تحديث مصر: والبداية مع عهد محمد على

طلعت رضوان
talaaatradwan@yahoo.com

2019 / 5 / 3

تحديث مصر: والبداية مع عهد محمد على
طلعت رضوان
عرفتْ الحضارة المصرية أهمية الأسطول البحرى ، لدرجة الوصول إلى أفريقيا وبلاد الشام، وامتدّ هذا الدورحتى نهاية العصرالبطلمى..ولكن مع تعدد الغزاة الذين احتلوا مصر.. من رومان وعرب إلخ ، إلى أنْ كان آخرالغزاة الأتراك الذين رأوا (فتح مصرالمُـغلقة دائمًـا وفقــًـا لتعبيركل الغزاة)..وكان الغزوالأخيرتحت اسم (الخلافة العثمانية) لذلك فإنّ البحرية المصرية لم تشهد أى تطوربعد المجد الذى حظيتْ به طوال عصورالحضارة المصرية..ولكن مع وصول محمد على إلى حكم مصر (1805- 1848) تغيـّـرالأمروتـمّ تجديد وتطويرالأسطول المصرى.
كانت البداية عندما التقتْ رغبة السلطان التركى..وإرادة محمد على للقضاء على الحركة الوهابية..فأنشأ الأسطول المصرى لنقل الجنود والمعدات عبرالبحرالأحمر إلى موانىء الحجاز..ولتحقيق هذا الهدف استفاد من (ترسانة بولاق) التى أنشأها الفرنسيون..وذكرالجبرتى أنّ محمد على ((شرع فى إنشاء مراكب لبحرالقلزم..وطلب الأخشاب اللازمة..وأرسل المُـتخصصين لقطع أخشاب التوت والنبق من ريف مصر..وفى بضعة أشهرتمكــّـنتْ ترسانة بولاق من إنجازثمانية عشرمركبـًـا، تـمّ تنصيبها بميناء السويس..وكانت حمولة كل منها تتفاوت بين مائة ومائتين وخمسين طنا (المصدر:المعية السنية- محفظة رقم1وثيقة رقم23ص109)
وفى شهرأغسطس1811تجمّـع فى ميناء السويس63سفينة..وكان الأسطول المصرى الذى توجـّـه للقضاء على الوهابيين، يتكوّن من مختلف أنواع السفن..ولكل منها مهمة خاصة..وقد امتدتْ الحملة المصرية (فى شبه الجزيرة العربية) من سنة1811- 1818..هذا فضلا على امتداد النفوذ المصرى على البحرالأحمرالذى يعتبرالطريق المؤدى إلى الهند..وهنا بدأ محمد على يـُـثيرمخاوف بريطانيا..خاصة عندما استولى ابنه إبراهيم على (منطقة تهامة باليمن) فخشيتْ بريطانيا أنْ يكون ذلك مقدمة لسيطرته على (عدن) والتحكم فى مدخل البحرالأحمرالجنوبى..مما يـُـهـدّد مصالح بريطانيا الاستعمارية.
000

وأعتقد انّ المؤرخ المنصف لا يستطيع إنكار أنّ الحملة الفرنسية على مصر غزو مسلح ، استهدف احتلال أرض ونهب موارد شعب . لكن المؤرخ المنصف لا ينكر أنّ مصر منذ هذا التاريخ (1798- 1801) بدأتْ تستيقظ من غفوة طويلة استمرّتْ عدة قرون ، تكاثفتْ فيها الظلمات. وكانتْ آخر جيوش الظلام الخلافة العثمانية. وكانت ثمة بداية جنينية وضع بذرتها (على بك الكبير) الذى تولى (إمارة) مصرعام 1754. وبعد أنْ تخلص من خصومه المماليك عزم على أنْ يستقل بمصر عن تركيا. فخلع الوالى محمد الأوزفلى وأعلن استقلال مصر عن الخلافة العثمانية. كما أوقف دفع الجزية وتخلص من الموظفين الموالين لتركيا. وبهذا يكون على بك الكبير أول من حاول الاستقلال بمصر عن تلك الخلافة التى كرّستْ الاستبداد والتخلف منذ عام 1517.
أما محمد على الذى تولى الحكم عام 1805فهو مؤسس مصر الحديثة. فأرسل البعثات إلى أوروبا وبدأ بإيطاليا لدراسة الفنون العسكرية وبناء السفن والطباعة والهندسة. ثم التركيز بعد ذلك على فرنسا. وبلغ إهتمامه بأعضاء البعثات أنه كان يتقصى أخبارهم ويتتبع سلوكهم ويُواليهم بالنصائح ويكتب إليهم الرسائل ليستحثهم على الاجتهاد. ونظرًا لدور محمد على فى النهضة كتب سفير النمسا فى تركيا عام 1830إلى حكومته ((إن طموحًا كبيرًا يُسيطر على حاكم مصر محمد على . وأعتقد أنه بحاجة إلى عشر سنوات من السلام حتى يجعل مصر الأمة الخامسة فى العالم بعد روسيا وإنجلترا وفرنسا والنمسا. كما أنّ فيها أسطولا جبارًا وموارد كافية لزيادة الجيش والأسطول ثلاثة أضعاف . وإدارة فى غنى عن مد يدها إلى الأتراك وغيرهم))
كان التعليم فى مصر(قبل محمد على) يعتمد على الكتاتيب ففكر فى إنشاء مدرسة للهندسة لتخريج مهندسين من أجل العمران . فكانت مدرسة الهندسة عام 1816وذكر الجبرتى أنّ السبب فى إنشائها أنّ رجلا مصريا اسمه حسين شلبى عجوه اخترع آلة لضرب الأرز وتبيضه. وقدّم نموذجها إلى محمد على فأعجب بها. وأنعم على الرجل بمكافأة وأمره بتركيبها فى دمياط وأخرى فى رشيد. وذكر الجبرتى أيضًا أنّ محمد على قال عن صاحب الاختراع ((إن فى أولاد مصر نجابة وقابلية للمعارف)) وأنشأ مدارس الطب والألسن والصيدلية والزراعة والطب البيطرى إلخ
ومن إرهاصات النهضة ما ذكره رفاعة الطهطاوى (1801- 1873) أنّ أستاذه حسن العطار كثيرًا ما كان يُردّد أمامه ((إنّ بلادنا لابد وأنْ تتغير أحوالها ويتجدّد بها من المعارف ما ليس فيها)) كما أنّ حسن العطار الذى عيّنه محمد على شيخـًا للأزهر ألف العديد من الكتب ، فبجانب كتبه فى الفقه وأصول الدين وعلم الكلام والمنطق والنحو، ألف أيضًا كتابًا فى الطب الذى يُعد من أهم كتب الطب فى بواكير القرن 19وأكد فيه على التشخيص التجريبى فى الطب الباطنى (د. أحمد عبدالجواد- تاريخ وفلسفة العلم فى مصرمنذ القرن 19- هيئة قصورالثقافة2007ص156)
ومن الأسماء التى ساهمتْ فى شق طريق النهضة لإنشاء جامعة لشعبنا (عام 1908) حسن باشا إبراهيم (1844- 1917) الذى تعلم فى مصر ثم أكمل دراسته فى باريس وميونخ وبرلين. وتم انتخابه رئيس شرف لمدرسة الطب. ومن مؤلفاته (الدستور المرعى فى الطب الشرعى) ، (جامعة الدروس السنوية فى الأمراض الباطنية- جزءان) و(روضة الآسى فى الطب السياسى) وأيضًا محمود باشا الفلكى (1815- 1885) الذى تخرّج فى مدرسة المهندسخانة ببولاق عام 1839عندما كان مديرها (شارل لامبير) وهو من أتباع السان سيمونيين الذين وصلوا مصر عام 1833. تولى محمود باشا الفلكى تدريس الجبر وحساب المثلثات والهندسة التحليلية وحساب التفاضل والتكامل وبدأ فى تدريس علم الفلك عام 1842. ونظرًا لأهمية هذا العالم المصرى كتب عنه العالم (باسكال كروزيه) مقالا فى دورية مصر والعالم العربى بعنوان (مسار عالم مصرى من القرن 19) (المصدر السابق- ص 126، 260)
كان رفاعة ابن تلك المرحلة التى شهدتْ بداية الانعتاق من عصور الظلمات، لذا نجده يقع فى التناقض بين انبهاره بالعلوم الأوروبية وبين سيطرة المرجعية الدينية على أفكاره، وهو ما عبّر عنه شعرًا فكتب ((أتوجد مثل باريس ديار/ شموس العلم فيها لاتغيب/ وليل الكفر ليس له صباح/ أما هذا وحقكم عجيب؟)) رغم هذا كتب فى كتابه (تخليص الإبريز فى تلخيص باريس) عن حجاب المرأة ((إنّ وقوع اللخبطة بالنسبة لعفة النساء لا يأتى من كشفهنّ أو سترهنّ ، بل ينشأ من التربية الجيدة أو الخسيسة)) وعن حق المرأة فى العمل كتب ((إنّ العمل يصون المرأة ويُقرّبها من الفضيلة)) وذكر د. رفعت السعيد أنّ رفاعة فرض على نفسه أمام زوجته أنْ يبقى معها وحدها على الزوجية دون غيرها من زوجة أخرى أو جارية بنظام ملك اليمين. ووثيقة الزواج محفوظة بالقلعة ضمن ملف رفاعة ومحررة بخطه وموقعة منه ومختومة بخاتمه.
وذكر محمد لطفى جمعة أنه أتقن اللغة الإنجليزية منذ أنْ كان فى السنة الرابعة الابتدائية. وأنّ التدريس باللغة الإنجليزية شمل الرياضيات والكيميا والطبيعة والجغرافيا والتاريخ . ورغم سخريته من ذلك كتب ((لقد خدمتنى اللغة الإنجليزية أجل خدمة لأننى اطلعتُ بواسطتها على الكتب والمجلات والصحف التى تـُطبع فى أوروبا)) وعن أساتذته- من مصريين وأوروبيين- كتب ((ولكن أشهد وأقول أنّ مجموعة الأساتذة فى مدرسة ابتدائية ريفية فى أواخر القرن 19 كانت أرقى من مجموعة أساتذة مدرسة عليا أو جامعة فى أواسط القرن العشرين)) (مذكرات محمد لطفى جمعة- هيئة الكتاب المصرية- سلسلة تاريخ المصريين رقم 183- أكثر من صفحة)
وذكر الأديب نجيب محفوظ أنه عندما كان طالبًا فى كلية الآداب فإنّ عميد الكلية (طه حسين) كان يُنبّه على الأساتذة ألاّ يسمحوا للطلاب بكتابة المحاضرات ، إنما يكتبون أسماء المراجع، لأنه كان يرفض أنْ (يحفظ) الطالب ما يقوله الأستاذ. وكان يقول للطلبة ((اكتبوا المحاضرات مما استوعبته عقولكم ولديكم المراجع فى مكتبة الجامعة)) ويؤكد هذا المعنى ويُعمّقه د. عبدالحميد العبادى فى رسالة منه إلى طه حسين بتاريخ 25/8/1930عبّر فيها عن نظام التعليم الذى يتمناه ((عاوز أبث فى الطلبة روح طه.. روح البحث والجدل و(الخناق العلمى) كما يقول أستاذنا لطفى السيد)) (إبراهيم عبدالحميد- رسائل طه حسين- مكتبة الأسرة عام 2000ص12، 109)
وكتب لويس عوض أنه عندما كان فى مدرسة المنيا الثانوية ((لم تكن هناك دروس دين وإنما حلتْ محلها مادة (الأخلاق) ومادة أخرى اسمها (التربية الوطنية) كنا نتعلم منها مبادىء المساواة فى الحقوق والواجبات فى المجتمع. وحتى فى مرحلة التعليم الابتدائى كانت مادة الدين اختيارية لا يجوز مساءلة التلميذ فيها فى الامتحان ولا تدخل بتاتــًا فى تقدير تحصيله)) وذكر أنه درس فى السنتيْن الأولى والثانية الثانوية كتاب شفبق غربال (تاريخ مصر القديمة) وفى السنة الرابعة الثانوية درس تاريخ أوروبا فى القرن 19. وفى إحدى السنوات وزعتْ الوزارة على الطلبة كتاب (أميل) أو التربية الاستقلالية لجان جاك روسو. وكتاب (قادة الفكر) لطه حسين (لويس عوض- أوراق العمر- سنوات التكوين- مكتبة مدبولى- عام 89- من ص 256- 264)
تلك كانت المرحلة التى شهدتْ فجر الحداثة المصرية ، ولكن عندما بدأتْ شمسها تسطع وتنتشر فى الأفق ، غطتها سحابات كثيرة من الغيوم ، فانعكس ذلك على التعليم كما انعكس على مجمل حياتنا الثقافية والاجتماعية والتنموية.
***



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن