تركيا والانحدار السلطوي

جلبير الأشقر
g.achcar@gmail.com

2019 / 5 / 8


يقولون أن مقياس الديمقراطية ليس الفوز بالانتخابات بل القبول بخسارتها. وهو قولٌ صحيح إذ أن ما يميّز الديمقراطية النزيهة عن السلطوية التي تستخدم الانتخابات وسيلة لإضفاء صبغة الشرعية الديمقراطية على حكمها (خلافاً للاستبداد الفظّ الذي يحكم بلا انتخابات أو بإجراء انتخابات صوَرية على طريقة ما اعتادت عليه شعوب منطقتنا من طقوس لدى الأنظمة «الجملوكية» كالنظامين البعثيين العراقي والسوري أو نظام القذّافي)، إن ما يميّز الديمقراطية النزيهة، إذاً، هو بالتأكيد الاستعداد الحقيقي لتسليم السلطة للخصوم والمنافسين لو فازوا بالأغلبية.
وفي ضوء هذا المقياس تحديداً أشاد العديد من المعلّقين الصادقين بنتائج الانتخابات المحلّية التركية الأخيرة، التي جرت في نهاية شهر مارس/ آذار الماضي، إذ أسفرت عن خسارة التحالف الحاكم لأهم مدن البلاد، بما فيها العاصمة السياسية أنقرة والعاصمة السكّانية والاقتصادية اسطنبول. (قلنا «المعلّقين الصادقين» لنميّزهم عن جماعات تقريظ اردوغان لأسباب عقائدية من باب «انصرْ أخاك في العقيدة ظالماً أو مظلوماً»). بيد أن المعلّقين المذكورين تسرّعوا في الإشادة بالديمقراطية التركية في ضوء النتائج المعلنة، إذ لم يميّزوا بين الخسارة الانتخابية والإقرار بها، فامتدحوا النظام السائد في تركيا حال إعلان نتائج الانتخابات وقبل أن يقرّ النظام بخسائره الأهمّ فيها.
والحال أن التحالف الحاكم، وهو يتألف من »حزب العدالة والتنمية«، بزعامة الرئيس التركي رجب طيّب اردوغان، و«حزب الحركة القومية»، حزب أقصى اليمين القومي التركي (ذراعه الميليشياوي «الذئاب الرمادية»)، التحالف الحاكم هذا لم يتأخر عن الطعن بنتيجة الانتخابات في أنقرة واسطنبول بعد أن كان قد أسرع إلى إعلان فوزه في هذه الأخيرة، ولم يقرّ بتاتاً بهزيمته. وقد تركّز مجهود التحالف الحاكم الرامي إلى الطعن بنتيجة الانتخاب على مدينة اسطنبول، إذ أن فارق الأصوات جاء فيها أقل بكثير مما في أنقره، فضلاً عن أن بلديتها أكثر أهمية نظراً لكونها مدينة عملاقة.
والحقيقة أن هذا النمط من التمسّك السلطوي بالحكم ليس بالجديد، بل غدا سمة اردوغان الرئيسية منذ أن فقد حزبه الأغلبية المطلقة في الانتخابات البرلمانية لعام 2015، فحداه الأمر على حلّ المجلس المنتخَب وإجراء انتخابات جديدة بعد بضعة أشهر في العام ذاته. وترافق ذلك مع تغيير نهجه السياسي بصورة جذرية توخّياً للفوز بأي ثمن، بحيث عقد تحالفاً سياسياً مع «حزب الحركة القومية»، كان ثمنه إعادة إشعال الحرب ضد الحركة القومية الكردية بعد سنوات طوال كانت خلالها إحدى خير سمات حكم اردوغان أنه حقّق هدنة طويلة مع تلك الحركة.


ومع ذلك، فإن منعطف اردوغان السياسي لم يكفِ كي يعوّض عن امتعاض عدد متزايد من الأتراك من انزلاقه نحو السلطوية ومن فساد حكمه المتعاظم، لاسيما المحسوبية التي يشكّل أبرز المنتفعين منها صهره، وزير المالية والخزانة برات آلبيراق، وهو المشرف أيضاً على السياسة الاقتصادية الفاشلة التي تسير بتركيا نحو الهاوية مع تزايد مطّرد في البطالة وارتفاع الأسعار. فبالرغم من انتهاز اردوغان فشل المحاولة الانقلابية التي حيكت ضدّه في عام 2016 كي يصفّي مؤسسات الدولة من معارضيه، وذلك بتسريح حوالي 150،000 موظّف (عِشر موظفّي الدولة التركية!) ويُحكم سيطرته على تلك المؤسسات، لم يفُز بالاستفتاء الدستوري الذي نظّمه في العام التالي كي يعزّز صلاحياته الرئاسية، وبالتالي تمركز السلطة بين يديه، سوى بأغلبية ضئيلة (فارق ثلاثة بالمئة) وذلك وسط احتجاجات شديدة من قِبَل المعارضة التي أشارت إلى جملة واسعة من الممارسات المنافية للديمقراطية وللقوانين، ولم تحصل حتى على إعادة فرز الأصوات الذي طالبت بها. وانسجاماً مع هذا النهج السلطوي، رفض التحالف التركي الحاكم نتيجة انتخابات بلديّة اسطنبول وطالب، بل فرض إعادة فرز الأصوات فيها. ولمّا جاءت إعادة الفرز تؤكد فوز مرشّح «حزب الشعب الجمهوري»، أهم أحزاب المعارضة، طالب التحالف الحاكم بإعادة إجرائها كاملة، مدّعياً أن نتيجتها شابتها عيوبٌ من شأنها تشويه العملية الديمقراطية. وقد تكون هذه المرّة الأولى في التاريخ يحتجّ فيها على إفساد الانتخابات حزبٌ سيطر على مؤسسة ما، بلديّة اسطنبول في هذه الحالة، لمدّة خمسة عشر عاماً بلا انقطاع، وذلك في ظل حكم الحزب ذاته للبلاد بصورة متواصلة. والحال أن المسؤولين عن الإشكالات الإدارية التي تذرّعت بها غالبية أعضاء «اللجنة العليا للانتخابات» التركية، وهم مدينون بمناصبهم للحزب الحاكم، أناسٌ عيّنهم الحزب ذاته، الذي لم يستطع قط أن يتّهم المعارضة بالتزوير لما كان مثل ذلك الاتهام سوف يثير من استغراب وتهكّم.
أما سبب هذا التمسّك العنيد ببلدية إسطنبول، فليس بالسياسي صرفاً بالطبع، ولا يفوت أي مدرك لأمور السياسة أن السيطرة على مؤسسة كبيرة، سواء أكانت دولة برمّتها أم بلدية مدينة كبيرة، إنما تفسح المجال أمام شتى أنماط الانتفاع والمحسوبية والانحياز السياسي. فبلدية اسطنبول تمنح آلاف العقود في شتى المجالات، لاسيما البناء والأشغال العامة والخدمات على اختلافها، وهي عقود تفلت في تركيا من أنواع الرقابة الصارمة والمستقلة التي تعرفها الدول الغربية (وحتى تلك لم تستطع منع حصول بعض «الفضائح»، التي أدّت إلى سجن المسؤولين عنها).
وقد كشفت مراسلة صحيفة «نيو يورك تايمز» (3/5/2019)، كارلوتا غال، نقلاً عن صحافة المعارضة التركية، عن بعض ما يجري وراء ستار بلدية اسطنبول، وهذه بعض الأمثلة المتعلقة بتمويل الجمعيات في العام الماضي وحده: منحت البلدية 74 مليون ليرة (13 مليون دولار) لجمعية الشباب التركي التي يشارك ابن اردوغان الأصغر، بلال، بإدارتها؛ 51 مليون ليرة (9 ملايين دولار) لجمعية الشابات والتربية التي تشارك ابنة اردوغان، إسراء، زوجة برات آلبيراق، بإدارتها؛ 41 مليون ليرة (7 ملايين دولار) لجمعية الفريق التكنولوجي التي يترأسها صهر اردوغان الآخر، زوج ابنته سميّة، سلجوق بيرقدار. هذا وينجلي سببٌ رئيسي من أسباب تمسّك اردوغان العنيد ببلديّة اسطنبول في وعد مرشّح المعارضة الفائز بانتخابات نهاية مارس/ آذار، أكرم إمام أوغلو، بالتدقيق بكافة حسابات البلدية وكشفها للجمهور بينما تكتنفها السرّية في الوقت الراهن. وقد أدرك الجميع أن جماعة الحزب الحاكم التي كانت مُشرفة على البلدية قد انتهزت فرصة تأخير تسليم مقاليدها حتى يعاد فرز الأصوات، كي تسحب كافة الملفات المُحرجة من مقرّ البلدية.
وماذا بعد؟ لو قبلت المعارضة بخوض الانتخابات المكرّرة في اسطنبول بدل مقاطعتها، هل يرضخ اردوغان لضغوط شخصيات بارزة من أعضاء حزبه، كرئيس وزرائه السابق أحمد داود أوغلو، تعارض انزلاقه نحو الانفراد بالحكم، فيسمح بإجراء انتخابات نزيهة خاضعة لإشراف ديمقراطي كامل من قِبَل المعارضة، أم يستمرّ في انحداره السلطوي ويُجري انتخابات أشبه بما تعوّدنا عليه في البلدان العربية؟ الأمر المؤكد الوحيد هو أنه لو اختار الطريق الثاني، لوضع الدولة التركية برمّتها على كفّ عفريت.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن