نحن المسؤولون عن الجاري

محمود عباس
mamokuda@msn.com

2019 / 5 / 14


يتأسف الناقد والباحث القدير (إبراهيم محمود) من قلة قراءه، علما أنها حالة طبيعية، تعكس حقيقة مجتمعنا، ولا شك أنه يسير في الاتجاه الصحيح، ويتطلب منه ليس العزلة، والابتعاد عن الإعلام، أو عدم النشر في المواقع الكردية، فبهذا سيخسر المجتمع الكثير من إنتاجه القيم والثمين، وما نؤمل منه الاستمرار في كتاباته النقدية والفكرية كالسابق، فتغييبها حرمان المجتمع من توجيهاته المصححة للمسيرة الكردية. فقراءة مئة مثقف من النخبة لمقال له أو لأي كاتب نوعي يفعل الكثير، حتى ولو أن نتائجها قد لا تظهر الأن، فمجتمعنا الكردي يحتاج إلى تكثيف جهود روادنا لتحفيزهم الكف عن الخمول السائد. فلو كان عدد قراء المقالات والأبحاث والكتب الجادة والمثمرة كبيرا، ولو لم يكن نسبتهم في المجتمع عالية، لما كان شعبنا حينها بحاجة إلى الرواد أو إلى الكثير من جهدهم، بل لحل محلهم، أو أصبحوا، شريحة تطويريه للفكر والخدمات، كما يحصل الأن في العالم الحضاري. فمن المعروف وعلى مر التاريخ واجه المفكرون ورواد الثقافة مقاومة عنيفة من المجتمع قبل السلطات، وكثيرا ما كانت بمثل الحالة التي تنغص كاتبنا إبراهيم محمود وأمثاله في الحركة الثقافية الكردية، كحالة قلة القراء، علما أن النخبة هي التي تقرأ، ونسبتهم عادة قليلة، فلا ضير في هذا.
ومن المؤسف أن الواقع الجاري، أحيانا، ولظروف ذاتية قبل أن تكون موضوعية، تدفع بأمثال باحثنا وآخرين من رواد حركتنا الثقافية، على الوقوع في بعض الأخطاء: بحق المجتمع، كالموقف من الشعب قبل القراء كتحجيم نشر مقالاتهم. وأخرى بحق ذاتهم، عندما يضطرون إلى كتابة دراسات وأبحاث يطمحون من خلالها الحصول على جلب الانتباه، وفي كثيره لربما لا يحتاجون إليها أصلا، أو كما يقال لمصلحة ذاتية، والتي أصبحت ملكا للشعب، هذا الشعب الذي نادرا ما يراعي ألامهم ومعاناتهم الشخصية بقدر ما يهمهم أفكارهم ومفاهيمهم، وهذه تتلقفها الشريحة التي لها بالغ التأثير.
أو أقدموا على عمل ربما خدمة للبعض، ومضار هذه قد تعود على المجتمع قبل أن تعود عليهم، وعلى القضية ومسيرة الحركة التنويرية مستقبلا، أقول هذا، لأن خطأ الرواد والمنورين في مجتمعنا كثيرا ما يكون أخطر من خطأ السياسي في المجتمعات الحضارية، فواحدة منها قد تؤدي إلى خسارة مصداقيتهم أمام القراء وبالتالي أمام العامة من الشعب.
فلو كان مجتمعنا على دراية كافية من التمييز بين المفاهيم والكتابات المتناولة، لما ظل يتهافت على الدراسات التاريخية التي فقدت أهميتها بالتقادم. ما فعلته بريطانيا وفرنسا، لا يمكن تصحيحه، فقد أصبح أمراً مقضياً، وعلينا أن نبحث في واقع الحال لنستخلص منه سبل التحرر، ولما قارناه بطغيان السلطات والأنظمة التي خلقوا لنا المصائب، علما أنه بينهما مسافات فكرية وثقافية وسياسية، كالهوة بين الحضارة وعصر الظلمات.
بدأنا ندرك بعض ما يحل بنا، ولا نتوقع ما سنؤول إليه مستقبلا، ونعلم أن ما بنيت عليها الشرق الأوسط، كانت من نتائج اقتضاء مصالحهم، المفضلة على القيم والأخلاق وحقوق الشعوب، مع ذلك فيما إذا كنا على دراية ووعي علينا أن نعلم أنه لا فائدة من معاتبتهم، واليوم الأمريكيون والروس لا يشذون عما سبقهم. ونتناسى أننا من حينها وحتى اللحظة في دارنا على خلاف، ولا زلنا غير كفوئين على إدارة ذاتنا، ونبتعد عن القيم الديمقراطية، التي نتداولها في أحاديثنا كل لحظة، فمن المفروض الانتقال من المتداول إلى التطبيق الفعلي، لكننا وللأسف لا نبدي الجدارة المواكبة مع العصر، مع ذلك نتهم القوى الكبرى على تغييب حضورنا أو عدم تقبلنا كممثلي شعب بدون دولة، وهذه دلالة ضعفنا حينما نلقي العتب على تلك القوى كما أسلفنا أكل عليه الدهر وشرب.
ملأنا صفحات تاريخنا الحديث على هذا النهج، وتناسينا أن عشائرنا وقادتنا لم يكونوا على سوية بناء دولة، وكنا بشكل أو أخر على أطراف الحضارة، فمعظمنا لا نعالج تاريخنا وندرسه على هذا المنحى، بل لا زلنا مقارنة بالشعوب الحضارية والدول المحيطة مستمرون على جهالتنا في معالجة قضايانا. وإن بقينا هكذا دون الشراكة في معالجة هذه المعضلة سنظل في دوامة الظلمة، وسيتيه المجتمع ما بين أحزاب كردية سياسية وقوى تدمر إمكانيات الأمة، أو تدفعها لنخسر المكتسبات الحاصلة عليها، فخلافاتنا بسوياتها الحالية كافية لهدم معنويات الشعب ولفترة زمنية أخرى مديدة مماثلة لماضينا.
فرغم ما يظهر بين نهضة فاشلة وأخرى، رواد يحاولون إزالة غشاوة القرون الماضية، تظل الآفات المتراكمة، وتستمر الضحالة المعرفية، لأن الجهود لا تزال ضمن النبض الفردي المتناثر، ولم تبلغ مرحلة التعامل الجمعي، لتكوين قوة فكرية متكاملة لمواجهة المفاهيم المسيطرة، وهي ما تدفع بالحراك السياسي على تحييدهم، وكثيرا ما يبعدون المجتمع عنهم، وبالتالي يظل قسم واسع من الشعب وحراكه السياسي مفضلا استخدام طرق البحث القديمة المغذية لإدامة تخلفنا، ونظل نبرأ النفس بإلقاء العتب على الدول الكبرى.
ومن هذا المنطلق، لا بد من اتهام البعض الذين أغرقوا أوروبا وشعوبها في الحروب المدمرة والمجازر الرهيبة، وأخرهما الحربين العالميتين، والذي رافقه الظلام الفكري الثقافي الروحي على مدى قرون طويلة. لا شك أغلبيتنا سيقول إنهم المذنبون وهم من فعلوها بذاتهم، ولكننا لا ننتبه أنهم فيما بعد تمكنوا من إنقاذ ذاتهم وثقافتهم من الكوارث، وبنوا مكانها حضارة تبهر شعوب العالم.
وهنا ولربما وهذا المنطق البسيط، المقال بحذر وعلى مضض حتى في وسطنا الثقافي، نلاحظ أن الحركة الثقافية الكردية في حاضرنا لا يقل مقدرة عن الحركة الثقافية الأوروبية في بدايات المرحلة التنويرية، ولربما في مجالات ما يمتلكون أمكانيات أوسع وأعمق، فقط ما نحتاجه إليه هو تسخير أدبنا لتوعية شعبنا وإدراجه لخدمة الأمة، وليس لشخصيات وقوى سياسية، ونعني هنا ليس فقط دراسة ما قدمه روادهم من الفلاسفة والأدباء المتنورين، بل مجمل القدرات الثقافية والفكرية التي خلقت حالة نفسية بين المجتمع والمؤدية إلى تطوير حركتنا التحررية.
وعلينا أن نتمعن في المفاهيم المطروحة حينها والتي أدانوا بها ماضيهم، وكيف أنهم لم يتساهلوا معه، بل كتبوا فيه بصدق وأخرجوه من ركام النفاق والتحريف، إلى حيث الشفافية، وتمكنوا من اخذ العبر منه، وعليه كان حكمهم على ماضيهم قاسيا، إلى أن وجدوا ذاتهم المذنب الأول والأخير فيما تم، أو كما يقال عرضوا العامل الذاتي قبل أي عامل خارجي، ولا يعني هذا انهم انفكوا عن ماضيهم أو تخلوا عن ثقافاتهم المتوارثة، بل شذبوها مثلما حرروا صفحات الماضي من الغث إلى درجة عدم قدرتها على التأثير على مفاهيم المجتمع، واحتفظوا به مصفوفا فوق رفوف المكتبات بكل غثه وتحريفاته.
ولا شك بما أن المجتمع البشري بدأ الأن يلوج عالم انعدام الزمن في نقل الأفكار، وتوصيل المفاهيم، واختصار المسافات إلى الصفر أحيانا، نتأثر بطريقة أو أخرى بالعوامل الموضوعية، لكن في جوانبها الإيجابية الحضارية قبل السلبية فيما إذا كنا على سوية المعارف المتهافتة.
فلابد من تسخير هذا العالم الانترنيتي للاستفادة من تجارب الشعوب الحضارية وحركات التحرر العالمية، حتى ولو كنا لا نزال بعيدين عن إدراكها كما يتطلب، لكن بيئتنا الثقافية تكمن فيها بذور التنوير بل وبعضه متنامي، علما أن الشعب لا يزال لا يرى شريحة روادنا ومفكرينا إلا طفرة غير مستساغة، وعليه فالإقبال ضعيف على كتاباتهم المتنامية، بل وكثيره يظل في العتمة أو يقرأ في وسط ضيق، وشريحة قراءها تكاد لا تتجاوز العشرات من بين الملايين من الكرد، وهنا نكاد أن نواجه نفس الواقع الذي أصطدم به المتنورون الأوربيون في العقود الأولى من عصر النهضة، فعلى سبيل المثال، طبع أربعون نسخة فقط من الجزء الرابع من كتاب هكذا تكلم زرادشت لنيتشه، ومعظمها وزعت على الأصدقاء، وكثيرا ما كان نيتشه يعاتب ناشره على أن كتبه لا تلقى الترويج لعدم تسويقه لهم، إلى أن أشترى حقوق نشر مؤلفاته، مع ذلك لم يحصل كثير تقدم، ويكاد منورينا ومعظم أدباءنا يعانون الإشكالية ذاتها، علما أننا نعيش عصر الإنترنيت وسهولة نقل المعلومات وبساطة المقارنة بين المفاهيم الحضارية المطروحة والقديمة المبثوثة في مجتمعنا.


د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
10/5/2019م



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن