هل قدم العرب شيئاً للحضارة الإنسانية؟!/4 .............التاريخ لا زال يعيش بيننا!؟

خلف الناصر
kh_anaseeratamyme@yahoo.com

2019 / 4 / 27

لو اســتـــنـــطــقنا الـــتـــاريــــــــــخ نجده يؤكد لنا مرات ومرات :

بأن (("فـــي الـــبـــدأ كــانـــت الــكــلــمــة"!
والــحـــب كــان أول حــروفــهــا!
فالحب صفة أصيلة في الطبيعية البشرية ، والـــكـــراهــيــة عارض طارئ عليها.. فالمقت والكراهية والحقد والحسد والضغينة .....الخ هي جميعها صفات مكتسبة ، وليست أصلية كالحب في الطبيعة البشرية السوية . وهذه الصفات المكتسبة تتخلق وتنمو وتتبلور في ذات الإنسان كرد فعل على حدث معين..........الخ](ج1 من المقال)
رابط المقال: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=633989
*****
وإذا استنطقناه مرة أخرى نجده يقول لنا:
بــالـــحـــب نمت البشرية وكبرت وتطورت وتمدنت ، وبــالــكـــراهــيـــة تصارعت وتقاتلت ودمّرت وهدّمت وشوهت ولعنت وطعنت ، ومن مادة الكراهية المتوحشة هذه بُنِيَتْ جدران عالية ، لتفصل بين الأفراد والمجتمعات والشعوب!

وإذا كان الصراع والقتال والحروب والدمار هي أوضح تجليات الكراهية ، فإن تجلياتها الأخرى تستبطن كراهية أشد ، وتبدو بأشكال وصور وتصورات وتعبيرات متنوعة ومموهة في الغالب ، وتنسحب على جميع موارد الحياة لأمم وشعوب ومجتمعات أخرى مقابلة ، وتتناول كل صغيرة وكبيرة عندها ، بدءاً من التاريخ واللغة ووصولاً إلى الثقافة ومنظومة قيمها الإنسانية وتقاليدها الاجتماعية ونظمها المجتمعية ، ومجمل حضاراتها وثقافتها القومية..........الخ

وهذه الأنماط من الــكــراهـــيـــة تتجلى :
بشقها العنيف : بالعراك والحرب والقتال والاستيطان والعنف والغلبة...........الخ!
وشقها المموه : بالعرق والجنس واللون ، وبالتاريخ واللغة ومنظومات القيم ، وبالتشويه والشتم والطعن واللعن....... الخ

وهذه الانماط من الكراهية ـ مع الأسف ـ هي التي هيمنت على التاريخ وصاغت أغلب مشاهده المأساوية ، التي حدثت وما زال تحدث وستبقى تحدث بين شعوب كثيرة ، وبين العرب والأوربيين الغربيين بالذات ، وإلى آماد غير معروفة النهايات!

وهي ـ أي أنماط الكراهية ـ التي شكلت (بنية خلفية سوداء) للعقل ـ الباطن والواعي معاً ـ عند الأوربي ، وصاغت هذه العلاقات الملتبسة دائماً بين العرب والأوربيين ، وبنت بينهما اشكالاً متنوعة من الاطمئنان لبعضهم ، وألقت بظلالها السوداء على كل شيء يخص العرب من علوم وحضارة ومدنية ، وعلى علاقات وتعاملات ودراسات الأوربيين حولهم ، كبشر وكثقافة ولغة وقيم وتقاليد وتاريخ ودين........الخ
*****
ورغم أن الكثير من بعض العلماء الغربيين النزيهين قد تخلص من عقد تلك (الخلفية السوداء) ، وتأتي شهادة العلامة باولز مثالاً مثالياً لتلك النزاهة الرائعة ، عن المدى الرفيع الذي بلغته "الحضارة العربية" في الأندلس ، والتي كانت ـ كما يقول هو ـ بحق مهداً للعلم الحديث واسهاماً جباراً في خلق هذا العالم الحديث.. فهو يقول في تلك الشهادة :
o (( لقد كانت الحضارة العربية في قرطبة وغرناطة هي بحق مهد العلم الحديث... فقد تطورت فيها البحوث التجريبية وتطبيقاتها العملية في الكيمياء وأنظمة الدفع . وتورينا المخطوطات العربية في القرن الثاني عشر الميلادي, صواريخ صممت لمهام قتالية . ولو كانت إمبراطورية المنصورـ يقصد المنصور الأندلسي ـ متقدمة في البايلوجية كما في باقي العلوم, ولو لم يساعد الطاعون الإسبان على تحطيم تلك الدولة لكانت الثورة الصناعية قد بدأت في الأندلس في القرن الخامس عشر أو السادس عشر . وكنا سنشهد في القرن العشرين عصر غزو الفضاء العربي)) (1)

ورغم هذه الشهادة الكبيرة بفضل الحضارة العربية الإسلامية وشهادات أخرى مماثلة ـ سنأتي على ذكر بعضها ـ وما قدمته للإنسانية وللحضارة الغربية بالذات ، فأن بعض الغربيين اليوم ازدادوا ايغالاً في ذلك الانكار ، وأصبحوا يتنكرون لكل هذا الذي قدمه العرب والمسلمون في مجالات الحضارة والعلوم والمدنية ، ويحاولون تجاهلها اليوم ، ثم نسفها غداً!!
ففي دراساتهم الحديثة لتاريخ الحضارة الإنسانية ، أصبحوا يقفزون من حضارة اليونان إلى الحضارة الحديثة مباشرة ، متجاوزين أي ذكر أو دور أو مجرد مرور بمرحله الحضارة العربية الإسلامية ، ويعيدون نفس الطريقة أو العملية التي تم فيها تجاهل حضارة أسلاف العرب من أقوام الجزيرة العربية (الكنعانيين/الفينيقية) من قبل ، حتى نسيت حضارتهم تقريباً!!

والمؤسف أن معظم الكتاب من غير العرب وبعض الكتاب العرب أنفسهم ـ جهلاً أو قصداً ـ أخذوا يرددون هذه المواقف الأوربية الانكارية نفسها ، وتبعهم الكثيرون من ذوي النفوس المشبعة بالجهل أو بالكراهية ، والذين يملؤون الصحف والجرائد والمواقع الإلكترونية وجميع وسائل التواصل......الخ بهذه المواقف نفسها ، وبالشتم والطعن واللعن والتشويه للعرب ، كبشر وكقيم وثقافة وحضارة.....الخ ، دون اطلاع منهم ـ ولو من بعيد ـ على الثقافة والتراث العربي ، وعلى منجزات الحضارة العربية الإسلامية ، وما قدمته للإنسان وحضارته ككل!!
وهكذا هي دائماً ، التبعية الثقافية أو السياسية أو الإيديولوجية لـلــخــواجــة!
*****
بالتأكيد إن هذه المواقف الأوربية من العرب والمسلمين ، ومن الحضارة العربية الإسلامية لم تأتي من فراغ ، إنما جاءت من أسباب شكلت خلفيات موضوعية وأخرى ذاتية لها ، وجعلت من هذا الانكار الغربي لكل ما قدمه العرب والمسلمون للإنسان وللحضارة الإنسانية ككل ، وللعلوم الصرفة ـ تم السطو على معظمها ـ منها على الأخص ، والتي ساهمت مساهمة جوهرية في صنع هذا العالم الحديث ، والتي بدونها ما كان يمكن للبشرية الوصول إلى كل هذه الانجازات الكبرى التي فاقت الخيال التصور!!

وتلك الأسباب الموضوعية (وباقتضاب واختصار شديد) تكمن في وقائع اللقاءات الأولى بين العرب المسلمين والأوربيين ، وكانت غير ودية وعدائية منذ البداية:

فقد بدأ اللقاء الأول بينهما : ب "حروب التحرير" التي خاضها العرب المسلمون ضد الامبراطورية الرومانية ، وحرروا من خلالها كل من مصر وبلاد الشام وشمال أفريقيا!

وكان اللقاء الثاني بين الطرفين : عند فتح العرب المسلمون لشبه الجزيرة الإيبيرية ـ اسبانيا والبرتغال ـ عام 711 ميلادي ، ثم الاندفاع خلفها نحو عموم أوربا ، وسيطرتهم على جنوب فرنسا وصقلية وسويسرا ومناطق أوربية كثيرة أخرى ، ولم يتوقف ذلك الزحف العربي نحو أوربا ، إلا بعد معركة "بلاط الشهداء" (معركة بواتييه) ، التي وقعت بقيادة القائد العربي "عبد الرحمن الغافقي" والقائد الفرنجي (شارل مارتل) ، والتي انتصر فيها الفرنجة على العرب المسلمين ، فتوقف الزحف العربي واستقر عند حدود اسبانيا وجزيرة صقلية وبعض المناطق الأخرى!

أما اللقاء الثالث : بين الطرفين فكان من خلال "الحروب الصليبية":
وقد امتدت تلك "الحروب الصليبية" لدهور طويلة ، واستغرقت ثلاثة قرون متواصلة: ابتدأت في العام 1196 ميلادي وانتهت أواخر القرن الخامس عشر الميلادي ، منهما قرنان على شكل حروب يومية متواصلة واحتلال مباشر واستيطان للأرض واستعباد للبشر ، وقرن آخر على شكل غزوات وغارات صليبية متواصلة على البلاد العربية من جزر في البحر الأبيض المتوسط . والحروب الصلبية لم تنحصر في بلاد الشام وحدها كما يتصور البعض ، إنما شملت الوطن العربي بكامله تقريباً ، منها خمس غزوات صليبية لمصر واحتلال لبعض مدنها ، ومنها غزوات لتونس وبعض آخر منها وصل إلى تيماء في الجزيرة العربية ، لاحتلال المدن المقدسة: مكة والمدينة المنورة!

وكان اللقاء الرابع بين الطرفين العربي والأوربي :
من خلال الاستعمار الأوربي الغربي للوطن العربي في العصر الحديث ، والذي ابتدأ بــ "غزوة نابليون" لمصر ، ثم احتلال باقي أجزاء الوطن العربي وتقاسمه بين الاستعماريين الفرنسي والبريطاني ، وانتهاءً باحتلال فلسطين واستيطان الصهاينة لها ، ثم امتدادات هذا الاستيطان وحروبه المتواصلة إلى كامل فلسطين التاريخية وجوار العربي الجولان/سيناء وأجزاء من شرق الأردن ، وحتى هذا الذي نراه اليوم في محيطنا العربي من قتل وذبح ودمار وإرهاب أسود ، وعودة احتلال غربي للأرض العربية ، هو عبارة عن امتداد لتلك الحرب المتواصلة بين العرب والأوربيين الغزاة ، أو هو رد فعل على غزوهم المتواصل!

وهناك سبب خامس غير مباشر لهذه المواقف الأوربية اتجاه العرب.. هو:
أن أسلاف العرب من أقوام الجزيرة العربية (الفينيقيون) قد سبقوا أحفادهم العرب وعبروا إلى أوربا أيضاً ، واستوطنوا مناطق أوربية كثيرة ومنها إسبانيا بالذات ، وبنوا فيها مدناً تجارية كثيرة مزدهرة فيها كــ "قرطاجنة" ، وتحول البحر الأبيض المتوسط على أيديهم إلى (بحيرة فينيقية)!
وكان الفينيقيون هم أساتذة الرومان الذين علموهم أصول الحكم وكيفية بناء الامبراطوريات ، لكن الرومان انقلبوا على أساتذتهم الفينيقيين وأبادوهم بعد أن قويت شكوتهم!
ولا زالت هناك وإلى الآن في أوربا وجزرها بقايا من أولئك الفينيقيين وبعض من العرب ، يطلقون عليهم اسم "الموروسكيين" حتى أن أغلب سكان (جزيرة مالطة) مثلاً هم من هئولاء ، ولغتهم عربية تكتب بحروف لاتينية!
*****
إن الأسباب الخمسة أعلاه والتي يختلط فيها الذاتي بالموضوعي والديني بالاجتماعي والتاريخي بالجغرافي.....الخ لو أمعنا النظر فيها نجد أنها ، قد أقامت ـ وعلى مدى قرون متطاولة ـ جدراناً عالية بين طرفين ، وحضارتين ، وعالمين: عالم عــربــي وعالم أوربــــــــــي ، لا يفصل بينهما إلا حاجز مائي ـ الأبيض المتوسط ـ وكل منهم قد تمترس وراء جدرانه العالية تلك ، وصب الطرف الآخر المقابل له في قالب على مزاجه الخاص ، وحسب عقيدته ورؤاه ومصالحه وشكوكه وريبته ، وبعيداً ـ إلا فيما ندر ـ عن الموضوعية والعدل والانصاف والحقائق والحقوق ، التي سجلها التاريخ على صفحاته!

ولو أمعنا النظر في تلك الأسباب أكثر نجد , أنها قد تحولت إلى عوامل ثابتة عند الطرفين ، أرست (معادلة تاريخية موضوعية) بينهما .. تقول :
o إن هذين العالمين هما عالمان متناقضان ومتصارعان دائماً وعبر التاريخ ، وإن أحدهما نفي للآخر ومجال حيوي له!
o وأن قوة أي طرف منهما ستكون على حساب الطرف الثاني ، سيدفعها على شكل احتلال مباشر وسيطرة تامة وخضوع كامل للطرف الأقوى!
o إذا كان التقدم الحضاري عند أحد الطرفين ، فحتما سيكون التخلف عند الطرف المقابل ، وإن التاريخ لم يسجل يوماً وعلى طول مداه المعروف ، أن التقدم في يوم من الأيام كان على الضفتين وعند الطرفين معاً ، أو أن التخلف كان نصيب الطرفين وفي آن واحد وعصر واحد!
فلابد من أن يكون أحدهما متقدماً ويكون الآخر متخلفاً ، ويدفع ثمن تخلفه للثاني مضاعفاً!
وهذه هي الحالة التي نعيشها اليوم!
*****
لقد كانت أوربا ولا زال اغلبها ينظر إلى العرب بالذات ـ بوعي منه أو بدون وعي ـ بميزان تلك (المعادلة التاريخية) ، وينظر إلى العرب والمسلمين معاً بعيون "الحروب الصليبية" ، ويعتبرهم العدو أو الآخر (بمعنى النفي) الذي تجب مقاومته وقمعه وخنقه واغلاق كل منافذ الحياة في وجهه ، وإزالته من الوجود إن أمكن ، كي لا يعيد التاريخ ـ كما يظنون ـ دورته المعروفة بين الطرفين!!
ولأجل هذا الغرض ، صيغت نظريات واعدت دراسات وعقدت مؤتمرات سرية وعلنية كثيرة "مؤتمر لندن 1907" مثلاً!

ومنذ الحروب الصليبية إلى اليوم من النادر أن تجد ، قائداً أو زعيماً أوربياً أو غربياً ، لم يذكر أو يتذكر أو يُذَكْرْنا بتلك "الـــحـــروب الــصــلــيـبـــيـة".. فقد ذكرها الجنرال البريطاني (اللنبي) عند دخوله القدس، في الحرب العالمية الأولى ، وذكرها الجنرال الفرنسي (غورو) عند دخوله دمشق أثناء تلك الحرب أيضاً ، وذكرها بوش الأبن عند ضرب العراق وذكرها العشرات من غير هئولاء ، ومن لم يذكرها منهم (لفظاً) يجسدها عملاً ، كما فعل (تـــرامــب) بجعل "القدس عاصمة أبدية لإسرائيل" و "الجولان السورية" صهيونية!
*****
لكن.. ورغم كل هذا الركام التاريخي وهذا الغبار الكثيف حوله ، والذي حجز ضمائراً وعقولاً وعصب عيوناً كثيرة ، وحجب حقائق ما قدمته الحضارة العربية الإسلامية للإنسان ، وللحضارة الإنسانية ككل وللحضارة الأوربية الحديثة بالذات .
فهناك العشرات من كبار علماء التاريخ والحضارة الغربيين بحرفيتهم ونزاهتهم ، ومن أصحاب الضمير الحي ، والذين رفعوا تلك العصبة عن عيونهم ونقبوا في ذلك الركام التاريخي الهائل ، وأزاح ذلك الغبار الكثيفة عنه وكشف الحقائق والوقائع ، كما سجلها التاريخ بين صفحاته الكثيرة ، وأدلى بشهادته العلمية الصادقة بحق وحقوق وحقائق ما قدمته الحضارة العربية الإسلامية للحضارة الإنسانية وللحضارة الأوربية الحديثة بالذات!!

وستكون البعض من تلك الشهادات العلمية الموثقة [مدار الجزء الخامس التالي من دراستنا هذه] والتي اضطررنا لجعلها جزءاً خامساً بدلاً من (رابعاً) كما وعدنا ، لأسباب تتعلق بتوضيح أهمية هذه الشهادات العلمية ، من خلال توضيح الخلفيات التاريخية ودوافعها التي جعلت الأوربيين ينكرون ويتنكرون لكل ما قدمته حضارتنا العربية الإسلامية للحياة الإنسانية!
وهي شهادات موثقة للبعض ـ وليس للكل ـ مما أثبته علماء غربيون منصفون ، من دور حاسم للحضارة العربية الإسلامية في تشكيل وصنع هذا العالم الحديث ، الذي نعيش فيه جميعنا اليوم!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ:
(1) مجلة " علوم " في2 . 1984 - 11 -



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن