويل الآثاري لا يخلو أيضا من ميول وانحيازات حديثة فسيكون من الإنصاف القول أن علم الآثار سيبقى أبكماً لاينطق على نحو ما بدون نص, فالكسر الآثرية و الأسوار تزودنا بنصور عام فقط حول ما حدث وقت صنعها أو بناءها, ولكن يبقى الكثير من الأسئلة الأساسية التي مانزال مفتوحة و بدون إجابات من قبيل: من الذي انتصر؟ من الذي أظهر شجاعة في أرض المعركة؟ من كان "مؤمناً"؟ ومن تصرف مثل "مرتد"؟, من الواضح أنه بدون نصوص تلقي الضوء على مثل هذه الأسئلة البسيطة و المحددة لا يمكن لأحد أن يجيب عليها، وأكثر من ذلك , حين نصف هذه اللقة بأنها بكماء فهذا يعني تأويلها بأكثر من سبيل و طريقة, وتكون عرضة للخضوع لأكثر من عملية إعادة بناء تاريخية, ولذلك ومن أجل التوصل إلى عملية إعادة بناء معقولة لتاريخ إسرءيل المبكر علينا الاستفادة من المصادر الثلاثة المتاحة جميعها, وهي: النص الكتابي، واللقى الآثارية، وسجلات الشرق الأدنى القديم, بيد أنه , وفي اعتراف الدميع, ليس ثمة أي جديد في هذه الحالة, فقد كان هذا الأمر هو هدف علم الآثار الكتابي منذ نشأته الأولى منذ عشرينيات القرن الماضي. فما هو, إذن, الجديد فيما أحاول تعيينه هنا؟ .
لو نظرنا إلى تاريخ إسرءيل القديم من وجهة نظر منهجية عامة فسوف نجد عنصرين هامين جديدين:
أولا) هيمنة القصة الكتابية على الآثاريات الكتابية التقليدية. ففي العديد من الحالات و ببساطة واضحة كانت التواريخ الحديثة المكتوبة عن إسرءيل القديمة عبارة عن تواريخ مكررة للقصة الكتابية ولكن بمصطلحات ومعايير حديثة. فقد وُضع النص في دائرة الضوء في ذات الوقت الذي تراجع فيه علم الآثار إلى الظل ليلعب دوراً قاصراً كديكور أو كأجزاء مستردة من الأدلة التي تدعم السرد الكتابي المقبول عموماً، ولم يتم النظر إليه كأداة مستقلة نافذة في البحث التاريخي، وكأحد أفضل الأمثلة على هذه المقاربة هو التأويل الذي أعطي للقى الآثارية التي وجدت في تل الخليفة في خليج العقبة، حيث كما أسلفنا سابقا تم في واقع الأمر اختلاق السويات واللقى كافة كي تناسب القصة الكتابية. والدرس واضح هنا، إذ ينبغي أن يدرس علم الآثار بمعزل عن النص الكتابي وعليه أن يكون الآلة الأولى في جوقة بناء الوقائع اليومية للعصور القديمة، وبعد ذلك يمكننا الالتفات للمصادر الكتابية للتحقق في ما إذا كان كلا النمطين من الأدلة-الثقافة المادية والنص- يتوافقان مع بعضهما البعض، فإن لم يجدث هذا , فمن حقنا أن نسأل ،لماذا؟ ثم ننطلق للبحث عن الأسباب: لماذا صاغ الكتّاب كتابهم على هذا النحو، وينطبق هذا أولا وقبل كل شيء على المراحل التكوينية للتاريخ الكتابي لإسرءيل، حيث تفصل قرون عديدة بين عملية جمع النص و الأحداث المفترضة التي نقلها لنا أولئك الكتّاب.
ثانيا) وهو في الحقيقة اختلاف أكثر عمقا. فقد درس معظم الباحثين تاريخ إسرءيل المبكر بترتيب زمني تسلسلي، من الأقدم إلى الأحدث وبالتوافق مع النص. وحيث أن الخط العام لكرونولوجيا الملوك الإسرءيليين و اليهوذيين معروف لنا بصورة جيدة فقد التفت أهل الإختصاص وراءً للبحث عن فترة عصر القضاة في القرنين الثاني عشر ق.م و الحادي عشر، وإلى فترة الغزو في أواخر القرن الثالث عشر ق.م، وإلى العبودية في مصر و الخروج منها في عهد رعمسيس الثاني في القرن الثالث عشر ق.م، ( وقد افترضوا أنهم عثروا على كل هذا) ,كما بحثوا, بطبيعة الحال في المرحلة البطريركية في أوائل الألفية الثانية. ولكن هذه المقاربة غاية في السذاجة،فما ينبغي فعله في الحقيقة هو العكس، إن أول ما يحتاجه المرء هو إرساء أساس متين للبحث من خلال تحديد الفترة التي تم فيها تدوين هذه التقاليد. وكما أشرت آنفا فإن هذا يفتح الطريق لفهم الوقائع الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة التي تعود لتلك الفترة. وهي تمثل أيضا نقطة انطلاق للتحقق فيما إذا كان كل من النص وعلم الآثار متناغمان ، فإن لم يظهرا مثل هذا التناغم , ينبغي إذن فهم معنى النص من وجهة نظر احتياجات و إيديولوجيّة و أهداف المؤلفين له. و هذا ما وصفه المؤرخ الفرنسي العظيم مارك بلوخ من مدرسة الحوليات قبل سنوات عديدة حين دعاه التاريخ الرجعي L’Histoire Regressive: مبتدأً من نقطة مأمونة( بمعنى معروفة و مثيبتة) ومن ثم إعادة بناء التاريخ خطوة خطوة وصولا بالعودة أكثر و أعمق باتجاه الماضي، وبإيجاز علينا أن نستقصي التاريخ من الأزمنة المتأخرة نزولاً نحو الأزمنة الأبكر و ليس العكس، على الأقل في حالتنا هذه. وهذا يعني أن الفصول المبكرة من تاريخ إسرءيل -مثل قصص الآباء والخروج من مصر وغزو كنعان بالإضافة إلى عصر داود و سليمان الذهبي - لا يمكن فهمها باعتبارها تصوير للوقائع التاريخية مباشرة. وفي الوقت ذاته من غير الممكن تصور أن هذه القصص قام باختلاقها مؤلفين, أي أنهم قاموا بفبركة التاريخ. فالتاريخ الكتابي كتب ليكون بمثابة منبر إيديولوجي وبذلك لا بد له أن يٌكتبْ بطريقة من شأنها أن تبدو موثوقة للقارىء و/ أو المستمع. وربما استند على مجموعة من الحكايات والأساطير والتقاليد وربما على شذرات من الذكريات القديمة التي كانت معروفة لسكان يهوذا وإسرءيل. وغني عن القول بأن خلاف ذلك سيجعل المؤلفين يفقدون مصداقيتهم و سيفشلون في نقل رسائلهم و تحقيق أهدافهم، وذلك يستتبع بأن المرء لا يستطيع ببساطة الافتراض بأن إبراهيم أوموسى لم يوجدا بذات الطريقة التي لا يمكن فيها الجدل بأنهما شخصين تاريخيي ن" من لحم ودم". والنقطة المهمة هي أن نعترف بأن هذه القصص كما نقرؤها اليوم تنتمي أكثر إلى عالم المؤلفين وبالتالي إلى التاريخ البدائي الغامض لإسرءيل. وعلاة على ذلك، كُتبَ الكثير من الوصف الكتابي لتاريخ إسرءيل المبكر من وجهة نظر إيديولوجيّة محددة "خاصة" كانت سائدة في يهوذا أو إيهود بين القرنين السابع و الخامس، وقد اختار المؤلفين مادة كتابتهم وقرروا ما يجب إدراجه ضمن النص وما لاينبغي إدراجه وفقاً لطريقة تفكيرهم. فنحن إذن نقرأ تاريخاً مختاراً .فالكتاب لا يمثل احتمالاً جماعات أخرى في يهوذا, بل حتى لا يمثل الجماعات الرئيسية المهيمنة والتي على الأرجح تمتلك وجهات نظر مختلفة تماماً عن تاريخ إسرءيل. وهو، بكل تأكيد، لا يمثل عالم المملكة الشمالية. ويمكن للمرء أن يتخيل مدى الإختلاف الذي سيكون عليه تاريخ إسرءيل لو كتب من قبل مؤلف من المملكة الشمالية أو من السامرة أو من بيتئيل أو من قبل منافس لـ " المعسكر التثنوي" في يهوذا نفسها. علاوة على ذلك، من المنطقي الإفتراض بأن العديد من القصص الكتابية-لا سيما التي تصف التاريخ "المبكر" لإسرءيل-تخفي طبقات عدة من التقاليد تراكمت تدريجيا على مدى قرون من التواتر الشفوي ومن ثم التحرير حتى وصل النص إلى صياغته النهائية. منها على سبيل المثال قصة داود و سليمان.
يمكن لعلم الآثار أن يساعدنا في تحديد بعض من هذه الطبقات على الأقل: من المحتمل أن تكون الطبقة الأقدم هي الطبقة الأصلية للقصص البطولية التي تتحدث عن داود و رجاله الأشداء، مجموعة العابيرو الذين نشطوا على هامش المجتمع اليهوذي، وغالباً ما تقدم لنا طبقة أخرى ضمن نفس القصة رواية لنفس الأحداث ولكن في هذه المرة من وجهة نظر الشماليين المؤيدين لشاؤول، سوية أخرى تصف فتوحات داود والبلاط بلغة وقائع القرن التاسع، ولكنها متضمنة في طبقة أخرى تلبي احتياجات الملوك الداوديين في أواخر القرن الثامن بوصفه الأفق الذي يمثل ربما وقائع القرن الآشوري في أيام الملك منسّى، وأخيرا هناك الطبقة اليوشيانية التي تعود لأواخر القرن السابع.
كيف يمكن إذن، بطريقة أخرى أن نفسر التناقضات في النص؟ كيف يمكن أن نفسر أيضا في طريقة أخرى وصف سليمان كملك عظيم و حكيم وثري وبعد ذلك يظهر وصفه كرجل عجوز خرف ومرتد؟ باختصار لا نستطيع استعراض التاريخ المبكر لإسرءيل بالأسود والأبيض، بسيناريو نعم أو لا، بأن هذا حدث وهذا لم يحدث, وهكذا وجود هذا أو هي/ هو كان مجرد محض خيال مختلق. فالصورة أكثر تعقيدا من ذلك بكثير وفي حالات عدة يمكن تلخيصها على النحو التالي: إن حدثا كذا وكذا لم يقع كما هو موصوف في النص على الرغم من أن النص قد يحتوي على بعض ذكريات غامضة عن الماضي والسبب في أن النص تم تدوينه بهذه الطريقة كانت ...... و كما رأينا سابقا فإن الكثير مما تم بيانه هنا ينطبق حتى على فصول من تاريخ إسرءيل المتأخر التي وقعت في زمن قريب من وقت التدوين، المدعومة من مصادر من خارج الكتاب معاصرة للأحداث التي سجلتها تلك المصادر. وعلى الرغم من صحة الخطوط التاريخية العريضة التاريخية في هذه الحالات فإن الكثير من المحتوى يعكس الطبيعة اللاهوتية للمؤلفين أكثر منه انعكاساً للتسجيل الزمني للأحداث أو تفاصيلها. التعامل مع المملكة الشمالية والقرن الآشوري في تاريخ يهوذا يبين بوضوح هذه النقطة. في الحالة السابقة نجحت حالة العداء المستفحل الذي يكنه المؤلفين الجنوبيين للشمال في إخفاء العظمة السياسية و الاقتصادية التي عرفتها إسرءيل خلال القرن التاسع والثامن. وكما أشرت في الفصل التمهيدي، في الحالة الأخيرة أيضا لم تتوافق العقيدة اللاهوتية للمؤلفين مع الوقائع اليومية لذلك العصر. وفي كلتا الحالتين يستعرض كلا المصدرين-الكتاب و علم الآثار-أحداثاً من وجهتي نظر مختلفتين تماما: لاهوت إزاء الواقع اليومي، وغني عن القول أن كلاهما يمتلك مشروعيته بطريقة ما، ولكن على الباحث أن يكون مدركاً في أي جانب يقع عمله.
الماضي والحاضر.و التقطة التي ينبغي لها أن تكون موضع تساؤل لنا هي أين نقف نحن؟ هل يقف علماء اليوم الذين يدرسون الماضي، على مقربة من المؤلفين القدماء وعوالمهم؟ وحيث أن الكتاب العبري يعد وثيقة تأسيسية ليهودية الهيكل الثاني، من خلال المسيحية و الحضارة اليهودية- المسيحية الأوسع-حضارتنا- فنحن من يستطيع الزعم أنه مستفيد من أولئك المؤلفين القدماء, إن جاز لنا القول. و بغض النظر عما إذا كنا مؤمنين أو علمانيين، فإن ثقاتنا التعليمية تلزمنا بصورة فورية على تحديد هوية القصص. فنحن نحتفل بالإنتصارات ونعلن الحداد على الهزائم وغاضبون من شعب إسرءيل عندما يخون هذا الشعب العهد مع رب إسرءيل. ولكن هل يمكن لهذا أن يكون نقطة انطلاق لعملنا كعلماء؟ غني عن القول، أن الجواب سلبياً. ينبغي على العلماء أن يرسموا خطاً واضحاً متصلاً بين هذه الصور والبحث التاريخي. وهذا يعني ضمناً أنه لا يوجد أي سبب، على سبيل المثال، قبول الموقف السلبي للمؤلفين الجنوبيين إزاء المملكة الشمالية. وبالنسبة للفرد الذي يحاول إعادة بناء تاريخ إسرائيل، سوف يكون انتهاك العبادة و السلوك الإجتماعي المنحرف (كما لاحظ ذلك مؤلفي أورشليم بين القرنين السابع ق.م و الخامس ق.م) ليسا سوى قطعتين في فسيفساء أكبر بكثير من الأحداث و العمليات, فأنشطة البناء والعلاقات التجارية، والمناورات الدبلوماسية ليسوا أقل إثارة للاهتمام، وبصراحة لا تقل أهمية.ما أحاول قوله هنا -بصراحة لا تقل أهمية عن قيمة الموضوع- لاينبغي لنا أن نضع الإيمان بجانب البحوث التاريخية، أو أن يراد لهما أن يكونا متناغمين، أو ينتقص أي منهما الآخر. عندما نجلس لقراءة الهغّادة Hagadah في عيد الفصح، فنحن لا نتعامل بأفق يدعم أو لايدعم علم الآثار في تفسيره لقصة الخروج. و بدلاً من هذا نقوم بالثناء على جماليّة القصة وعلى قيمها القومية و الكونية. فما هو على المحك التحرر من العبودية "بوصفه تصورا"، وليس موقع جرار التخزين Pithom. في الواقع إن محاولات عقلنة قصصاً كهذه، كما حاول الكثير من العلماء القيام به من أجل "إنقاذ" تاريخية الكتاب، ليست سوى محض حماقة’ بل عمل خياني في حد ذاته. فوفقاً للكتاب وقف إله إسرءيل وراء موسى وليس هناك حاجة لافتراض حقيقة حادثة ارتفاع أو انخفاض المد في هذه البحيرة أو تلك كي يجعل من أعماله ديانه هامة ذات شأن . سيقول البعض أن هذا جيد في المجمل , ولكنه يشكل خطراً شديداً على دولة إسرائيل الحديثة، وكأن مصير الشعوب لا يتقرر إلا وفقا لعمق جذورها في الأرض. هل إذا استنتج المرء أنه من خلال حذف 50 أو 100 سنة من التاريخ، ستفقد الدولة الحديثة شرعيتها التاريخية؟
لعب علم الآثار الكتابي في خمسينيات القرن الماضيدوراً هاماً في تنمية الروح الإسرائيلية الحديثة. فقصص غزو كنعان على يد يشوع وتوطن القبائل الإسرءيلية، تم تخيلها كبشرى قديمة بطولية لأبطال لا يقلون بطولة عن العودة الحديثة إلى صهيون. و أخذ العصر الذهبي لداود وسليمان كرمز للازدهار وعظمة الذي سيتكرر الآن وهنا. كل هذا لا يمكن تقويمه على خلفية عصرنا الحالي، وإنما على خلفية الخمسينيات التي كانت الحاجة الماسة وقتها تدعو إلى بناء دولة جديدة وهوية جديدة للأشخاص الذين جاءوا من جميع أنحاء العالم بعد قرون من القمع.
الآن وبعد أن نضج المجتمع الإسرائيلي وأصبحت دولة إسرائيل أمراً واقعاً, هل مهم حقا إظهار أن أسوار أريحا سقطت عندما نفخ في الأبواق؟،أو أن الملك سليمان حكم من أورشليم امبراطورية مترامية الأطراف؟وماذا لو أن سليمان حكم من قرية صغيرة نائية بائسة في المرتفعات الجنوبية مساحة تساوي في حجمها حجم مدينة أمريكية صغيرة وضواحيها؟ هل هذا يؤدي إلى أية تبعات على مستقبلي بصفتي إسرائيلياً؟ الجواب بكل وضوح هو النفي , فقوة المجتمع الإسرائيلي تقوم أولا وقبل كل شيء على كونه مجتمعاً ليبرالياً منفتحاً و ديمقراطياً. و هنا وبدون أدنى شك لاتقل أجندة أبحاثنا الحالية غير المقيدة و الديناميكية بريقا و أهمية عن أهمية و بريق الماضي.وبقدر ما أستطيع الحكم، سيكون من الخطأ القاتل فرض فهم جديد للماضي على واقع الحاضر وآمال المستقبل. وعلى أية حال، أود أن أوضح أنه لا يمكن أن يكون هناك شك حول وجود ممالك إسرائيل ويهوذا في العصر الحديدي الثاني، لا يوجد شك بأن أورشليم كانت عاصمة يهوذا وأن هيكل رب إسرءيل وقصور الملوك الداوديين انتصبت في وسط أورشليم، وأن جزءً كبيراً من الكتاب العبري قد دون هناك. وينبغي هذا أن يكون كافيا لمعنى واحد للتقاليد والهوية. وهناك ما هو أكثر من ذلك بكثير, فالتاريخ الكتابي- الملحمة العظيمة التي تشكل الأساس للحضارة الغربية-ظهرت من مدينة صغيرة نسبياً ذات ثقافة مادية فقيرة نسبياً والتي كانت تقع على هامش الحضارات الكبرى في الشرق الأدنى القديم. لقد ظهرت في أوقات من النكبات والأزمات,ثم, وفي غضون بضعة عقود سقطت إسرءيل، وأصبحت يهوذا تابعة لآشور وتحولت إلى دولة كاملة، دمّر سنحاريب ريفها، ثم انسحب الآشوريين، ثم قتل الملك يوشيا ( الذي يوصف بأنه الأكثر ورعاً والذي يرتبط نسبه بداود) في مجدو، وسقطت أورشليم بأيدي البابليين، واقتيد العديد من اليهوذيين إلى المنفى،ثم عاد بعضهم, ينبغي لتكرار هذا التتابع للأحداث أن يوضح -أو آمل أن يكون هكذا- بأن "صدقية" القصة الكتابية ليست بالضرورة في انشقاق البحر أو في أبواق أريحا وليس حتى في روعة وبهاء سليمان.
تكمن الحقيقة والعظمة في القصة الكتابية في وقائع واحتياجات ودوافع، وصعوبات وإحباطات وآمال، وصلاة شعب يهوذا وأورشليم في فترة الملكية المتأخرة و أوائل فترة ما بعد النفي. وهي تكمن في حقيقة أنه في فترة قصيرة من زمنٍ عاصف، والخروج من دولة صغيرة ومعزولة نسبيا بثقافة مادية فقيرة انبعث إبداع غير عادي أنتج الوثيقة التأسيسية للحضارة الغربية.
....................
رسالة علم الآثار :عميحاي مزار
علم الآثار، الحقائق التاريخية، وعامة الناس
ترك النقد الجذري الكتابي ليوليوس فلهاوزن وأتباعه من أواخر القرن التاسع عشر في مستهل القرن العشرين انطباعاً قوياً لدى أوساط المثقفين الأوروبيين واليهود. وكان الداعية اليهودي الشهير آشر غينسبيرغ والمعروف باسم أحد هاعام قد نشر في العام 1904 مقالاً له بعنوان "موسى". في الوقت الذي كان فيه علم الآثار لايزال في مراحله الأولى، واحتوت تلك المقالة على الفقرة التالية، ذات الصلة بموضوعنا هنا " وهكذا عندما نفض العلماء الغبار عن الكتب القديمة والمخطوطات، من أجل إخراج عظماء التاريخ من قبورهم في شكلهم الحقيقي. مؤمنين في جميع الحالات بأنهم يضحون ببصيرتهم من أجل "الحقيقة التاريخية"و لا يغيب عن بالي بأن هؤلاء العلماء لديهم ميل إلى المبالغة في تقدير قيمة اكتشافاتهم، ولن نقدر الحقيقة البسيطة وهي أن ليس كل حقيقة أثرية هي حقيقة تاريخية. فالحقيقة التاريخية هي -وهي فقط- التي تكشف عن القوى التي تسعى لقولبة الحياة الاجتماعية للبشرية. كل إنسان يترك علامة ملموسة على تلك الحياة، على الرغم من أنه قد يكون محض شخصية متخيلة،لكنه يمثل قوة حقيقية تاريخية ووجوده حقيقة تاريخية. . وبالتالي أنا لست متحمسا عندما يقوم البحث العلمي بسحب شيىء ما جديد " الحقيقة" عن رجل عظيم من الماضي، وعندما يتم إثبات ذلك عن طريق الأدلة الأكثر إقناعا بأن بعض الأبطال القوميين . . . ليس لهم وجود . . . في مثل هذه المناسبات أقول لنفسي: كل هذا على ما يرام وجيد جدًا، وبالتأكيد هذه "الحقيقة" سوف تمحو أو تغيير فقرة من فصل في كتاب علم الآثار، لكنه لن يجعل التاريخ يمحو اسم بطله. . . . لأن اهتمامه ينصب على بطله الحي حيث الصورة المحفورة في قلوب الرجال، والذي أصبح قوة في حياة الإنسان وما يهم التاريخ فيما إذا كانت هذه القوة ذات يوم تتكلم و تسير على قدمين، أو لم يكن سوى مخلوق من الخيال . . . في كلتا الحالتين, يكون التاريخ هو التأكيد على وجوده، لأن التاريخ يشعر بتأثيره. "
الفكرة الأساس[لأحد هاعام] هي الأهمية التي تكتسبها الروح والقيم التي يجسدها بطل من الماضي وليس فيما إذا كان هو (أو هي) موجود أو موجودة حقاً. هذا الخط من التفكير لا يزال يؤثر في العديد حتى في يومنا هذا.
نشر زئيف هيرتسوغ من جامعة تل أبيب في العام 1999 مقالا في صحيفة هآرتس صدر عنوانه بأحرف كبيرة على الصفحة الأولى: "الحقيقة من الأرض المقدسة: بعد 70 عاماً من الحفريات الأثرية في أرض إسرائيل من الواضح أن الحقبة الكتابية لم توجد" وعنوان المقال في حد ذاته كان "الكتاب: لا لقى في الميدان"، والعنوان الفرعي يشرح بأن " قصص الآباء،و الخروج، والغزو، وامبراطوريات داود و سليمان هي مجرد قصص فلكلورية, و في حين أن العلماء عرفوا ذلك منذ مدة طويلة، يفضل المجتمع الإسرائيلي التغاضي ". أثارت مقالة هيرتسوغ ردود فعل جديرة بالملاحظة في إسرائيل. ففي واحدة من العديد من الرسائل إلى المحرر، وهي التي تعبر عن ردة فعل كاتب الأغاني و الملحن الإسرائيلي العظيم نعومي شيمر التي تعبر بطريقة مماثلة عن وجهة النظر تلك التي تكلم عنها أحد هاعام قبل خمس و تسعين عاما: لا يهم إذا كانت القصة وقعت فعلاً أم لا، أو إذا كانت بعض المباني المذكورة في الكتاب موجودة فعلاً أم لا؛ ما يهم هو ما ترمز إليه هذه القصص؛ تراثهم مستمر حتى لو لم يكونوا حقائق تاريخية فعلية. وقد قمت أنا وإسرائيل ليفين، رداً على مقالة هآرتس، بتحرير مجموعة من المقالات حول هذا الموضوع نشرت في اللغة العبرية. أحدها كانت ليائير زاكوفيتز، وهو أستاذ الأدب الكتابي في الجامعة العبرية بعنوان " الكلمات، والأحجار، الذاكرة والهوية". وبالنسبة له " كلمات" الكتاب هي تلك الكلمات التي تشكل هويتنا، وليس الحجارة. و يستطرد مستنتجا "حتى لو تم إثبات أن كل ما هو مكتوب في الكتاب [المقدس] ليس تاريخيا، فإن جوهر هويتي وذاكرتي التاريخية التي تقوم على الكتاب لن تهتز" (ترجمتي عن النص العبري). فالكتاب، على حد قوله "هو أبلغ إنجاز لإسرءيل القديمة وللروح العبرية وهو العامل الرئيس في خلق هويتنا [الحديثة] والذاكرة المشتركة. الكتاب هو حجر الأساس للثقافة اليهودية بين كل الأجيال وسيبقى كذلك إلى الأبد، ولا يمكن أن تقاس عظمته بمقياس الموثوقية التاريخية ".
وعلى الرغم من كوني آثاري يبحث عن الأدلة المادية للماضي، أجد نفسي متفقا مع هذه الكلمات. القيم والأفكار الدينية، والرسائل الفكرية للكتاب لا تحتاج إلى تأكيدات أثرية. فهذه القيم و الأفكار و الرسائل .... إلخ تقف بمفردها كأحد الإنجازات الفريدة من نوعها في إسرءيل القديمة. وليس دور علم الآثار التأكيد على المرويات الكتابية، بل محاولة تحديد الخلفية التاريخية لتشكيل هذه القصص في الكتاب وإذا ما إذا كانت هذه القصص تحفظ معطيات ذات قيمة عن التاريخ القديم لإسرءيل- بعبارة أخرى-لتحديد واقعهم اليومي Sitz im Leben. الأفكار الحالية المبتكرة كتلك التي يطرحها الإصلاحيون، باتت مرفوضة على نحو مطرد من قبل العديد مثل البعثات الإستكشافية الأثرية في أرض إسرائيل. ويقترح فنكلشتين وغيره اتباع نهجاً أكثر اعتدالاً، النهج الذي يمكن أن أصفه باسم" الكتابة الارتجاعية للتاريخ"، بمعنى أن الفكرة التي ترى في العديد من أبطال الكتاب ما هم إلا انعكاسات للملك يوشيا و أن وصفهم في الكتابة التاريخية للكتاب دونت بدوافع إيديولوجية واضحة القصد منها تمجيد أهداف وإيديولوجية وسياسة يوشيا. مثل هذا الطرح هو مجرد اختلاق، ورؤية ضيقة [الأفق] وأحادية الجانب للعملية الإبداعية للكتابة التاريخية للكتاب. وتفتقر -اعتقادي- إلى دليلٍ كافٍ وتسعى لنزع هذه القصص من بيئتها الأصلية
تبدو عملية كتابة تاريخ إسرءيل كأنها نتاج عملية طويلة ومعقد من التجميع والتدوين والتحرير والنسخ للنصوص الكتابية استمرت في معظم القرنين الثامن والسابع ق.م. وعلى الرغم من الضبابية اللاهوتية والإيديولوجية لواضعي الكتاب، يكشف علم الآثار ودراسات الشرق الأدنى القديم بأن العديد من القصص [الكتابية] تضرب بجذورها عميقاً في تربة وقائع سابقة لزمن تجميعها بمئات السنين، حتى أن البعض منها يعود بجذوره إلى الألفية الثانية وأوائل الألفية الأولى ق.م. ولنا أن نتخيل مؤلفي الكتاب و هم يبحثون في الماضي من خلال تلسكوب: كلما اقترب المؤلف من زمن الحدث كلما كانت الصورة أكثر وضوحا. القصص ذات الصلة بظهور إسرءيل هي في حدها تعبر عن وجهة النظر هذه، ولكنها مازالت تحتفظ بأسماء قديمة، ومصطلحات، وأوضاع جغرافية وذكريات غامضة عن أحداث معينة .
بعض هذه الأحداث قد يكون موغلاً في القدم لزمن يسبق ظهور إسرءيل على مسرح التاريخ. فقصة غزو حاصور يمكنها, مثلاً,أن تترسخ في أحد أكثر المشاهد مهابةً للقرن الثالث عشر ق.م, أي, سقوط أكبر مدينة كنعانية في جنوب بلاد الشام. إن ذكرى حدثاً بمثل هذه الأهمية التاريخية الكبيرة ربما انتقلت من السكان الأصليين على مدى عدة قرون حتى تم تكييفها ضمن الكتابة التاريخية الإسرءيلية لاحقا. ويمكن تفسير قصة مثل غزو مدينة عاي كقصة سببية قديمة تنتمي إلى واقع العصر الحديدي الثاني وتسبق زمن تدوينها بقرون. ويمكن لعلم الآثار بمثل هذه الطريقة توضيح الخلفية التي شكلت العديد من القصص في أسفار القضاة وصموئيل، بما في ذلك تلك القصص المتصلة بالمملكة المتحدة.و يمكن لكتابة التاريخ الكتابي بدءً من القرن التاسع ق.م أن تكون موثقة أو يتم إثراؤها عبر مصادر مدونة غير كتابية بالإضافة إلى المصادر الأثرية.
الإطار التاريخي الكتابي لهذه الفترة على ما يبدو أكثر قوة ويمكن الإعتماد عليه. وأخيرا, يمكن، عند التعامل مع عصر الملكية المتأخرة (أواخر القرن السابع ق.م إلى بداية القرن السادس ق.م ) أن تكون تفاصيل النص الكتابي موثقة, فضلاً عن اللقى التي تحمل نصوصا مكتوبة, مثل وجود أسماء بعض الأشخاص المذكورين في الكتاب على الأختام و الدمغات. وهذا لا يعني أن القصص الكتابية التي يتعين اتخاذها في ظاهرها هي تاريخ حقيقي. ويجب تفسير الكثير من القصص باعتبارها حكايات شعبية وتقاليد دُوّنت وحُرّرت على يد مؤلفين لاحقين يمتلكون موهبة أدبية استثنائية ودوافع إيديولوجية ودينية. ومع ذلك، ما زال بمقدورنا-حتى الآن-أن نحفر في الطبقات الداخلية العميقة في هذه القصص، وكشف الوقائع التي تعكسها, ويمكن القيام بذلك في كثير من الحالات عن طريق ربط هذه القصص بالأدلة الأثرية. وفي الوقت عينه يمتلك علم الآثار أيضا القدرة بصورة محتملة على تقديم تاريخيّة بعض القصص الكتابيّة، مثل معظم روايات غزو كنعان. ومن المهم أن ندرك احتمال احتفاظ النص بذكريات تاريخية بعيدة كصدى لحالات وأحداث الماضي من خلال التقاليد الشفوية و المدونة .
وبدلا من" البرهان على صدقية الكتاب، ينشغل البحث الآثاري الحالي في إسرائيل أساسا بتعميق فهمه لجوانب حياة إسرءيل و جيرانها و إعادة بناء هذه الجوانب، بما في ذلك البنية الاجتماعية والاقتصادية والتقنية، والحرب، والممارسات الدينية، وحتى القضايا المعرفية. وهذه مواضيع واسعة لأننا بحاجة إلى أن نستفيد افضل الإستفادة من أفضل أدوات البحث التي يمكن لعلم الآثار أن يقدمها، بما في ذلك التعاون مع طيف واسع من العلوم.
أثار السجال الحالي حول تفكيك التاريخ الإسرءيلي القديم قدراً كبيراً من الإهتمام في وسائل الإعلام، ولكن وجهات النظر المختلفة تركت الجمهور مرتبكا و مشوشا. وقد قارن البعض وجهات النظر هذه باتجاه ما بعد الحداثة في البحث التاريخي للصهيونية من قبل ما يسمى بـ "المؤرخين الجدد" أو "المؤرخون ما بعد الصهيونيين" الذين تقترح روايتهم سرديات بديلة لتاريخ الصهيونية، بعيدا عن التأريخ الصهيوني الرسمي. أنا لست مقتنعا في هذا السياق بأن مثل أوجه التشابه هذه أو الموازيات مناسبة بل ينبغي تجنبها.
علم الآثار والمجتمع الإسرائيلي
خلق تطور الحركة الصهيونية خلال النصف الأول من القرن العشرين الحاجة الطبيعية لإنشاء رموز قومية من شأنها ربط الحاضر بالماضي. ودعا ثيودور هرتزل روايته التي يصف فيها الدولة اليهودية المستقبلية باسم "الأرض الجديدة القديمة Altneuland"، وهو العنوان الذي يمثل فكرته الأساسية عن الصهيونية: عودة الشتات( الدياسبورا) اليهودي المتناثرة إلى وطنهم القديم ,مثّلت هذه الفكرة حجر الزاوية في الثقافة الصهيونية منذ ذلك الحين. وفي هذا الإطار أصبح "معرفة من الأرض" وهي الترجمة الحرة العامة للعبارة العبرية (يديعوت هاآرتس) مكوناً أساسياً من مكونات التربية الصهيونية، وكان علم الآثار جزء من ذلك. وقد حفز هذا الإهتمام من قبل نشاط علماء الآثار الأجانب واليهود. وعلى الرغم من أن معظم البعثات الاستكشافية الآثارية المبكرة أجريت من قبل علماء الآثار الأوروبيين والأمريكيين، فإن الأبحاث اليهودية الآثارية تمت بالفعل في مطلع القرن العشرين، وكان إليعازار سوكينيك يدير منذ العام 1925 بحوثاً أثرية لمصلحة الجامعة العبرية في القدس، حيث تأسس فيها قسم الآثار في العام 1936. ونشطت جمعية استكشاف إسرائيل منذ بداية القرن العشرين في مجال البحوث وكذلك في الترويج لهذا الموضوع. كما تطورت النشاطات الأثرية بصورة هائلة بعد قيام دولة إسرائيل، وأصبح لعلم الآثار مكانة هامة في الحياة الثقافية و التعليمية الإسرائيلية. إن مواقعاً مثل مسعدة وسراديب الموتى اليهود في بيت شعاريم أصبحت أماكن ذات أهمية قومية عليا. وكان من الشائع القول آنذاك بأن علم الآثار في إسرائيل هو هواية وطنية. وكانت الثقافة والتربية الصهيونيتين هما الباعث العميق للكثير من"الآباء المؤسسين" لعلم الآثار في إسرائيل مثل بنيامين مزار، يغال يادين، يوحنان أهاروني، أبراهام بيران، و غيرهم، وإيمانهم الحقيقي بأن أعمالهم سوف تكشف عن الجذور التاريخية للدولة المولودة حديثا في وطنها. وفي الواقع، يغال يادين رئيس هيئة الاركان في جيش الدفاع الإسرائيلي في أعقاب [حرب الاستقلال] عام 1948، درس مع الأبطال اليهود الراحلين مثل يشوع، فاتح حاصور، والمتعصبون في مسعدة، وإسينيين قمران، وباركوخبا. وقد عرف يادين كيف ينشر اكتشافاته في وسائل الإعلام والكتب الشعبية، إلى درجة أنها أصبحت جزءً لا يتجزأ من الثقافة الإسرائيلية، ومعروفة في جميع أنحاء العالم.
ينبغي أن يفهم علم الآثار في مراحله المبكرة مثله مثل أي نزعة فكرية خلفية الزمان والمكان, ومن الطبيعي أنه في ذلك الزمان و المكان في مطلع وبعد تأسيس الدولة فقط سيقوم علم الآثار بلعب مثل هذا الدور الواضح في المهمة الهائلة المتمثلة في بناء الهوية الإسرائيلية.
ومثل هذه النزعات السابقة تراخب في أيامنا هذه. ويعتبر معظم الآثاريين الإسرائيليين الحاليين أنفسهم علماء، ويقومون بإجراء أبحاثهم من أجل البحث فقط (في الأقسام الجامعية لعلم الآثار)، أو في خدمة احتياجات الجمهور (في إطار هيئة الآثار الإسرائيلية) دون وجود أي أجندة سياسية أو أيديولوجية. وهم في معظمهم على بينة من خطورة مزج البحوث العلمية مع الإيدولوجيات الحديثة و السياسة. وغالبا ما يتم التحكم بصور سلبية لجهة استخدام الإيديولوجيا في علم الآثار. و يتعاطى علماء الآثار الإسرائيليين باهتمام مهني و جدّي في مجمل تاريخ البلاد القديم، منذ عصور ما قبل التاريخ الموغلة في القدم حتى القرون الوسطى، وجميع حضاراتها القديمة، والجماعات الإثنية، والأديان. ويزعم البعض بأنه ينبغي للبحوث العلمية أن اؤدي عملها لغايتها الخاصة دون أي دوافع سياسية أوقومية. وهذا الأمر صحيحاً ومقبولًا على نطاق واسع من قبل جميع العلماء. ومع ذلك، دعونا نتذكر بأن الإكتشافات الأثرية في جميع أنحاء العالم تعد جزءً من تراث الأمة و تستخدم, لذلك, في أشكال مختلفة من التربية القومية. والخط الفاصل بين هذا النوع من التعليم، والإستغلال السياسي أو القومي لعلم الآثار يبدو رمادياً أحياناً. وقد خبرنا في إسرائيل صعوبات في بعض الأحيان في كبح جماح مختلف الجماعات ذات الدوافع الإيديولوجية لجهة تكييف واستغلال الإكتشافات الأثرية لصالح الأجندة الإيديولوجية لهذه الجماعات (عند كل من اليسار واليمين للخارطة الإيديولوجية/ السياسية). ويدرك جيداً معظم الآثاريين المحترفين في اسرائيل حتى الآن مثل هذا الخطر، ويبذلون جهوداً لتجنب مثل هذه الإستخدامات عن الماضي. ويسعون لتقديم صورة موضوعية قدر الإمكان بدلاً من المبالغات في عرض و تفسير و شرح الإستكشافات الأثرية.
رسالة وإرث علم الآثار
ما هو التراث أو الإرث الذي سنتركه-نحن الآثاريين- وراءنا للأجيال القادمة؟
من الواضح أننا نسعى إلى أن نخلف ورائنا مؤلفاتنا ومنشوراتنا الأكاديمية في شكل تقارير عن عمليات الإستكشاف وكتب تعليمية وأوراق بحثية ومع ذلك تظل هذه في معظمها في نطاق الدوائر الأكاديمية الضيقة. الكتابة الشعبية، بما في ذلك العروض الموجزة التي يسهم بها بعض الباحثين و المختصين على قدر من الأهمية سواء لعامة الناس أم للباحثين في المجالات ذات الصلة مثل الدراسات الدينية والكتابية، والذين ليس لديهم الخبرة اللازمة للولوج إلى تفاصيل الدراسات الآثارية. الكتب الشعبية وشبه الشعبية والمجلات مثل مجلة "نير إيستيرن أركيولوجي"- الشرق الأدنى وعلم الآثار و "بيبلكال أركيولوجي ريفيو" -مراجعات علم الآثار الكتابي أو قدمونيوت Qadmoniot باللغة العبرية تزود الجمهور الأوسع بنتائج أبحاثنا.
و تكمن المشكلة في أنه يمكن للكتب الشعبية والمجلات في بعض الأحيان (و و وسائل الإعلام عموماً)،تشويه أو تضخيم الإكتشافات الأثرية والتفسيرات كمحاولة لجذب الجمهور. وتميل وسائل الإعلام العامة (لاسيما البرامج التلفزيونية) في كثير من الأحيان إلى التأكيد على استثنائية وجذرية النظريات ووجهات النظر الجديدة، وهي بذلك تساهم في تشكيل وجهة نظر مشوهة عن مهنتنا من قبل الجمهور ومثال على ذلك هو الضجة الإعلامية الكبيرة التي أعطيت للآراء غير المقبولة للكرونولوجيا المقترحة من قبل إيمانويل فيلكوفسكي؛ أو الاهتمام بما طرحه إيمانويل أناتي حول المطابقة المستحيلة لجبل سيناء بجبل هار كركوم(، السلسلة الجبلية التي تقع في النقب الجنوبي) حيث اكتشف هناك أدلة لممارسات لعبادة قديمة؛ ولكن وحيث أن دليله يأتي من زمن يعود للألفية الرابعة أو الثالثة ق.م، فهولا علاقة له مع جبل سيناء. وينطبق أمر الضجة الإعلامية ذاته في كثير من الأحيان اكتشاف سفينة نوح، أو تابوت العهد المقدس.
تقدم البحوث الأثرية رسالة مهمة للإسرائيليين-اليهود و العرب على حد سواء-، ولعموم الجمهور خارج إسرائيل. وينبغي التنبيه بأن معرفة الماضي ومعرفة تراثنا اليهودي آخذة في التقلص ضمن أطياف عريضة مجتمعنا ونحن بحاجة إلى تعزيز هذه المعرفة. و يمكن للقصة التي يرويها علم الآثار أن تروى بصرياً، وبالتالي تصبح أكثر حميمية من خلال زيارات المواقع والمتاحف، والمشاركة في عمليات التنقيب، والمحاضرات، والبرامج الإعلامية المسؤولة. بمثل هذه الطريقة يمكن لعلم الآثار أن يكون بمثابة أداة تعليمية مهمة توفر فهم أفضل عن الماضي.
ثمة جانب آخر مهم للدور التعليمي لعلم الآثار،وهو حفظ وصيانة المواقع الأثرية. والمواقع الكتابية على وجه الخصوص معرضة للخطر، نظراً لأن لصعوبة الحفاظ عليها بطريقة صحيحة, إن لم يكن مستحيلا في كثير من الأحيان. إن مواقع في إسرائيل مثل تل دان، وحاصور ومجدو، وبيت شان، والقدس وتل القسيلة، ولخيش، وبئر سبع، وعراد تم الحفاظ عليها جيداً، والبعض منها بات الآن جزء من نظام المتنزهات القومية في إسرائيل. وقد شملت اليونسكو في العام 2006 ، ثلاثة منها (هي حاصور ومجدو، وبئر السبع) في قائمة التراث العالمي، الأمر الذي يمنحها وضعاً خاصاً ودعاية في جميع أنحاء العالم. ومازال تراث علم الآثار الكتابي يلقى التقدير و الاحترام ويُدرّس. و قد حاز على قدر كبير من الإهتمام في أوساط المجتمعات اليهودية والمسيحية على حد سواء. إن نظام التعليم في إسرائيل يشمل فصولا مختارة في علم الآثار كجزء من دراسة الكتاب [المقدس] أو من تاريخ أرض إسرائيل، علما بأن هذه الجهود من وجهة نظري غير كافية. كما يُدرّس علم الآثار في الجامعات الخمس في إسرائيل كافة، إما كموضوع قائم بذاته أو كجزء من برنامج أوسع من الدراسات الكتابية و دراسات الشرق الأدنى. وهناك عدد لا بأس به من الجامعات في أميركا وأوروبا، وعدد قليل في الشرق الأقصى (اليابان وكوريا الجنوبية) توفر برامج دراسية في هذه المجالات ضمن طيف واسع و متنوع من الأطر و البيئات الأكاديمية.
أصبح علم الىثار في العديد من المدارس اللاهوتية وأقسام الدين أو الدراسات اليهودية في الولايات المتحدة جزءً من المنهاج الدراسي العادي، أو من موضوع أوسع نطاقاً يشار اليه باسم "خلفيات الكتاب". ويشارك سنويا المئات من الطلاب وغيرهم كمتطوعين للتنقيب عن الآثار في إسرائيل والأردن، كما تدير العديد من هذه البعثات الأثرية أيضا برامج تعليمية معتمدة أو مدارس عمل ميداني. وهكذا، فرسالة علم الآثار الكتابي معقدة كما تبدو عليه، ولاتزال مستمرة في الانتشار. وهو لا يزال جزءا لا يتجزأ من ثقافتنا الغربية ومن إرثنا.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن