علم الآثار السياسي و النزعة القومية المقدسة(4)

محمود الصباغ

2019 / 4 / 24

الفصل الثالث: : المعتقدات الدينية والبحث العلمي
مقدمة
يعد, في واقع الحال, إيمان الباحثين و اعتناقهم دينا ما -مثلهم مثل غيرهم من أفراد المجتمع- حق في امتلاك كل فرد الفرصة في الاعتقاد و الإيمان في دين ما. غير أن المشاكل تبرز عندما يحدد الإيمان الديني نوع الأسئلة المطروحة وكذلك الأسئلة المقبولة. ومن الواضح أنه لا يمكن القبول بالإيمان كرشد توجيهي إلهي نهائي عندما يتعلق الأمر في الأبحاث الأكاديمية. و يقدم كريستوفر بيكوك مقاربة هامة في هذا السياق بخصوص الممارسة العلمية يميز فيها بين شرطين للإيمان المكتسب كي يتحول إلى معرفة :فأولا، ثمة اقتراح تفسيري من شأنه أن يفسر بعض الظواهر، و ثانيا،يتم قبول الفرضية كحقيقة صادقة على أساس التجربة المؤيدة والأدلة أو الاستدلال. فالمنهج لا يتألف من التفكر و التأمل بفرضية بسيطة فقط لتفسير البيانات، بل يشمل أيضا سياسة عدم قبول الفرضية بوصفها حقيقة صادقة إلا إذا كان لأحدنا ما يكفي من الأدلة التي من شأنها في مثل هذه الظروف أن تضمن أنه إذا كان هذا الافتراض غير صحيحا فإننا لا نؤمن به(Peacocke 1986:1400)
و في حين أن أي شخص يستطيع أن يطرح فرضيات،فإن القليل من الآثاريين معنيين بسياسة قبول الفرضيات. و المشكلة الأخيرة هي من طبيعة نظرية، فما يتوجب حله, إذا ما أردنا فصل علم الآثار الجيد من الرديء, فسبب رفض نظرية الخلق ليس بالضرورة لكونها خاطئة، بل لأن مثل هذا الافتراض لا يعد افتراضا علميا . فالعلم ليس خلاصة وافية لمعرفة معينة, بل هو عملية إجرائية يتم من خلالها اختبار ورفض الفرضيات، و مقولة الخلق كفرضية إذن, لا طائل منها في النقاش العلمي إلا إذا قبلنا بأن هناك ما يثبت عدم صحتها (Gould 1987:111)، و بالتالي مقولة الخلق لاتعدو كونها طرفة تقال في تاريخ العلم,و بالتالي تقع المزاعم التي يمكن البرهان على عدم صحتها ضمن نطاق العلم . فإذا اعتقد شخص ما بأن الأرض خلقت في العام 4004 ق.م، فعليه إثبات إثبات لماذا لانطبق تقنية الكربون المشع ومنهج دراسة الطبقات قبل العام 4004 ق.م، في حين أن كلا المقاربتين تعدان أدوات بحث مقبولة بعد هذا التاريخ. و إلا فلا يمكن الاعتراف بهما كممارسة صارمة أو منطق متماسك, وفي هذا الصدد , لايمكنني رؤية أي سبب يدعو أحدنا على إبداء الاهتمام بابحاث علم الطبقات في علم الآثارفي فترة زمنية مختارة ومحددة فقط دون غيرها . و بناء على ذلك سيتعامل هذا الفصل أساسا مع بعض المشاكل والمفارقات في دمج وتكامل علم الآثار والكتاب، ليس من منظور منهجي ولكن من منظور مابعد-نظري
علم الآثار والمجتمع
ثمة بحر واسع من الصفحات والسجالات على شبكة الإنترنت بدءا من الإصدارات البحثية المجددة وصولا إلى مواقع الأصوليين الدينيين، و البعض منهم منخرط في الخطاب"العلمي". لقد حاولت أن أسلط الضوء على بعض المشاكل البنيوية ضمن السجال، و لذلك غالبا ما تكون هناك فروقات طفيفة بين الباحثين المختصين و غير المختصين. و يؤكد بعض اللاهوتيين الكتابيين والحاخامات على نقصان السجل الأركيولوجي. و يعرب الرابي كين سبيرو (2001) عن وجهة النظر بقوله:" يعني مثل هذا السجل الأثري الهزيل أن الاستنتاجات استندت فقط على تكهنات وتوقعات. فعلم الىثار يمكنه أن يؤكد فقط على وجود بعض اللقى الأثرية المكتشفة، ولايستطيع أن يدحض تللك اللقى التي لم يتم العثور عليها. غياب الدليل ....ليس دليلا على عدم وجوده .... ولكن هذا لم يمنع بعض الآثاريين من خلق التأكيدات. في خمسينيات [القرن الماضي] نقبت عالمة الآثار كاثلين كينيون ذات الشهرة العالمية في قطاع واحد صغير من أريحا، عن بقايا التوطن السكاني التي تعود لزمن غزو يشوع للأرض في العام 1272 ق.م. ولم تجد أي دليل، وبناء على ذلك استنتجت بأن الكتاب كان خاطئا. والمشكلة هي أن كينيون حفرت و نقبت في قطاع صغير فقط من أريحا، و بنت استنتاجها وفقا لتلك المعلومات المحدودة، واليوم، و على الرغم من استمرار الجدل، فثمة العديد من الآثاريين يزعم بأن هناك في حقيقة الأمر دليل واضح على أن أريحا كانت مأهولة في عصر يشوع".
يتبنى الباحثون المختصون أهدافا و أجندات مختلفة عن تلك التي يتناها غير المختصين بخصوص أعمال التنقيب الأثرية. وأدت أعمال كاثلين كينون في القدس في الفترة ما بين 1961-1967 إلى الكشف لأول مرة عن أدلة أثرية في الموقع و تأريخ الجدران الدفاعية في أورشليم خلال العصرين البرونزي والحديدي. والمقياس بين الآثاريين الكتابيين هو حتما الكتاب من أجل تقويم اللقى الأثرية. و لكن على علم الآثار عموما أن يؤسس مشروعه على المعطيات التي بين أيدينا اليوم. و على الآثاريين أن يقوموا ببناء الماضي وفقا للبيانات الحالية كما هي. و عندما يكشف المستقبل عن رؤى جديدة سواء من الناحية النظرية أو الأمبريقية، عندئذ قد نضطر ربما إلى إعادة كتابة التاريخ.هذا هو الحيز الذي يفترق فيه علم الآثار و الدين. و على الرغم من ذلك قد يقوم المستقبل بتزويدنا بأسباب مرضية لتأويلات أخرى، فالمرء لا يمكنه أن يستنتج ما يريده باسم علم الآثار إذا كان هذا الأخير قائم على الدين .
إلا أن اللاعقلانية هي عدوة المعرفة والعلم وليس الدين. فالقضايا لسجالية مثل الحقيقة هي حالة (ظرف) و ليست موقع(Gould 1987:125,227) , و العلم -باعتياره من القضايا السجالية أيضا-هو ممارسة تراكمية ومطردة للمعرفة وبقولي"مطردة" لا أقصد الاقتراب من "الحقيقة" أو "الحقيقة الصادقة" بالمعنى المطلق، بل المقصود بذلك قبول الأجوبة بوصفها تقدم فهما أفضل للحجج المعاصرة. الجوهر الأساس للعمل يتمثل في اعتباره ممارسة خلاقة للبناء أكثر من كونه أفكار أو بناءات قديمة محافظة راكدة وجامدة. و ينطوي مثل هذا الرأي ضمنا على فكرة تفكيك البناءات والمعرفة القديمة، و ذلك لأن عمليات التفكيك تمكن أو تؤدي إلى خلق فرص وإمكانيات بناءات جديدة. و بكلمات ستيفن جولد : لا تعني الحقائق اليقين المطلق، بل يمكن "للحقيقة" -ضمن العلم-أن تعني فقط" التأكيد بطريقة أم بأخرى بالضرر الناتج عن إعاقة المصادفة المؤقتة"(Gould 1990:254).. و على العكس من ذلك فالبيانات تعني ما هو "معطى"(Lucas 1995:41)..
وبالتالي، فالفرق بين الحقائق والبيانات فرق جوهري. فالبيانات موجودة ولكنها ليست بدئية أو سابقة لأي شيء آخر. و يسبغ على البيانات نفس الحالات الإبستمولوجية للحقائق. في الواقع لا تعد "الحقائق" جزء من الفحص والتحقيق على صعيد البحوث، بل عوائق لازمة من " الأساس". في حين تخضع البيانات, من ناحية أخرى، للتقصي والنقد.
لقد تعززت سمعة الحقائق المزيفة عن طريق الاعتقاد الساذج بأن الحقائق هي أجزاء لا تشوبها شائبة أو معلومات" نقية"مستخرجة من الطبيعة من خلال تفسير علمي أو مراقبة موضوعية خالصة. و لكن الحقائق تظهر في سياقات من التوقعات، و يكون كل من العين و العقل أدوات عرضة للخطأ. تنجز الحقائق حالات أبدية تقريبا بمجرد أن تمر من التوثيق الأولي إلى المصدر الثانوي، لاسيما النصوص المكتوبة. لا توجد مطبوعات محافظة تماما كالنصوص المدونة، فالاخطاء يتم نسخها من جيل إلى جيل و يبدو أنها تكتسب دعما من خلال التكرار المحض ونادرا جدا ما يعود أي شخص للوراء لاكتشاف هشاشة الجدال الأصلي (Gould 1990:384).
إذا ما اعتبرت النصوص مقدسة، سوف تصبح,بطبيعة الحال, أكثر محافظة أو بمصطلحات علم الآثار الكتابي، يمتلك الكتاب حقائق موثقة يتحدد بموجبها مستوى الأبحاث الآثارية و الأسئلة المقبول طرحها. و هذا فرق هام فعلى الرغم من أن الكتاب يمثل حقائق من وجهة نظر دينية، فهو لا يمثل سوى بيانات من وجهة النظر الآثارية. الأمر الذي تهمله أو تتجاهله أجزاء من البحث الآثاري الكتابي المنحاز. وفي كثير من الأحيان يقوم الباحثون الدينيون المسيحيون بتحويل الكتاب -بوصفه كتابهم الديني -إلى بحث آثاري بفضاء دنيوي, وبالتالي هناك بعض الحقائق" التي لا يسمح لأحد بمسائلتها أو تحديها .
ما هو الموضوع الرئيس في علم الآثار؟ إذا كان الكتاب المقدس يشير إلى مجرد أحداث، ربما تكون وقعت، فإن علم الآثار هو أكثر من مجرد إشارات وصفية للأحداث وهذه إحدى مزايا علم الآثار-نحن نواجه عامة الناس وعمليات التغيير, فليس الرجال الأقوياء ولا أعمالهم تعد موضوعا رئيسيا في علم الآثار. صحيح أن اللقى المادية صنعتها أفراد, لكن لا يمكن فهمها و تأويلها إلا من خلال منظور أوسع, أي المجتمع و بنياته الاجتماعية. نحن نواجه الأفراد، لكننا لا نستطيع تفسيرهم دون المجتمع. فالفرد جزء من المجتمع. والمشغولات البشرية الأثرية المفردة هي جزء من مجموع كلي-أي السياق. اللقى الأثرية لا تنطق, بيد أن هذا لايعني أننا غير قادرين على التواصل معها. والمرويات -مثلها مثل التاريخ- كتبت بلغة واحدة، في حين أن الأفعال -بوصفها بقايا أثرية- كتبت بلغة أخرى. و يقع على عاتقنا كآثاريين تفسير المادة الأثرية، و هذا يعني ما هو"معطى"و نقطة انطلاقنا. فعلم الآثار عن البشر و ليس هو البشر
اسبقية الكتاب
يجادل أمنون بن-تور ضد التخلي عن مصطلح"علم الآثار الكتابي" لأن" كلا الميدانين مرتبطين طبيعيا و يغنيان تبادليا بعضهما البعض. فمن غير المعقول أن نطالب بفصل علم الآثار الكلاسيكي عن هوميروس وعن كتابات أخرى من العالم القديم. حاول أن تستبعد الكتاب [المقدس] عن علم آثار أرض إسرائيل في فترة الألفية الأولى والثانية ق.م و سترى أنك تقوم بحرمانه من روحه(Ben-Tor 1992:9) .
وهنا تواجهنا عدة أسئلة: أي نوع من الكتب هو الكتاب[المقدس]؟و هل هو حقا كتاب مثمر ومفيد لعلم الآثار؟ يشير وليم وورد في ( سفر الخروج: الأدلة المصرية) إلى وجود تلميحات هنا وهناك تلمح بأن شيء ما يشبه الخروج قد حدث، و لو على نطاق ضيق جدا، و لا توجد كلمة في أي نص أو لقى أثرية من شأنها أن تضفي مصداقية على الرواية الكتابية كما هي عليه الآن (Ward 1997:105).
لماذا يجب على التوصيف الأدبي أن يكونا مختلفين هكذا عن الواقع الممثل في الحقائق على الأرض؟. فلا مرويات الخروج و لا مرويات الغزو يمكن لهما أن يكونا معروفين على الإطلاق إن لم يوجد التوصيف الأدبي. و الوصف الأدبي مستمد من الإرث و الذاكرة الشعبية، و هو يمثل ذاكرة جمعية متوارثة لعدة أجيال. و بالتالي فإن هذه القصص أو التقاليد الشفوية تنشأ من موضوع ما، و هذا يعني أنه قد يكون هنا ثمة بذرة من الحقيقة التاريخية كامنة في مكان ما. ولكن هذه النواة التاريخية قد تكون غامضة أو مختفية كليا بسبب ن الشروحات و الإصافات و التفسيرات أو القصص التي أضيفت و تطعم و رقع بها النص الأصلي فقط لأنها قصصا جيدة. و يعد هذا أحد السمات المميزة للكتابة التاريخية القديمة، و تصبح التقاليد الشفوية بكل تفاصيلها تاريخا"حقيقيا"و في نهاية المطاف تدون هذه التقاليد باعتبارها تاريخا حقيقيا، و ينتمي العلماء العبرانيين الذين كتبوا وحرروا الكتاب بوصفه تاريخهم القومي لهذا النوع من التقليد. و هذه هي الطريقة التي خلق فيها التاريخ (Ward 1997:107-108). .
في حين أن بقية العالم القديم تجاهل هذه الأحداث أو أيا كان الأمر الذي ألهم العلماء العبرانيين أصلا، لأنها لا تشكل لديهم -أي لبقية العالم القديم-أي أهمية على الإطلاق. و يتابع وورد مناقشة هذه المشكلة: "هذا يشير إلى أن الأحداث الفعلية بحد ذاتها- تلك البذور القليلة من التاريخ المتجسدة هناك في مكان ما-كانت ضئيلة، إذ أنها لم تترك أي أثر إلا في سجل الأشخاص الذين حصلت لهم. قد تكون النواة التاريخية للخروج حدث يصور هجرة عائلة واحدة فقط بصورة سلمية من مصر إلى فلسطين. و قد تكون النواة التاريخية للغزو ليست أكثر من مناوشات ضئيلة عندما غادر الكنعانيون الخائبون المناطق الساحلية لبناء مستوطناتهم الزراعية الصغيرة في منطقة المرتفعات. و سوف يصبح انتقال عائلة من مصر إلى كنعان ملحمة مهيبة للشعب بأكمله، تماما مع قصص الطاعون،( الأوبئة) و جيش فرعون، و انشقاق البحر. وسوف تصبح سلسلة حروب و مناوشات هزيلة في الهضاب نضالا بطوليا لشعب بأكمله ضد صعوبات جمة... كثيرا ما ينمو الأبطال و الأحداث البطولية من أشياء صغيرة حصلت " (Ward: 109) . تنمي مرويات الخروج و الغزو الكتابية التاريخ الوطني للعبرانيين، تاريخ كتب من قبل علماء عبرانيين لجمهور عبري:" و سواء كانت هذه المرويات ناجمة عن ذكريات خاطئة أم عن تفاصيل وأسطرة أحداث طفيفة،فهي تعارض بشكل ملحوظ الغياب التام للأدلة المباشرة المصرية لدعم قصة الخروج والمجموعة المتزايدة من الأدلة التي تشير إلى أن الغزو لم يحدث قط. و ببساطة شديدة تحكي المصادر الكتابية وغير الكتابية قصتين مختلفتين" (Ward: 1997:111).. و هذا لا يعني أنه علينا أن نختار واحدة من الروايتين باعتبارها "الرواية الصحيحة". يقول لنا التقليد ما بعد الحداثي بأن العالم تعددي. وتم تدوين العهد القديم-باعباره تاريخ قومي- على أنه سردية ليست كما حدثت الأمور فعلا، بل كما نظر إليها على أنها قد حدثت، من وجهة نظر أولئك الذين حدثت لهم. و يرى وورد بأننا لسنا مضطرين للاختيار بين السرد التاريخي أوالسجل الأثري، ويخلص للقول" لا نحتاج للاختيار أو الموائمة، كل ما علبنا القيام به , ببساطة, التمييز بين كل نوع من الأدلة كما هو و نسيان العبء المزدوج المتمثل في الاختيار والموائمة، فالاختيار ليس ضروريا،والموامة غير ممكنة" (Ward 1997: 112). هذه محاولة جيدة جدا تسعى لعدم تحدي الكتاب و لعدم استخدام التفسيرات المكرسة له في السجال العلمي. و مع ذلك، هناك بعض المشاكل المتعلقة بهذا النهج: فعلى الآثاريين أن يختاروا السجل الآثاري لأن هذا هو محور علم الآثار. و بوصفنا علماء آثار ممارسين يفترض بنا كتابة تاريخ يستند على البقايا المادية. و كما أشار وورد أعلاه إذا كان حدث الخروج يصور خروج عائلة واحدة نحو فلسطين، فهذا الحدث المنعزل له علاقة ضئيلة أوحتى ليس له علاقة مع المجتمعات الأثرية في ذلك الوقت. و بالتالي، إذا ما ما نظر إلى أهمية تلك المرويات بقدر أهمية الدليلي المادي , فمن وجهة النظر الأركيولوجية ليس هذا سوى تعبير واضح عن نزعة كولونيالية دينية. إذا كان هذا هو الخروج الحقيقي فإن عائلة واحدة لاتمثل المجتمع موضوع البحث والتحقيق. هذه هي واحدة من المزايا الرئيسية لعلم الآثار، فنحن نواجه الجوانب التي لم يتم تسجيلها في المجتمعات, و بالتالي ليس الهدف من علم الآثار محاولة نسبة هذه البقايا وربطها مع مصادر مكتوبة, بل على العكس من ذلك، الهدف الرئيس لعلم الآثار هو تحدي المصادر المكتوبة، لأن المرويات المكتوبة تمتلك-كما رأينا أعلاه- قوة هائلة بعد تدوينها رغم أن معظم ما كتب قد لا يكون سوى نواة من الحقيقة فقط و بقيمة تاريخية ضئيلة.
ماذ يمتلك الكتاب[المقدس] من مضامين لتأويلات أخرى عندما يستخدم كنقطة مرجعية أو استدلالية، أو عندما تفسر المواد الأثرية ضمن الإطار الكتابي؟
يجادل أكسل كناوف بأن علم الآثار والنصوص لا يلتقيان،لمن يريد أن يكتب تاريخا لإسرءيل القديمة يقوم على المادة الأثرية، التي يمكن استخدامها بعد ذلك في سياق يتم من خلاله تأويل الكتاب(Knauf 1991: 26-64) وهذا يبدو سبيلا للمضي قدما نحو علم آثار الشرق الأدنى، لا سيما فيما يتعلق مثلا في الجدال المثار حول حادثة الخروج. فإذا كان هذا الخروج يتحدث عن مجرد عائلة واحدة هاجرت من مصر إلى فلسطين فهذا يحمل مضامين و آثار دينية هائلة، و لكن الأمر لا ينطبق على صعيد المادة الأثرية،و بالتالي، لا ينبغي للأجندة الآثارية أن تحكمها مثل هذه الأحداث كطروحات بحثية.
ولكن الآثاريون الكتابيون -من ناحية أخرى- لا يوافقون على هذا الطرح, و يناقش جون بارتلت بأن هذه المقاربة سيئة بقدر سوء استخدام النصوص كسياق يتم من خلاله تأويل علم الآثار، لأننا نمنح معنى للقى الأثرية تماما مثلما يعطي الباحثون الكتابيون معنى للأحداث" يجب أن يكون الجواب الأساس أن إعادة بناء جميع جوانب التاريخ الكتابي هو شأن يشترك فيه علماء من تخصصات مختلفة مثل اللغويين وعلماء فقه اللغة وعلماء النقوش القديمة ونقاد النصوص،والمؤرخين الأدبيين والآثاريين وغيرهم "(Bartlett 1997:13).
معظم الآثاريون في فلسطين هم علماء كتابيون واستقبلت نتائج الحفريات بحماسة بالغة من قبل الأصوليين. و يقدم ألبرت غلوك موجزا لعلم الآثار الكتابي كفرع منبثق من علم الآثار و يجادل بقوة بأن"علم الآثار الكتابي"لايزال مصطلح له مشروعيته. و هو يميز ثلاثة أنماط مختلفة لمقاربة علم الآثار الكتابي(Glock 1986: 90-98).أولا،علم الآثار الكتابي هو فرع من الدراسات الكتابية وليس فرعا من علم الآثار. و هذا ينطوي على أن علم الآثار الكتابي يتقبل طبيعة الكتاب كمصدر أدبي وتاريخي والتي أثارت تساؤلات ومشاكل من الكتاب وليس من علم الآثار. ثانيا، يتطلب علم الآثار الكتابي، من أجل نزاهته كحقل دراسي بأن يكون علم الآثار، لاسيما آثار فلسطين تخصصا مستقلا. ثالثا،علم الآثار الكتابي هو عمل تخصصات مختلفة تسعى لاستغلال نتائج الحفريات الأثرية والتحقيقات بغية تأويل شكل و مضمون الأدب الكتابي، و التاريخ والدين. و بالتالي، الهدف النهائي لعلم الآثار الكتابي هو إعادة بناء التجربة الفكرية والدينية المنعكسة في التقليد الكتابي. من وجهة النظر الأثرية، ضمن عالم و خطاب العلم، الممارسة المفضلة هي الاستراتيجية رقم(2) حيث علم آثار في فلسطين هو تخصص مستقل. و لكن هذا ليس مهما , إذ تكون الاستراتيجيتان(1) و(3) من وجهة نظر عالم الآثار الكتابي مشروعتان أيضا، حتى أنهما الاستراتيجيات الرائدة للطريقة التي يتم فيها تنفيذ و إنجاز هذه الممارسة العلمية. وهذا وثيق الصلة في عملية تتبع الإثنية الضمنية في علم الآثار الكتابي. آثاريات سوريا و فلسطين معنيه بالتاريخ الفلسطيني (كذا) بينما"علم الآثار الكتابي" هو" ذلك الفرع من الدراسات الكتابية التي تسعى استحضار معلومات البحث الأثري و الاستكشاف كافة لممارستها في تأويل الكتاب "(Lance 1982: 100). و بعبارة أخرى، هذا ليس علم آثار، بل هذه ممارسة تأويلية ثانوية من قبل لاهوتيين لللقى الأثرية السورية-الفلسطينية. و الأهم من ذلك، هناك جماعتين إثنيتين في الماضي ناهيك عن الحاضر: الفلسطينيون و الإسرائيليون. و النضال من أجل الماضي ما زال مستمرا لأن الإسرائيليين يمتلكون تاريخهم، والفلسطينيون لا يمتلكون ذلك .
يصف جورج مندنهال في كتابه"التاريخ الثقافي ومشكلة الفلستيين" المشكلة والخطر في علم الآثار الكتابي (أو أي علم الآثار):" [...] إن تأويل تاريخ قديم استنادا إلى مفاهيم حديثة للعرق والقومية أو"الهوية الإثنية-اللسانية لهو مفارقة تاريخية سخيفة وخطيرة أدت إلى الكثير من الشرور في القرن العشرين. و على العكس تماما، يشير التاريخ الاجتماعي المتحصل عليه من الأدلة المتاحة إلى أن عملية الانتشار الثقافي والاندماج للهجرات أو الفتوحات تنتج تعايشا و بنى اجتماعية جديدة، وتراكيب ثقافية جديدة، و غالبا في فترة زمنية قصيرة جدا من الزمن. وبالتالي فمن السخف الافتراض على نحو ما"عرق نقي"سواء من الفلستيين أو الإسرءيليين، أو التفكير بأن هناك نزوح كامل للسكان في كل مرة يطغى فيها اسم اجتماعي جديد على المشهد التاريخي"(Mendenhall 1986:534).
في ضوء ذلك، ما هو الدور الذي يمتلكه علم الآثار الكتابي؟
في العام 1985 لخص ديفيد نويل فريدمان،وهو واحدا من أكثر المدافعين بلاغة عن مدرسة أولبرايت، المشكلة مع علم الآثار الكتابي بهذه الطريقة (op. cit. Diver 1990: 25-26):. "الجمع بين الكتاب وعلم الآثار هو فعل مصطنع بصورة ما ؛ فالكتاب وعلم الآثار لا يلتقيان بما يرضي. و يتعامل الباحثون الكتابيون مع نوع واحد من المادة و يتعامل الآثاريون مع نوع آخر. و في مناسبات نادرة -لكنها هامة- يحدث تماس مميز بينهما، وكليهما اكتسبا من تبادل المعطيات والأفكار. ولكنهما على الأغلب يقفان دون تماس بينهما . و في العموم، أنا اعتقد بأن نتائج التبادل بين علم الآثار والكتاب هي نتائج مخيبة للآمال نوعا ما، ورغم أن هذا كان متوقعا على الأرجح ..... فعلم الآثارلم يقدم بشكل قاطع أو حتى مفيد كثيرا إجابات عن الأسئلة التي غالبا ما طرحت و فشل في إثبات تاريخية الأسماء و الأحداث الكتابية، لاسيما في الفترات المبكرة". ومع ذلك، يبدو غريبا مواصلة الآثاريون الكتابيون عملهم على الرغم من درايتهم بهذه المشاكل،و كأن شيئا لم يكن. ويعد علم الىثار في مدرسة أولبرايت تخصصا فرعيا. و يضع وليم ديفر ذلك بالقول "علم الآثار الكتابي "،هو حوار بين اثنين من التخصصات، تخصص الباحثين الكتابيين وتخصص علم الآثار السوري-الفلسطيني (Diver 1990:31).
هذا في مجال النظرية، و لكن على صعيد الواقع، كيف تتصل النظرية في الممارسة؟ كيف يتم استخدام الكتاب لتأويلات المادة الأثرية؟ ليس من المستغرب العثور على خلافات سطحية فقط في مدرسة أولبرايت: لايمكن لعلم الآثار أن يقدم تعليقا على كل أو حتى على أغلب النصوص الكتابية، لكنه يمكن أن يقدم العناصر المفقودة من القصة،و حتى في بعض الحالات، يمكنه أن يقدم صيغة بديلة. كما يمكنه أن يضيف قضايا هي غير موضع اهتمام الباحثين الكتابيين بساطة أو ربما أحداثا يجهلونها. هذا الجانب التكميلي أو التصحيحي (بدلا من الجانب التوكيدي) من علم الآثار مهمل في الغالب، و لكن في واقع الأمر أحد أكثر مميزاته قيمة في تضخيم و توضيح النصوص الكتابية(...) والخلاصة: علم الآثار، بقدر ما هو بحث تاريخي، فهو معد بصورة فريدة للمساعدة في الإجابة على أسئلة الدراسات الكتابية من قبيل: ترى ما الذي حصل على وجه التقريب؟ متى حدث ذلك؟ من كان المشاركون الرئيسيون؟ كيف حدث هذا؟.و لكنه يصل هنا إلى حدود تقصيه. فهو لا يستطيع و لا يقصد الإجابة على السؤال، لماذا.-بالتأكيد بمعايير أسباب نهائية أو إلهية. مثل هذه الأحكام تستدعي أحكام إيمان، لا يسعى علم الآثار إلى إثبات أو نفي شرعيتها(Diver 1990: 34-35)..
وإذن فالحكاية هي ذاتها من جديد كما يمارسها "باحثي علم الآثار الكتابي القديم". ولإعادة صياغة مقولة كلارك، يمكننا أن نقول بأن "عالم الآثار الكتابي هو باحث كتابي بعد بضع سنوات من استخدام المجرفة. لا أرى حقا أي فرق كبير بين علم الآثار الكتابي"الجديد"و إرث أولبرايت، و لكن بالطبع،ضمن تصورات الآثاري الكتابي، ربما تمتلك هذه الاختلافات الطفيفة تأثيرا مميزا. و لكن كشخص من خارج المجال، يظهر هذا بوضوح التحيز والأجندة الخفية في علم الآثار الكتابي، بل لا يزال علم الآثار الكتابي يستقطب أجندته ليس من علم الآثار ولكن من مشاكل البحث الكتابي. لم و لن يتم ستبدال السرد الكتابي. ولا يزال علم الآثار فرعا تخصصيا، و من المفترض بنا أن نجيب عن السؤال" ماذا، و متى و من؟ و لكن ليس على سؤال لماذا , بل إن الإجابات على أسئلة من نوع "لماذا" هي التي تجعل علم الآثار من ضمن العلوم الإنسانية ذات الطابع التحليلي. و يمكن أن أقول، بأن علم الآثار يمكنه، قاصدا فعلا، أن يجيب عن أسئلة على شاكلة "لماذا"، أو بعبارة أخرى، فهم الصيرورات الدينية والاجتماعية. و إلا فإن الوضع قد يحدث كما هو الحال مع علم الآثار الكتابي؛ نقب العلماء الكتابيون بالمعول وفسروا البقايا الأثرية ضمن إطار ديني. وهذا ما يتصل بحجتي الرئيسية: يمكن للآثاريين أن يدرسوا أي شيء، بما في ذلك أيضا الأسباب النهائية والإلهية، و لا يفترض بالعلم أن يكون مرضاة للمؤمنين. ما هو جوهري في علم الآثار الكتابي هو الافتراض بأن الآثار أو معرفة الماضي ليست هي الهدف في حد ذاتها، فالهدف النهائي المنشود هو فهم أعمق للكتاب. فالآثاريات ليست إلا وسيلة أو أداة لفهم الكتا ب؛" الغرض من علم الآثار ليس(إثبات) الكتاب، بل اكتشاف وتوضيح وشرح و إعلام و تكميل و إنارة وفي بعض الأحيان حتى تصحيح (الكتاب)" (Paul & diver 1973:x)..
هل ينحصر دور علم الآثار بإضافة صور دنيوية لمصادر مكتوبة فقط؟ هل علم الآثار يشبه تماما نسخة حديثة و مطبوعة لصورة ملونة للنصوص التاريخية القديمة؟ و هل أيضا ينحصر دور علم الآثار في أن يكون فرعا تخصصيا و بالتالي نتمكن من فهم وتقدير الكتاب المقدس؟ ما هي الأجندة الخفية؟ و إذن. ليس علم الآثار سوى مجرد أداة أو وسيلة إيضاح للكتاب. ها قد عدنا للصور" هنا، في هذا المكان تم الأمر، هذا ما كانوا يستخدمون" " هنا المائدة التي استخدموها في العشاء الأخير" أو حتى بشكل أفضل،" هذا هو الصليب المقدس الذي صلب عليه يسوع. عالم الكتاب المقدس-قاموس الآثار الكتابية، هو من بين مؤلفات أخرى يجسد هذه الممارسة. النصوص تشرح بصورة نمطية الصور التي ينبغي أن تقرؤ " ..... لاحظ الحجر الذي يتكور أمام فتحة القبر، مثل هذا الحجر الذي خشين النساء أن لا يستطعن دحرجته بعد دفن المسيح" (Pheiffer 1966:17)،" كنيسة القديسة حنة في القدس. كشفت الحفريات بجوار الكنيسة عن بركة يعتقد الآن أنها بركة بيتصيدا الكتابية "(Pheiffer 1966:141) أو بصورة أكثر تطرفا؛" المنحدر الشرقي من تلة أوفيل (مدينة داود) [سلوان؟]،تظهر المدينة والمصاطب-هي مثال لما يمكن أن يكون"القلعة-ردم التعبئة " المشار اليها في سفر الملوك الأول 9 : 15 و 24 )" (Paul & Diver 1973:21).. يستخدم الكتاب مباشرة كمرجع ليس فقط باعتباره تأويلا،ولكن باعتباره شارحا أو إطارا تأويليا. بعد خمسة عشر إلى عشرين سنة، استمر ذات الإطار التأويلي سائدا . والفرق الوحيد هو أنه غدا متطورا بدقة أكثر وازدادا القاموس سماكة .
في القاموس المصور والمعجم الكتابي من العام 1986، الذي شارك نحو 70 باحثا في كتابته وقام جيوفري ويغدور بتحرره ،أعطي لكل مكان و لكل اسم مذكور في العهدين القديم والجديد مدخلا خاصا كمفاهيم دينية رئيسية و موضوعات عامة،و كل الإشارات الواردة في الكتاب توجد في الهامش بجانب المدخل،و يتم توضيحها، كلما أمكن ذلك بصور للمواقع والتحف الأثرية (Wigoder 1986:11).و من المستحيل، طبعا، أن أشير إلى جميع الأمثلة لأن القاموس يتكون من 1070 صفحة تغطي المراجع الكتابية كافة , وهو بأكمله رابط بين المواقع و الإشارات الكتابية بالمواقع الفعلية و البقايا الأثرية. المنطق و السرد فيه على النحو التالي، على سبيل المثال المدخل الخاص بكلمة"مذبح": الهدف الرئيس للمذابح كان التضحية للرب. و قد عرف نوعين من المذابح في العصور القديمة. على الرغم من أن الوظيفة الأساسية للمذابح هي التضحية بالحيوانات للرب، فقد كان لهذه المذابح أغراض ثانوية، على سبيل المثال " كأماكن للصلاة والتجمع أو ملاذ" (Ex 21:14 1 Kgs 2:22ff) وعثرت عمليات التنقيب على" مذابح مقرنة" ( سفر الخروج 27 :2) , و الأنماط المختلفة من المذابح متوافقة مع الكتاب. قد تكون هذه من حجارة طبيعية كما هو الحال مع منوح والد شمشون الذي أخذ " جَدْيَ الْمِعْزَى وَالتَّقْدِمَةَ وَأَصْعَدَهُمَا عَلَى الصَّخْرَةِ لِلرَّبِّ. فَعَمِلَ عَمَلًا عَجِيبًا وَمَنُوحُ وَامْرَأَتُهُ يَنْظُرَانِ." ( سفر القضاة 13 :19).و يمكن أن تتكون المذابح من حجر واحد كبير ( سفر صموئيل الأول 14 : 33, 35) أوحجارة أصغر جمعت في كومة كما فعل يعقوب( سفر التكوين 31 : 46) ,وأخيرا،ثمة مذبح كالذي أمر موسى ببناءه على جبل ( سفر التثنية 27 : 5-6) " (Wigoder 1986: 58-59). . وسوف أشير بإيجاز إلى بعض أهم المدن في تاريخ إسرءيل القديمة،وكيف ارتبطت وفسرت من خلال المرجعيات والسرديات الكتابية، وأساليب تأويلية مماثلة لنموذج التصور التاريخي-الثقافي.
أ) بئر السبع وهي بلدة في النقب كان لها مكانة بارزة في تاريخ الآباء البطاركة. وفقا للكتاب، زرع إبراهيم "الأثل" هناك، ودعا باسم الرب ( سفر التكوين 21 :33)، وسكن في بئر السبع ( سفر التكوين 22 :19) . كما ذهب اسحق للعيش هناك وحفر بئرا هناك سماه [شبع]، ( تكوين 26 :23-33), و فيما بعد قدم يعقوب تضحيات في بئر السبع ( تكوين 26 :1-4). و أصبحت بعد أن احتلها يشوع من نصيب شمعون داخل أراضي يهوذا (يشوع 19:2). وكانت بئر السبع في عصر القضاة مدينة قائمة بالفعل و ربما مركزا لمقاطعة ( سفر صموئيل الأول 8: 2) والقول" من دان إلى بئر السبع" يوضح الوظيفة الدينية و الإدارية للمدينة وأهميتها ( قضاة 20 : 1, صموئيل الأول 3 : 20, صموئيل الثاني 3 :10), و تم مطابقة بئر السبع الكتابية مع موقع تل الشبعا الواقع على بعد خمسة كيلومترات إلى الشرق من مدينة بئر السبع حيث كشفت الحفريات الحديثة الواسعة على بقايا لست بلدات ملكية إسرءيلية محصنة تؤرخ للفترة من القرن الحادي عشر حتى القرن السابع ق.م.
ب) عاي، مدينة كنعانية إلى الشرق من بيت إيل. وفقا للكتاب،وخلال الغزو الإسرءيلي لكنعان وبعد سقوط أريحا،تم إعلام يشوع عن طريق جواسيسه بأن عاي قليلة السكان، فأرسل قوة صغيرة لمهاجمتها. فهزم الإسرءيليون و أصيبوا باليأس والقنوط. وعندما هاجم يشوع عاي للمرة الثانية استولى على المدينة،و أحرقها، و تحولت إلى" تلا أبديا خرابا " ( يشوع 8 : 1-29). و تم مطابقة عاي بالنسبة للقاموس المصور والمعجم الكتابي ومن قبل علماء آخرون إلى الجنوب الغربي من بيت إيل، شمال القدس. و كشفت الحفريات أنماط توطنية تعود إلى 3000 ق.م. " تم تدمير المدينة في القرن 24 ق.م، وبقيت خرابا حتى القرن 13-12 ق.م . كانت قرية العصر الحديدي على الأرجح هي عاي الكتابية ورجال عاي الذين هزمهم يشوع ربما كانوا أول السكان الذين جددوا الموقع (Wigoder 1986: 54) ويتم توضيح ذلك بصورة لبقايا مكان للفترة الكنعانية المبكرة عثر عليه في التل.
ج) أريحا" لم يتبق شيء من مدينة العصر البرونزي الحديث السابق لغزو يشوع وليس هناك توافق في الآراء بين العلماء حول تاريخ الغزو، على الرغم من أن التواريخ المقترحة تتراوح ما بين 1400-1250 ق.م. و البقايا التي تعود لأريحا العصر الحديدي (1200-330 ق.م قبل الميلاد) ليست غنية، و لكنها بصفة عامة تؤكد الأدلة من الكتاب"(Wigoder 1986: 517) .
د) مجدو،من ناحية أخرى،هي واحدة من المدن القديمة في الأراضي المقدسة التي نمتلك عنها معرفة أفضل، وتحتل مجدو موقعا استراتيجيا على المنحدرات باتجاه وادي يزرعيل حيث تسيطر على طريق التجارة بين مصر وسوريا و بلاد ما بين النهرين. و نظرا لموقعها فقد دارت في منطقتها العديد من المعارك،و أصبح اسمها مرادفا للهرمجدون؛ الموقع الذي يفترض فيه أن يحتضن المعركة النهائية بين الخير والشر(Rev 16: 12 ff) .تل المتسلم أو تل مجدو هي واحدة من أكبر المواقع الأثرية، وأشهر المواقع التي تم التنقيب فيه في إسرائيل(Wigoder 1986: 669).
لا يعترف أي عالم كتابي نقدي في التوصيف المذكور في سفر يشوع كانعكاس لما حدث فعلا قبيل تكريس الإسرءيلين كجماعة قومية (Prior 1997: 289)،و المعطيات الآثارية غائبة.و بالتالي فهذا الخطاب ليس مجرد رسوم توضيحية بريئة للحقيقة أوللحقيقة الدينية، بل هو أيضا مسألة قوة ودين وحقوق وسلطة على الأرض. يغدو علم الآثار عبدا للكتاب المقدس طالما أن أقلية فقط من العلماء الذين يشتغلون على هذه الموضوعات يتعاملون بمنهج نقدي مع هذه الأسئلة. وتتمثل دونية علم الآثار في التقليد ما فوق الوضعي وهناك ثمة رؤية ساذجة بشأن ما تعكسه الثقافة المادية: على الرغم من أن علم الآثار قد يلقى نجاحا في تمييز" الروابط المادية" للسلوك البشري والتنظيم الاجتماعي، فهو يصل إلى أقصى حدوده عندما يتعلق الأمر بالإيديولوجية. لم يبد علم الآثار تعليقا حتى الآن،و ربما لن يكون بمقدوره فعل ذلك بشأن الدوافع السياسية أو الدينية التي تقف وراء ظهور إسرائيل(.....).و جل ما يمكننا قوله أنه نشأ في وسط فلسطين في سياق الفراغ الحضاري الذي تلى انهيار المجتمع الكنعاني في القرن الثاني عشر ق.م،وعي و تضامن إثني جديد.و ضرورة ظهور هذه الإثنية لم يرافقها ثورة على الإطلاق، و يمكن النظر إليها بدلا من ذلك و ببساطة كتطور طبيعي وتاريخي وحتى يمكن التبنؤ به في تطور مجتمع معقد.و قد يكون علم الآثار قادر على تزويدنا بالبيئة التي من خلالها يغدو التغير الاجتماعي-الاقتصادي قابل للتفسير.و لكنه لا يستطيع أن يشرح المنشا النهائي لذلك التغير. الذي ربما يكون ذو أهمية بالنسبة للاهوت (Diver 1990:81). .أولا،هذا المنهج مساو لسلّم هوك بخصوص الموثوقية (1954) والذي طرحه قبل خمسين عاما، فثمة مقياس تصاعدي للصعوبة في تفسير المواد الأثرية في ضوء العمليات الإنسانية. و بناء عليه تكون الأنشطة التكنولوجية هي الفئة الأسهل للتفسير، يليها الاقتصاد، فالتنظيم الاجتماعي،و أخيرا الإيديولوجيا و الدين بوصفهما الفئات الأكثر صعوبة.و بهذه المقاربة القديمة لعلم الآثار، ينحاز الآثاريون الكتابيون للكتاب في التفسير.و عندما يكون الهدف تحليل الدين، سواء صراحة أم مواربة ضمن هذه المقاربة، يمنح الكتاب سلطة طبيعية لأنه ليس من المفترض في الدين أن ينعكس في البقايا المادية. و من ناحية أخرى تنعكس المادية دائما في البقايا المادية، على الرغم من أنها من الفئة الإيديولوجية أو الذهنية كما هو حال الدين. ثانيا، تقيد المعتقدات الخاصة للآثاري الكتابي موضوع الدراسة، بل وترسم هذه المعتقدات الممارسة الأثرية وتترك مساحة كبيرة من التحري للاهوت. ثالثا، إذا كان ظهور إسرءيل، أو بشكل أكثر صحة، الظهور المختلط لجماعات إثنية مختلفة في شرق الأردن عبر الزمن، تم تحليلها في إطار تحليلي عام موجود في النموذج التصوري للتيار ما بعد الإجرائي في علم الآثار، فإن كل هذه الجوانب يمكن أن تندمج و تخضع للتحري و التحقيق. أخيرا، و مرة أخرى، بغض النظر عن الكلمات الجذابة في مقدمات و في تاريخ علم الآثار الكتابي، نرى أنه لم يتغير شيء: فعلم الآثار هو فرع تخصصي من اللاهوت. ربما يقدم علم الآثار الخلفية البيئية، لكنه لا يفسر لماذا حدثت بضع عمليات معينة، فهذا مسعى لاهوتي، و هكذا يستند البحث الآثاري مرة ثانية على أجندة لاهوتية .
ما هو مميز في شخص مثل ديفر أنه يكتب بصورة صريحة، في حين أن معظم العلماء الآخرين يخفون افتراضاتهم وسردياتهم الكتابية المضمرة. وغالبا ما يقع الجدل بشأن الأدلة ضمن هذه الأنماط من التفكير. فالتحقيقات الأثرية" برهنت بالدليل القاطع بأن الموقع الدائم لأورشليم ما قبل السليمانية القديمة يجب أن يتم البحث عنه على التلة الجنوبية الشرقية المعروفة باسم (أوفيل)[=تلة أوفيل ] أوبصورة أكثر دقة المعروفة باسم ( مدينة داود ) (Mazar 1956:6,) " . "و هذا يبين كيف أن التفاصيل الواردة في الكتاب و المتعلقة بأورشليم منذ زمن داود و أبكر هي صحيحة بالمطلق إلى حدا ما "(Mazar 1956: 10) " لم يرد أي ذكر لحبرون في العهد الجديد. مطابقة حبرون مع مدينة الخليل الحديثة هو أمر مقبول من قبل جميع الخبراء " (Wigoder 1986:436)
انحيازات البحث و الممارسة العلمية
تكمن المشكلة بالطبع في أن كل نوع من البحث هو جزء من أجندة أو آفاق مختلفة من الفهم. كيف يمكن الإعلان أو التقرير بأن أساسا دينيا أو انحيازا هو أقل علمية من فهم بحوث ما بعد الحداثة للعالم ؟ المشكلة التي يواجهها الآثاريون هي السؤال عن الماهية التي ينبغي يكون عليها الغرض النهائي" لعلم الآثار". ليس هدفي تعريف"علم الآثار"،و لا الرجوع إلى التعاريف المختلفة. فالمسألة هي أن التعاريف المختلفة للأهداف النهائية لعمل الآثار تشتمل على مضامين و انعكاسات هامة لما يعتبر نشاطات أثرية (Trigger 1989:371).. العالم الذي نعيش فيه والترتيب المنطقي الموجود في المجتمع يحدد ضمنا الممارسات المختلفة. و من ثم تغدو المشكلة" في الطرقة التي ينبغي أن نتعامل فيها مع علم الآثار في كل الأحوال؟" (Hodder 1994:4) وفي ما يتعلق بهذا، يمكن تقديم معايير علمية (مثلا معايير الترسيم)، فإذا كان الأمر كذلك، فكيف نستخدم هذه المعايير؟ يتكون التأويل الآثاري دائما من كل من العقل والمادة. بدون عقل لاشيء مهم،و بدون مادة لا عقل. إن علم الآثار بوصفه تخصصا يهتم بالمعطيات الأثرية التي تتجمع في كيانات أثرية لتوضيح العمليات الآثارية ودراستها لجهة الأهداف والإجراءات والمفاهيم الآثارية (Clarke 1968:13).. و هذا يتم عن طريق القياس،و غالبا ما يقوم القياس على التشابه في الشكل. إلا أن معنى الموضوع يعتمد على سياق الموضوع. و هذا موضح من خلال المقاربة اللغوية في علم الآثار ما بعد الإجرائي. و قد ركز الآثاريون ما بعد الإجرائيون على قراءة الثقافة المادية.و الأفكار الكامنة وراء هذا النهج تعود بجذورها إلى سوسير(1960) و بارت ( 1973 ). و تتألف العلامة اللسانية المميزة من اتحاد مكونين "الدال"و"المدلول". و ضمن مفهوم الدلالة لا يوجد هنا علاقة مباشرة مع الواقع لأن العلاقة بين الدال والمدلول علاقة كلية أو توافقية. و ينظر إلى الثقافة المادية على أنها مماثلة للنص أو يمكن أن تقرأ كنص. و مثل أي نص أدبي فهي مفصولة عن سياق الإنتاج، و مثل معظم النصوص التعددية فهي تمتلك انفتاحا على ما تدل عليه و الذي لا يمكن ربطها بقصد "مؤلفها "(Olsen 1990:164).. لكن هذا يعني أيضا أننا لا نستطيع أن نفسر كل ما نريد. فشكل الموضوعات يضع قيودا على تفسير المعنى والمضمون. إذ ينبغي للمعنى أن لا يناقض الشكل إذا كان يفترض بنا أن نقبله على أنه تفسير لمحتوى الشكل. و العالم هو مجموع معاني أكثر منه مجموع أشياء. لكن الاشياء تمتلك واقعها و تمارس قيودا علينا (Gellner 1995:50). و تستمد طبيعية المادة الأثرية أهميتها من قدرتها على العمل كجسر ليس فقط بين العالم الفيزيقي و العقلي، بل أيضا بين الوعي واللاوعي (Miller 1987:99). و بالنظر إلى الأشياء أو القطع الأثرية، فإن شكلها يسبق المعنى، و بالتالي، يكون مسعى علم الآثار في تتبع السياقات والمعاني المختلفة عبر الزمن.
المشكلة في علم الآثار هي أن أفكارنا عن معنى ومضمون متلائم مع الأشكال إنما يستند على المعرفة المعاصرة والمنطق. و ينعكس هذا في ما يدعوه بارت مجازا "الملف"؛ يتم إعادة كتابة الماضي، و نحن أجزاء من تأثير التجربة كما تراكمت عبر الزمن(Barth 1993: 284). و لذا لايوجد ماضي بل ببساطة ماضي حاضر وحاضر حاضر ومستقبل حاضر(Moore 1995: 53). و لدينا إمكانيات محدودة لتطوير منطق بديل لفهم المضامين والأشكال في الماضي لأننا ربما لن نقبل روايات السكان الأصلييين كتفسيرات وتأويلات. مفهومنا المعاصر للشكل يقيد تأويلاتنا لمحتوي الماضي. و بالتالي تكون كل من الأنثروبولوجيا والإثنوأركيولوجيا مقاربتين هامتين للآثاريات في حل أوعلى الأقل في الحد من هذه المشكلة المعرفية (الإبستمولوجية). من الآن فصاعدا، يجب أن يكون هناك قدرا من التوافق بين الأسئلة المطروحة والإجابات المبررة تجريبيا (إمبريقيا). و التفسير المنطقي ليس "الفطرة السليمة". نحن بحاجة لشرح هذه " الفطرة "التي يتمتع بها الآخرين مع عقلايتنا وهذا ما يعد مهمة صعبة نظرا لأننا نعيش في عالمين مختلفين تماما.
إذا كانت الاستدلالات غير موثوقة فينبغي أن تكون إذن غير علمية أيضا (Hodder 1982b: 12-14). و ذلك لأن المشكلة" ... شعور الآثاريين (هو) أنه من السهل جدا لأشخاص مختلفين قراءة الأفكار والمعاني المختلفة في الماضي" (Hodder 1987:43). هذه التأويلات مستمدة من خبرة المفسر نفسه عن العالم جنبا إلى جنب مع قدر معين من المعرفة التاريخية والإثنوغرافية. الفرق بين الحجة والافتراض, و استخدام تعميمات غير مجربة واستدلالات غير مدعمة معاد بناؤها عن طريق عملية تخيل متعاطفة، هي بعض من نقاط الضعف الرئيسية للعديد من التأويلات ما بعد الإجرائية(Trigger 1995b: 455)." المنتج النهائي واضح: يبدأ العالم الأنثروبولوجي في فهم الثقافة الأخرى عندما تصبح أشكال الحياة الغريبة سابقا واضحة بالنسبة له، على الرغم من أنها لا تملك الوضوح الفوري لأشكال الحياة في مجتمعه نفسه" (Obeyesekere 1990: 229-230). هناك حدودا للوضع الثقافي في الأنثروبولوجيا، و بطبيعة الحال، حدود أكثر للوضع الآثاري والتأويلات، و الهدف ينبغي أن يكون بتقليص هذه الحدود عن طريق الممارسة العلمية.
عندما ينظر الآثارييون إلى البقايا الأثرية بعين الإعتبار، فعلينا أن نتساءل، لماذا يكون هناك أهمية لمسألة المعطيات؟ أو بتعبير أدق، ماذا بوسعنا أن نفعل بهذه المعطيات؟ الهدف هو دراسة الطريقة التي عا فيها الناس في الماضي و كيف تدبروا أمرهم مع اشتراطات بيئتهم الطبيعية و الاجتماعية. و لكن الثقافة المادية بكماء ولا يمكن للأشياء أن "تتكلم" أو"تخبر عن قصتها"مباشرة، بل يمكنها فعل ذلك فقط -بطريقة غير مباشرة- من خلال ممارستنا التأويلية. فمن خلال النظر إلى الموضوعات في مثل هذه الأطر النظرية التي علينا أن نحاول استخلاص فرضيات حول "ما تقوله"الموضوعات. و تكون الموضوعات من وجهة النظر هذه دليلا لا يؤكد ضعف أو دحض فرضياتنا المستمدة نظريا(Haaland 1997: 374).. و بعبارة أخرى، ليست البقايا المادية أو الأثرية متفوقة على تأويلاتها لأن" الموضوعات لا تتكلم من تلقاء نفسها، و يتعين علينا أن نتحدث بالنيابة عنها "(Haaland & Haaland 1995: 106). و بدلا من التأويل ذو الخصوصية المضمرة، يفترض في التأويل أن يكون صريحا، و من ثم فإنه يجب أن يستند على أطر نظرية عامة (Haaland 1997: 374). الأكثر أهمية في هذا التحليل هو حجة الباحث نفسه للتأويل وآفاق الفهم. نحن منتجات ثقافية بقدر ما كان شعوب ما قبل التاريخ أطفالا لعصرهم. نحن مرتهنين لسياقنا الاجتماعي، بما في ذلك أهدافنا وتجاربنا التاريخية والسياسية والشخصية، و مزيج هذه العوامل تؤثر ويحدد النتائج. لا يوجد ماضي موضوعي، و لا يوجد بحث موضوعي، و لايوجد باحثين موضوعيين، و مع ذلك يزعم البعض بوجود مثل هذه الأمور الموضوعية. القداسة تدل ضمنا على القيود. المقدس مرتبط بالسلطة و بالواقع لأن المقدس مشبع بالوجود، الفكرة التي تعيدني إلى المناقشة السابقة عن السعي الوجودي الأنطولوجي في العلوم الإنسانية. مظهر من مظاهر تجلي المقدس حين يؤسس العالم وجوديا) في اتساع متجانس لا متناه، حيث لا يمكن وجود أي مرجع، و بالتالي لا يمكن تأسيس أي توجيه،كشف المقدس يبوح عن نقطة ثابتة مطلقة، المركز. المقدس يشي بالحقيقة المطلقة و في ذات الوقت يجعل التوجيه ممكنا وبالتالي فإنه يؤسس العالم بمعنى أنه يثبت الحدود ويرسي النظام في العالم(Eliade 1987: 20-30).
والنص ليس نصا بسيطا مكتوبا على الورق. إنه معرفة تعطي للنص قيمته من خلالها. إذا كان النص مقدسا، فهناك عندئذ قيود متصلة به،و كذلك فيما يتعلق باستخدام النصوص لتأويلات البقايا الأثرية. سأفترض أن الموضوع الأثري لا يصبح مقدسا على الرغم من أن نصا مقدسا يستخدم كإطار تأويلي له . و من ناحية أخرى، إذا تعاملنا مع النص المقدس كنص دنيوي، فهذا يسمح لنا بمزيد من التوسع. ثمة هناك، ضمن علم الآثار الكتابي مزيجا من المفاهيم. لقد قدمت النصوص المقدسة باعتبارها نصوصا دنيوية عندما تستخدم لتأويل بقايا أثرية"دنيوية" في أزمنة و أماكن مختلفة، و لكن من جهة أخرى من غير المسموح لأحد الطعن في الكتاب، لأنه مقدس أيضا. و يجادل مارك بريت بأن سفر التكوين صمم لتقويض التفوق الإثني للحكام الإمبراطوريين في الحقبة الفارسية. و قد استخدم المحررون التقاليد الموجودة، سواء كانت هذه التقاليد قديمة وموثوق بها أم لا، في سياق اجتماعي وسياسي معاصر(Brett 2000). و من ناحية أخرى, إذا كان ينظر إلى سفر التكوين على أنه الخلق الأصلي للأرض والجنس البشري، فإن ذلك يسمح بتأويلات أخرى للمادة الأثرية. يجادل الآثاريون الكتابيون حول استعمار إمبريالي ديني أو صليبي من الماضي عوض عن تضمين اشتراطات معينة عند استخدام الكتاب[المقدس] في سياق علم الآثار. لا يوجد أي تناقض بين أن يكون مؤمنا مسيحيا ويستخدم الكتاب كسردية دنيوية في خطاب علمي. و لكنه يعكس أن هناك اختلافات واضحة بين العلم والدين. إذا خلط الدين مع العلم، سوف يؤدي ذلك إلى خلق غشاوة على صعيد الممارسة الأثرية. و هو يعكس، بصورة أساسية تحيز العلماء أنفسهم. أو بالنسبة لمؤمن حقيقي متحمس تكون الهوية الدينية أعمق من الإثنية، الدين هو مجرد حقيقة وجودية. أما الإثنية فقد تتغير، لكن الرب لا يزال هناك مستقل عن القومية و الإثنية. على أن الكتاب بوصفه إطارا علميا للتأويلات، فيتم معاملته إما كمقدس أو كدنيوي. و إذن،كمصدر مكتوب، يمكن أن ينظر إليه على أنه إما :(1) مصدر دنيوي عادي أوسردية، (2) أو كتاب مقدس أو نصوص مقدسة. أو بتعبير أدق، مقاربة علمية للكتاب تعامله كمقدس و دنيوي. و الهدف هو ليس تقرير ما إذا كان الكتاب مقدسا أم لا، بل تحليل كيف ولماذا ومتى نظر إليه كمقدس.
الكتاب [المقدس] كنص
يجادل وليم ديفر بأنه "إذا كان علم الآثار الأمريكي (أنثروبولوجيا أولا شيء)، إذن فعلم الآثار السوري-الفلسطيني هو (تاريخ أو لاشيء) " (Diver 1997c:299). فمن غير المتصور بالنسبة للآثاري الكتابي عدم استخدام الكتاب [المقدش] كإطار عام تأويلي. و يناقش توماس طومسون مطولا المشاكل المتصلة بالكتاب كمصدر مكتوب(e.g. Thompson 1992, 1999) . و من ناحية أخرى، يجادل بقوة الآثاريون الكتابيون ومن بينهم ديفر، بأفكار ما بعد الحداثة هذه لتأويل الكتاب. بيد أن الأمر بالنسبة لطومسون هو أن موضوع الدراسة الكتاب بحد ذاته، و بالتالي هو يحلله من وجهة نظر علمية، و لذلك سوف أشير إلى بعض من توجهاته. المشكلة ليست في أن الكتاب مبالغ فيه أو غير واقعي، و بكل تأكيد ليست في كونه مزيف. فمؤلفوا الكتاب واقعيون وصادقون بصورة تدعو للدهشة. في شروطهم الخاصة-التي هي ليست شروط الباحثين الكتابيين النقديين-لقد عبروا عن أنفسهم وعن العالم الذي يعرفوه (.....) لقد كتبوا ضمن آراء و أفكار و صور و استعارات و رموز، و وجهات نظر و أهداف، هي في مجملها مختلفة عن تلك الموجودة في وقتنا الحاضر. و بالنسبة للجزء الأكبر, يمكن القول، عادة، بأن ما يهتم به المؤرخون الحديثون و الآثاريون ليس له علاقة تذكر مع الكتاب (Thompson 1999:104). هناك مشكلة واحدة تتعلق بكتابة التاريخ. يجادل طومسون بأن فهم كتابة التاريخ الكتابي ينبغي أن ينظر إليه على أنه إرث فكري لشرح أخلاقي وديني نقدي لماضي إسرءيل،ينعكس في النصوص الكتابية. تم جمع تقليد الماضي و تأويله ليكون بمثابة تحذير و أساس للإثنية المثالية للمستقبل على حد سواء، إن مستقبل إسرءيل الحقيقية هو الذي حدد ماضي إسرءيل المستعاد تذكره (Thompson 1992: 375, 382). و بعبارة أخرى، يعكس الكتاب المرويات المختلفة التي تم جمعها، كتب و قنن من قبل محررين من أجل خلق إثنية إسرائيلية. لا يمكن نزع النص من سياقه التاريخي من دون فقدان المعلومات. و لا يمكن لنص أن يكون مفهوما بمعزل عن سياقه. ونادرا ما يفهم من فحوى الشكل النهائي للنصوص الكتابية على أنها تمثل كلا متحدا بحد ذاته. و بالتالي فالخصوصية المميزة للعديد من وحدات التقليد الكتابي هي نتيجة جمعها كتقاليد ذات مغزى: " إنهم أصوات بعيدة عن جامع النص، و كاتب التاريخ وحافظ الأرشيف، إنهم يتكلمون معهم، كما يفعلون ذلك معنا(Thompson 1992: 385). بعبارة أخرى، يمثل الكتاب أيضا ظل حقيقة مختلفة. وهذا ينطوي على مشاكل تأويلية. أولا، لا يمكننا أن نفترض أن التقاليد التي تم جمعها تعكس بصورة مباشرة أو غير مباشرة العالم الحقيقي للجامعين. ثانيا، إن فهمنا للجامعين والمحررين لا يزودنا بالسياق الابتدائي الذي يمكن أن يفهم على أنه مصفوفة تاريخية للتقليد. ثالثا، من منظور عالمي لجامع النص، نحن لا نفهم الإشارات التاريخية لقصة أو قصيدة تم جمعها. رابعا، لا يمكن أن نتوقع إعادة بناء سياقات تاريخية محددة وسياقات اجتماعية –سياسية، يتعين عليها أن تنعكس بشكل أو بآخر في مثل هذه التقاليد من الماضي، سواء تم أم لم يتم تجزئتها و تحولها إلى سياقات أخرى. أخيرا، الأمر الأكثر إقناعا للرواة و المحررين يتمثل في أن هذه التقاليد تعكس"حقائق" الماضي السحيق، أو أحداث أكثر جدة وأكثر أهمية لرؤيتهم للعالم، و على الأقل سيكون من الممكن فهم مصادرهم في سياق العلاقة الأصلية (Thompson 1992: 392).. يشير الكتاب إلى تاريخ إسرءيل، و لكن التقليد الكتابي يرتبط بتاريخ الإسرءيليين عندما نستخدمه بصورة غائية كنتيجة نهائية لمساره الأدبي. و لكن،إذا ما استخدمنا التقاليد بوصفها شواهد تاريخية على تاريخ سابق للسياق التاريخي للتقليد، فإن مثل هذا التاريخ ينطوي على مفارقة تاريخية في جوهره من الصعوبة بمكان تجنبها (Thompson 1992: 386).. و بالتالي، لم يعد بديهيا أي افتراض مفاده أن مثل هذه النصوص تصور تاريخا. " ليس فقط كون (إسرءيل) الكتابية خيال أدبي، بل لأن الكتاب ابتدأ كتقليد راسخ بالفعل: دفق من القصص والغناء والتفكير الفلسفي، جمعت ونوقشت وجودلت " (Thompson 1999:xv) . الماضي هو مشهدية فشل ستتغلب عليها" إسرءيل الجديدة". بناء على هذا النهج، فإن تأريخ الكتاب هو أمر حاسم في هذا السجال. إذا ما تأملنا كم هو سهل الطعن في تاريخية ليس داود أوسليمان فحسب بل أحداثا تعود لعهدي حزقيا أو يوشيا، أو كم هو مقنع تأريخ الحقبة الفارسية أو ما بعدها للتقاليد الكتابية كما هي تبدو اليوم، إن جوهر أي مشروع تاريخي يحاول كتابة تاريخ أواخر الألفية الثانية أو أوائل الألفية الأولى ق.م في فلسطين على أساس التكامل المباشر للمصادر الكتابية وغير الكتابية، لجسر الهوة ليس فقط لقرون ولكن تقريبا لجميع الاختلال الثقافي والسياسي والاجتماعي، ينبغي أن يظهر ليس فقط كمشروع مشكوك فيه بل يدعو للسخرية كليا (Thompson 1992: 403)..
و سوف أضيف مقاربة أخرى، من خلال استعراض حجج طومسون لتوضيح الصعوبات في علاقة الذات والموضوع التي تواجه هذه المرويات. إذا كان المنظور الأنثروبولوجي صالحا لتأويلات ثقافات أخرى، فمن الممكن تطبيق هذا المنظور على الثقافات والمفاهيم المسيحية. و من خلال تحليل رواة الكتاب على اعتبارا أنهم أنثروبولوجيين، فالقضية ليست في كونهم يصفوا أو يأولوا ثقافتهم"الخاصة بهم" أو مجتمع وشعب"غريب" مختلف. و بالتالي، فإن دورهم كان هو دور الرواة المعاصرون. و هذا يعني بروز مشكلتين سأوضحهما من هذه المقاربة. أولا، تحليل الثقافة كمراقب مشارك، و ثانيا معرفة الرواة الذين يستند إليهم الأنثروبولوجيين (أو في هذه الحالة الراوي الكتابي) كقاعدة بيانات للتأويلات.
و كنتيجة لهذا، ينبغي، بطبيعة الحال للبقايا الآثارية أن تكون أيضا متنوعة وملتبسة. و المشكلة التي تطرح ذاتها هو كيفية استيعاب هذه الحقيقة في علم الآثار، و كيفية فهم التعقيد في المادة الأثرية. و بما أن الآثاريين لا يمكنهم اختيار أي من هذه الامتيازات، فغالبا ما يكون الحل فكرة مجردة حتى يتحقق الاتساق". إن التحدي كما أفهمه هو قبل كل شيء تحد نظري و يتعلق بالكيفية التي يتم فيها تأطير تعليل للاختلاف والاضطراب. بل حتى أكثر من مجرد الكيفية التي يتم فيها تجميع المعطيات على الاختلاف" (Barth 1993: 22). فالهدف هو السعي لتحليل المجتمع، عندما " أبحث في الحياة الاجتماعية التي تحيط بي كحقيقتي (كواقعي وسلطتي ومرجعتي )"(Barth 1993: 25). و تمثل البقايا المادية الواقع، من وجهة النظر الآثارية. إلا أنه واقعا غامضا. الأمر الذي يتصل بالمشكلة الثانية، فإلى أي مدى يمتلك الراوة معرفة عن التنوع الثقافي لمجتمعهم؟ ناقش الأنثروبولوجي غاناناث أوبيسكيري هذه المشكلة باستخدامه النصوص الدينية كمثال في كتابه عمل الثقافة (1990: 221-226)..: أولا، حتى أفضل الرواة قد لا يعلم معنى النصوص التي يرويها. و تمثل النصوص في كثير من الأحيان تقليدا منذ عهد بعيد وخلال هذه الفترة يتغير المعنى الأصلي للنصوص، أو يتم فقدانه أو نسيانه. و نحن من يحيلها إلى التحليل مفترضين وجود تقليد مستمر، إلا أن هذا ليس سوى حيلة أوجدناها ولا يمتلك، على الأرجح سوى تأصيل قليل في الواقع. و قد يكون من الصعب الوصول إلى المعنى أو أن هذا المعنى مجهولا للشخص المختص على الرغم من كونه هو صاحب الأداء، و يبدو أن المعنى كف عن أن يكون ذو أهمية للدين المعاصر. قد يكون المعنى" مخفيا عن الراوي لأنه متوار في التقليد. و يتطلب الكشف عن المعنى أن يكون اليوجه الآثاري بمثابة قوة دفع تساهم في التقصي العلمي عن الماضي(.....) و نميل، نحن، للافتراض بإمكانية الوصول لمعنى النص للراوي أو أن الرواة يقدمون تفاسير صالحة فقط". ثانيا، يمتلك الأشخاص العاديين معرفة مختلفة عن تلك التي يمتلكها الكهنة والمتخصصين؛ و مع ذلك فهم يؤدون طقوسا و يشاركون في ثقافتهم. و هذا يفرض علينا أن ندرك الطابع الإعتباطي لما نحرره من مستويات التأويلات الأصلية هذه في تقديماتنا الوصفية. ثالثا، يختلف المعنى الخفي عن المعنى اللاواعي. و إذا لم يقبل المرء بوجود مادة لاواعية، فهو بذلك سيترك مساحة كبيرة للرمزية من الحياة الاجتماعية من دون تحقيق وتقصي من قبل عالم الأنثروبولوجيا (أو عالم الآثار) و غير مفسرة من قبل الراوي (في هذه الحالة يكون الكتاب [ المقدس]). أخيرا، تكمن علاقات الذات-الموضوع في جذور التحقيق الاجتماعي ككل. لا يقدم الرواة"حقائق" هكذا ببساطة، بل هم ينضوون تحت مظلة حوار حاسم ومستمر من العلاقات بين الذاتية و بيننا نحن. فالمشاركة هي مشاركة في الحوار، و ليس التماهي مع ثقافة أخرى، و المراقبة ليست موضوعية، بل هي هوية متحررة للعمل جنبا إلى جنب مع المشاركة.
كم هو عدد الرواة الكتابيون الذين يمكن وصفهم بأنهم أنثروبولوجيين غير محترفين استطاعوا أن يدركوا مثل هذه المشاكل التي نوقشت من قبل فريدريك بارث وغاناناث أوبسيكري ؟ يمكنني القول لا احد.
ما سبق يعني ضمنا أن الإثنوغرافيا الوصفية المناسبة للأشكال الرمزية يجب أن تتجاوز وجهة نظر السكان الأصليين، و الواقع السطحي للتفاهمات اليومية العادية. و يستتبع ذلك أن تشكل الإثنوغرافيا المناسبة مصدر قلق لنا و أن تصدمنا أو تحكمنا إلى إدراك لم نعرفه من قبل(......) و هكذا فالإثنوغرافيا الجيدة هي الوصف النموذجي المثالي التي يتم من خلاله اكتناه الواقع السطحي وسبر غوره باستخدام نظرية شرعية قانونية (Obeyesekere 1990: 224-225).. و ينبغي لعلم الآثار الجيد، في اعتقادي، أن يفعل الشيء ذاته بالضبط، و تمكننا اللقى الأثرية من تقديم مثل هذه التأويلات. و هذا بدوره يشير إلى أنه إذا ما أردنا استخدام الكتاب كمصدر تاريخي، فلن يكون بمقدورنا عندئذ تأويل المواد الأثرية في الإطار العام الوارد في الكتاب، بل علينا المضي بعيدا متجاوزين الكتاب كمصدر. و مع ذلك مازال بإمكان المصدر المكتوب منحنا ربما فكرة عن كيفية تأويل الثقافة المادية، و لكن عندئذ باعتبار هذا المصدر استدلالا وقياسا . إلا أن الأمر ليس كذلك لدى الآثاريين الكتابيين الذين يمتلكون ممارسة مختلفة. فالحالة الإبستومولوجية للكتاب بوصفه كتابا مقدسا قد عوضت بسبب من افتقاره للتكامل و النزاهة كمصدر تاريخي. ومن وجهة نظر علمية, هذا ليس كافيا و لا مقبولا، لأن الأمر بالنسبة للآثاريين الكتابيين هو أكثر من كاف، و هنا يظهر كيف يختلف العلم و الدين .
يوضح هذا النقاش جزء من المشاكل لمصادر مكتوبة في علم الآثار. غالبا ما يكون هناك مفهوما ضمنيا بأن النصوص هي أكثر حقيقية من البقايا المادية، و بالتالي، إذا وجدت مصادر مكتوبة فينبغي أن يستخدموها. و لكن كما رأينا، تمثل النصوص حقيقة واحدة، و الثقافات المادية تمثل حقيقة أخرى، و هذه الأخيرة هي على الأرجح أقل عرضة للتلاعب. كيف يفترض بنا تأويل الحقائق الأخرى الموجودة؟ تتمتع النصوص أوالمصادر المكتوبة" بأساس مادي متأصل" (Norr 1998: 13). و من الوجهة النظرية فالاستدلال هو الاستدلال [و ليس شيئا آخر]. و لذلك فالمبادئ الخاصة باستخدام الاستدلالات التاريخية والإثنوغرافية في التفسيرات الآثارية متماثلة من حيث الجوهر. و في كلتا الحالتين نحن نستنبط المعلومات عن شعب معين من النصوص أوالكتب التي نقارنها مع الأدلة المادية كي نعرف فيما إذا يمكن للصور المتطابقة أن تشكل كلتا الفئتين أم لا. و المشكلة مع كل من النصوص الإثنوغرافية الحديثة و تلك التي قام بها مؤلفون كلاسيكييون تكمن في دمج آفاق التأويل للفهم، أي المؤلف والموضوعات التي تمت دراستها. وبالتالي، يكون السبيل الأفضل لعلم الآثار في استخدام المصادر المكتوبة هو" قراءة ما بين السطور". وقتئذ يكون تأويلنا الخاص للنص مندمج و صريح في تأويل الجوانب المعرفية للماضي. يشير ديفيد كلارك إلى ما يسميه" فقدان البراءة" لعلم الآثار (Clarke 1973) عندما يغدو الآثاريون واعين لذواتهم. ونتيجة لذلك تصبح الحاجة ملحة لإبداء الرأي ضمن الخطاب العلمي بخصوص الاستخدام الساذج و اللانقدي أو سوء استخدام المصادر المكتوبة بحاجة إلى إبداء رأي فيه. ليس مشروعا أو منطقيا إخفاء أجندة وراء الدافع الشخصي الديني أو الكتاب بوصفه كتابا مقدسا. و قد وصف كلارك هذه المشكلة على النحو التالي: فقدان البراءة البحثية هو ثمن توسع الوعي، وهو ثمن باهظ بكل تأكيد و لكن من المتعذر تفادي الخسارة و المكسب كبير في هذه الحالة. و على الرغم من أن فقدان البراءة البحثية تعد عملية مستمرة، إلا أنه يمكننا مع ذلك أن نلحظ عتبات مميزة في الانتقال من الوعي إلى الوعي الذاتي النقدي وما بعده. و ربما يتحقق الوعي عندما يدعى ميدان التخصص ويعرف بدرجة كبيرة عن طريق تحديد مادته الخام وعن طريق ممارسة براغماتية-علم الآثار هو ما يفعله الآثاريون (Clarke 1973: 6). في هذا السياق سوف يتم تعريف علماء الآثار من قبل آثاريين آخرين أو من قبل مجتمعات أخرى بصورة عامة على أساس الممارسة التي يقوم بها أقرانهم الآثاريون. و لذلك، يتعين على المرء من أجل الحفاظ كمشروع علمي أن ينتقد الممارسات الأثرية الأخرى إذا كانت غير مقبولة. ناقشت مارغريتا دياز أندرو العلاقة بين المصادر المكتوبة والبقايا المادية في الفترات التي كان فيها كلا المصدرين موجودين. و لايزال علم الآثار يشكل المصدر الرئيس للمعلومات، إن لم يكن المصدر الوحيد، للغالبية العظمى من الناس الذين لهم اهتمام ضئيل بالنخبة الأدبية التي أنتجت النصوص. كما يعتبر، علاوة على ذلك، المصدر الوحيد لمطابقة ومقارنة المعلومات التي يمكن أن تزودنا بها النصوص، التي تم صياغتها في معظم الحالات, على الأقل عن طريق هويات الجنوسة و المكانة (Diaz-Andreu 1998: 206-207). تتناسب الحالات الأثرية للماضي مع السياقات الأثرية للماضي، و تفسيرات الماضي ذات صلة شديدة بالحالات الأثرية الماضية للمعرفة ومعرفتنا ليست بأفضل من تلك الجوانب (Clarke 1973: 8).
الحقيقة: إثبات أم فرضية؟
يعد الكتاب[المقدس] بالنسبة للمسيحيين بمثابة الموجه لمعرفة الحقيقة العليا السامية. وثمة حقائق بديهية مقترحة تحدد الأسئلة و الأجوبة القابلة للطرح وذلك ضمن آفاق بحوث عالم الآثار الكتابي والإنحيازات. و تميل الأجوبة لأن تكون فريدة في تأملاتها، بغض النظر عن إدراكها لحقيقة أن البيانات تسمح بتقديم تأويلات مختلفة. و هذا يشكل بحثا منحازا سواء كان له أساس ديني أو سياسي. و إذا ما تم تأويل اللقى الأثرية ضمن أطر من الحقائق المطلقة، فسوف تبقى هذه اللقى ساكنة داخل آفاق الباحث الثابتة لحيز معطى. و يمكن وصف هذه الممارسة المحافظة العلمية في علم الآثار الكتابي (كفرع من اللاهوت بدلا من علم الآثار) بما يشبه عملية "حل اللغز". و هذا وثيق الصلة بفكرة وجود نموذج واحد فقط و رؤية واحدة للعالم مقبولة في علم الآثار الكتابي. و التغيير في النموذج أو رؤية العالم سوف يقوض البحث إلى حد قد يصل لموته. لذلك،سيبقى علم الآثار الكتابي كما كان و وسوف يكون مؤسسة بحثية عادية تسعى لحل اللغز ضمن الإطار الكتابي الذي يتميز بأنشطة تتعلق بالحقيقة أو جمع المعطيات. و يتكون من العمل الإمبريقي الملتزم ببلورة نظرية النموذج، و بحل بعضا من النقاط الغامضة المتبقية لديه و يتيح الفرصة لإيجاد حل للمشاكل التي لفت النظر إليها في ما مضى. ومن ينجح في إثبات نفسه كخبير في حل اللغز, و تحدي اللغز هو الجزء الهام الذي يدفعه عادة لأن يمضي قدما. و ما يتحداه إذن هو القناعة بأنه لو يمتلك مهارة بما فيه الكفاية، فسوف ينجح في حل اللغز الذي لايملك أحد حله أو حله بصورة جيدة من قبل. و لكن طلاب العلم يقبلون نظريات عن سلطة المدرس والنص، ليس بسبب وجود أدلة(Kuhn 1970) . هذا هو المأزق العلمي في علم الآثار الكتابي. قد يؤدي حل الأحجية بعلماء الآثار الكتابيين لأن يصبحوا " أكثر دأبا في مراكمة البيانات التي ليس لها صلة بالموضوع، و التي تم إيرادها بشكل انتقائي لدعم وجهة نظر مسبقة" (Gould 1987: 292) بدلا من تحدي العقائد المختلفة.
يوضح وليم ديفر هذه النقطة، و إن كان بسذاجة كيفية عمل الممارسة العلمية. فهو يفصل بين الواجب التاريخي الوصفي والواجب اللاهوتي المعياري، فالواجب التاريخي الوصفي هو عمل المؤرخ الذي يجب أن يكون موضوعيا قدر الإمكان في معرفة ما حدث من خلال طرح السؤال" ماذا يعنى ذلك؟" تكمن المعيارية اللاهوتية لهذا السؤال في السؤال عن الإيمان، و بالتالي، و طبقا لديفر، يتوجب عليه أن تعليق الحكم على مسائل الإيمان (Diver 1990: 36). و جوهر هذه الأفكار العلمية الضبابية تلقي بظلالها على الجزء الأكبر من الممارسة الأثرية الكتابية. و من المتفق عليه عموما، و بعد أربعة عقود من فكر ما بعد الحداثة، أنه يستحيل أن نفهم" ما الذي يعنيه حقا". نحن نفهم ذلك في حيزنا اليوم ضمن أفق بحثنا الخاص. المشكلة في هذه المقاربة للممارسة العلمية عدم قابليتها للقياس، بمعنى , عدم وجود " مقياس عام مشترك"(Hacking 1983: 67) .فكيف يمكننا إذن تقويم التأويلات المختلفة؟ هل تناسب النظريات المعطيات والعكس بالعكس؟ هل من الممكن المقارنة بين النظريات دون أي معيار قياس دقيق للقيام بذلك؟ لايمكن اعتبار الكتاب [المقدس] أداة موضوعية قبلة للاستخدام كمرجع في هذا الصدد، و ينبغي أن تعامل النصوص المقدسة مثل أية وثيقة أخرى [غير مقدسة؟] مكتوبة.
و هذا بدوره يتناقض مع المفهوم الضمني السائد بين العديد من الآثاريين الكتابيين بأنه من الممكن دراسة المجتمعات الساقة معزل عن معتقداتنا المعاصرة" الملوثة". يجادل ديفر بأن"مؤلفي الكتاب خلصوا إلى أن اصطفاء إسرءيل وبقاءها على قيد الحياة لم يكن بأقل من معجزة. و من نكون نحن-وصفنا ورثتهم الروحيين-كي نعارض ذلك ؟"(Diver 1990: 84) . لا يمكنني أن أتخيل كيف يمكن أن نأخذ علم الآثار الكتابي على محمل الجد كفرع علمي من علم الآثار عندما يحدد إيمان الباحث الأسئلة والأجوبة المحتمل قبولها. و يبدو الأمر أكثر من غطرسة بأن الشخص نفسه الذي يقبل المعجزات في التفسيرات الأثرية يقوم هو نفسه في الوقت ذاته بانتقاد آثاريين كتابيين باستهزاء مروع، بطرق غير احترافية وتحمل الكثير من الإثارة (Diver 1990: 163)، و يستمر قائلا: لم يسع علم الآثار لتحويل غير المؤمنين قط، و هولم يفعل ذلك بكل تأكيد. حتى أنه يلمح إلى أن الأساس المنطقي الجزئي الذي يقدمه علم الآثار يوفر نقيض الإيمان لأولئك الذين يرون في هكذا مسوغات اعتذاريات موالية. ربما هذا يكون مضللا في الإصرار على طلب المزيد مما يقدمه لنا علم الآثار. و عوض عن ذلك كنا نطرح الأسئلة الخاطئة.... و من المفارقات، أن يعود، ربما، الكثير من افتتان الجمهور للحفريات الحديثة الأخيرة إلى حقيقة أن علم الآثار أصبح بديلا علمانيا للدين، و بحث نوستالجي عن التاريخ وشعور بالهوية المستمدة سابقا من الدين. من المؤكد أن هذا التفسير يتفق مع الهوس الأثري في إسرائيل اليوم، حيث يمسي هذا الهوس في هذا المجتمع العلماني هوايته القومية بحثا عن أحدث الاكتشافات (Diver 1990: 169). وبرغم هذا يضفي الدين الشرعية على سوء الإستخدام في سياقات الهواية القومية هو الدين و كذلك, على سبيل المثال, المعرفة التي ينتجها ديفر ورفاقه، وردة الفعل, حتى في الأراضي المقدسة، لابد أن تكون بطريقة يمنح فيها علم آثار الشرق الأدنى صورة أكثر وضوحا عن الماضي، صورة مختلفة عن تلك الموجودة في الكتاب و هو ما يعني فشل علم الآثار الكتابي في محاولته دمج اثنين من التخصصات المختلفة, و يختتم يختتم وليم ديفر مقالته ( بصدد الاكتشافات الأثرية الحديثة والبحث الكتابي Diver 1990: 171-172:) بقوله" قد نمتلك أو قد لا نمتلك القدرة على إثبات أن جميع الأحداث المسجلة في الكتاب حدثت أو لم تحدث، و لكن مثل هذه القضية ذات أهمية ضئيلة في نهاية المطاف. فالوعي الديني يتخطى ماوراء الحدث نحو المعنى. و المزاعم الرامية للبحث عن حقائق أعلى هي ببساطة ليست سهلة المنال على صعيد التقصي التاريخي أو الأثري، كما أنها لا تستفيد من الإثبات التاريخي أو الآثاري. فهذه مسائل تتعلق بالإيمان". إذن ما هو الغرض من علم الآثار الكتابي؟ ولا ينتمي الكتاب المقدس] و علم الآثار لبعضهما لبعض, وفي هذا السياق يبدو علم الآثار التوراتي, و من غير الممكن لعلماء الآثار الكتابيين الفصل بين الكتاب و علم الآثار طالما أنهم يتمسكون بمصطلح "علم الآثار الكتابي" وذلك في أفق البحث والنظرة إلى العال-بما في ذلك جميع الحقائق الوجودية والمعرفية-، الأمر الذي يسمح بالقول بوجود أجندة خفية ومنحازة على الدوام. و علم آثار الشرق الأدنى وهو من اسمه يفتح مساحات جديدة و يركز على تقصي يكون فيه ممكنا الجمع بين الدين والبحث في طرق أخرى.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن