الإعلام وثقافة الاستهلاك (2)

فهد المضحكي
fahadalmudahki@hotmail.co.uk

2019 / 4 / 27

تؤكد معظم الدراسات والبحوث الاعلامية ان عملية الترويج لثقافة الاستهلاك في عصر العولمة اصبحت صناعة غاية في الدقة والسهولة في نفس الوقت، فهي تعتمد على وسائل تكنولوجية معقدة لفتح المجال امام التدفق الحر للمعرفة وتحويل انتاج المعلومات الى صناعة تنتج سلعا، وتدعو إلى الانفتاح الحر وطرح كل ما هو سهل وبسيط وسريع الانتشار.

لقد قامت فلسفة التأثير في المستهلك على سيادة مفهوم المنافسة كمحرك محوري للعولمة الاستهلاكية، فالمنافسة في السوق تؤمن بحرية الاعلام وفتح المجالات الواسعة امام التقنية الاعلانية، وامتلاك وسائل الاعلام وأساليب الدعاية والتسويق للسلع، وتجسيدا لهذه الفلسفة في الواقع العلمي، تدفق الاعلام من خلال اساليب عدة اختصرها مركز الحرب الناعمة للدراسات في التالي: أولا تنويع الرسالة الاعلامية بحيث يتلاءم مضمونها مع مختلف الاختيارات، فيتجسد بذلك مفهوم حرية الاختيار والانتقاء وفق حاجات ومتطلبات الفرد، ما يزيد من النزعة الاستهلاكية كل حسب رغباته وثانيا البث السريع والمتواصل للرسال الاعلامية والاعلانية، مما يخلق ميولا وتطلعات استهلاكية لدى كافة الشرائح الاجتماعية، وثالثا تجزئة الرسالة الاعلامية بالفواصل الاعلانية الحاملة لكل المغريات والمثيرة لكافة الغرائز، وبذلك تتعاظم فعالية التأثير دون وعي المتلقي بهذا التأثير أو بالأحرى «لتنويم» غير المحسوس، فتتضاعف السيطرة الاعلانية وتتغلغل ثقافة الاستهلاك لتتمكن من النفس البشرية، ورابعا العمل على تسهيل الحصول على السلعة بطرق متباينة وميسرة وجاذبية للشراء، وخامسا خلق بيئة ثقافية كونية الهوية تروج لبضائع وسلع الشركات الرأسمالية الكبرى المنتجة للسلع؛ بهدف توسيع دائرة الاستهلاك وزيادة اعداد المستهلكين وتحديد اذواقهم، وتدعيم تطلعاتهم وترسيخ النزعة الاستهلاكية لديهم. ويتضح مما سبق ان عملية التأثير الاختياري الاجباري، اصبحت خاضعة لمعايير معرفية ليتحكم فيها من يمتلك وسائل الاعلام وتكنولوجيا الاتصال الحديثة، وهي عملية تتم بصورة غير مباشرة عن طريق برامج مخططة، ومن خلال صناعة الفقرات الاعلانية والفن السينمائي والمسلسلات التلفزيونية، وغيرها من الاشكال التي تجعل المتلقي يقارن بين حاله وحال الآخرين في المجتمعات الاخرى، اما الصورة المباشرة للتأثير في المستهلك فتتم بصورة اساسية عن طريق الصوت والصورة والرمز والايحاءات التي يبرزها الاعلان، ذلك الذي يستخدم كل ما هو متاح ومغرٍ بغض النظر عن منظومة القيم الاجتماعية والثقافية الخاصة بكل مجتمع.

وكل ذلك بهدف اثارة غرائز الجمهور والترويج للسلع ودفع الافراد للتسوق وترسيخ ثقافة الاستهلاك وخلق تطلعات ترفيه عن طريق الصور التي تجعل السلع المعلن عنها مرغوبا فيها ومقنعة وميسرة، ويمكن الحصول عليها بطرق ملائمة لمعظم قطاعات المجتمع حتى لو أدى ذلك إلى تدهور احوالهم المعيشية او فقدانهم لتراثهم الثقافي او خفض قدراتهم البشرية او اعتماد انظمتهم على الاستيراد من الخارج.

ولا عجب في ان الرسالة الاعلانية ارتبطت بالتسوق لمنتجات وخدمات المؤسسات الاقتصادية العملاقة في العالم، تلك التي عملت؛ من اجل دعم النشاط التسويقي وتوسيع دائرة الاتصالات وخلق الاسواق وتوسيعها، ومن اجل ذلك امتلكت وسائل الاعلام وآليات التأثير، أو اصبحت الممول والمخططة لترويجها في القرية الكونية المستحدثة.

ونظرا لسلبيات تلك السياسات الموجهة خاصة لدى الشعوب المتطلعة إلى الاستهلاك الترفي، يظل المهم الاخطر يتمثل في: هل يمكن في ظل تحديات العولمة وتطبيقات قواعد النظام الدولي الجديد، وآليات المنافسة غير المتكافئة، الحد من تفشّي ظاهرة الاستهلاك الترفي في تلك البلدان التي تفتقد لعناصر القوة المحدثة؟ وكيف يمكن مواجهة سلبيات شيوع ثقافة الاستهلاك الجماهيري وانتشارها بين كافة شرائح المجتمعات العربية، وكذلك تعطشهم إلى التسوق والمتعة في الامتلاك؟

وللإجابة على تلك التساؤلات الجوهرية يقدم بعض المختصين في هذا الشأن بعض الاعتبارات الاساسية التي تلقي الضوء على تحليل وضبط سلوك المستهلك من جانب، وفهم طبيعة ثقافة الاستهلاك في عصر ثورة الاتصالات من جانب آخر.

من هذه الاعتبارات لم يعد الاقتصاد وحده هو المدخل الحقيقي لفهم سلوك المستهلك وزيادة النزعة الاستهلاكية بين البشر في عالمنا المعاصر، فلقد صارت النزعة إلى الاستهلاك عنصرا ثقافيا مؤثرا في اقتصاديات الدول، وذلك نتيجة لما تمارسه من تأثيرات قوية على سلوك الانسان في اتجاه الميل إلى الاستهلاك بل وجعل الاستهلاك هدفا في حد ذاته.

وبناء عليه يصبح التحليل الاجتماعي النفسي هو الاقدر على فهم شخصية المستهلك وملامح السلعة وطبيعتها ودرجة التشوق لها، ويعني ذلك التركيز على بعدين أولهما: البعد الثقافي للعملية الاقتصادية والتجارية وثانيهما: اقتصاديات السلع الثقافية وفلسفة السوق وهي ليست فقط منافع مادية لها علاقة بالتراكم الرأسمالي والتنافس الاحتكاري بل هي فلسفة فاعلة مؤثرة في مجمل انماط الحياة واسلوب المعيشة لدى الجماعات والشرائح الاجتماعية في مختلف المجتمعات والثقافات.

وبالاضافة إلى ذلك؛ أدت التطورات التي شهدها العالم في مجال العلامات التجارية والاتصال الى انتقال ثقافة الاستهلاك إلى كافة انحاء العالم، وساعد على ذلك دعم صناعة الثقافة وتكنولوجيا الاتصال والاعلام.

وكما قال مركز الدراسات المذكور لقد صارت الاشكالية التي تواجه البلدان العربية، رغم مواردها المتناوعة، تتمثل في ضعف قدرتها الانتاجية وهدر امكانات تقدمها، هذا بالاضافة إلى ما تتعرض له من اختراق ثقافي يهدف إلى توسيع دائرة الاستهلاك التي تلتهم كافة مقومات التنمية الحضارية، ويظل السؤال محور الاهتمام: كيف يمكن اقناع النخب العربية بأن عصور التجزؤ قد ولّت وان عصر التكتل قد بات محتما وكيف تقنع الشعوب في الدول العربية بان قدرات البشر بلا حدود، وان دعم الانتاج هو المدخل إلى الاستهلاك الرشيد.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن