ألف باء الشيوعية - الفصل الأول:النظام الرأسمالي

بوخارين و بريوبراجنسكي

2006 / 4 / 29

الإهداء


إلى التجسيد الأمثل لعظمة وحيوية البروليتاريا، إلى ممثل بطولتها ووعيها الطبقي الحاسم، وحقدها القاتل على الرأسمالية واندفاعها الرائع نحو بناء مجتمع جديد –إلى الحزب الشيوعي العظيم نهدي هذا الكتاب.
نهدي الكتاب إلى الحزب الذي يقود جيشا من مليون رجل، الذي يقبع في الخنادق، ويدير المناطق الشاسعة وينقل الحطب في «السبوت الشيوعية» ويمهد ليوم انبعاث البشرية.
نهديه أيضا إلى قدماء الحزب الذين تصلبوا في المعارك والانتصارات، وإلى أعضائه الجدد الذين سيواصلون عملنا حتى نهايته.
إلى مقاتلي الحزب وشهدائه، إلى الذين قضوا في غياهب السجون، إلى الذين ماتوا تحت التعذيب، والذين شتتهم وأعدمهم أعداؤنا بينما كانوا ينفذون عملهم الحزبي، نهدي هذا الكتاب.
بوخارين و بريوبراجنسكي

======
الفصل الأول: النظام الرأسمالي



الاقتصاد السلعي- احتكار الطبقة الرأسمالية لوسائل الإنتاج- العمل المأجور- ظروف الإنتاج في ظل الرأسمالية- استغلال قوة العمل- رأس المال- الدولة الرأسمالية- التناقضات الأساسية في النظام الرأسمالي-

الاقتصاد السلعي

إذا درسنا الحياة الاقتصادية في ظل الرأسمالي، نجد أن أول صفة من صفاتها هي إنتاج السلع. قد يسأل القارئ: «حسنا. ولكن ما أهمية ذلك؟». الأهمية في الأمر أن السلعة ليست مجرد منتوج. السلعة شيء جرى إنتاجه من أجل السوق.
المنتوج الذي ينتجه المنتج لنفسه، لاستعماله الخاص، ليس سلعة. الفلاح يبذر ويحصد الموسم ويدرسه ثم يطحن الحبوب ويخبز الخبز لنفسه. هذا الخبز ليس سلعة. إنه مجرد خبز. وهو يصبح سلعة فقط عندما يباع ويشترى. أي عندما يجري إنتاجه من أجل المشتري. من أجل السوق. والذي يشتريه يملكه.
كل المنتجات في ظل الرأسمالية يجري إنتاجها من أجل السوق. أي أنها جميعا سلع. كل مشغل أو مصنع ينتج في العادة منتوجا واحدا فقط. لذا يسهل علينا أن نفهم لماذا المنتج لا ينتج المنتجات من أجل استعماله الخاص. صاحب معمل التوابيت يصنع التوابيت في معمله. وطبيعي أنه لا يصنعها لنفسه أو لأسرته وإنما للسوق. ومثله صاحب معمل زيت الخروع. فحتى لو كان هذا الرجل يعاني باستمرار من اضطرابات في المعدة، فإنه لن يستعمل لسد حاجته الخاصة أكثر من كمية تافهة من زيت الخروع الذي ينتجه معمله. وما نقوله هنا يصح –في ظل الرأسمالية- على أية سلعة تخطر بالبال.
معمل الأزرار يصنع الأزرار. لكن ملايين الأزرار لا تصنع لكي تخيَّط على بذلة صاحب المعمل. إنها تصنع برسم البيع. وكل ما يصنع في ظل النظام الرأسمالي يصنع من أجل السوق. ويصب في هذه السوق النقانق والقفازات والكتب ودهان الأحذية والآلات والويسكي والخبز والأحذية والأسلحة الخفيفة –باختصار، تصب في هذه السوق كل المصنوعات.
الاقتصاد السوقي يفترض بالضرورة وجود الملكية الفردية. الحرفي المستقل الذي ينتج السلع، يملك محترفه وأدواته. صاحب المعمل أو المشغل يملك المعمل أو المشغل ببنائه وآلاته. وحيث تسود الملكية الفردية والإنتاج السلعي، يسود النزاع على المشترين أو المنافسة بين الباعة. وحتى قبل ظهور أصحاب المعامل والمحترفات والرأسماليين الكبار، عندما لم يكن يوجد غير الحرفيين المستقلين، كان هؤلاء الحرفيون يتنازعون فيما بينهم على كسب المشترين. وكان الأقوى والأذكى والأكثر طمعا والذي يملك أفضل الأدوات، وخاصة الذي ينجح في تخزين المال، هو دائما الذي يبلغ هدفه ويجتذب الزبائن ويدفع منافسيه نحو الإفلاس. لهذا نقول أن نظام الملكية الصغيرة، والاقتصاد السلعي القائم على هذه الملكية الصغيرة، كان يشتمل على بذور الملكية الكبيرة وينبئ بانهيار العديد من المنتجين الصغار.
الصفة الرئيسية للنظام الرأسمالي هي الاقتصاد السلعي. والاقتصاد السلعي هو اقتصاد ينتج من أجل السوق.
احتكار الطبقة الرأسمالية لوسائل الإنتاج

إن الاقتصاد السلعي لا يكفي لوحده لوجود النظام الرأسمالي. فقد يوجد الاقتصاد السلعي دون أن يوجد الرأسماليون. ومثال على ذلك الاقتصاد الحرفي حيث المنتجون الوحيدون هم الحرفيون المستقلون. هؤلاء ينتجون من أجل السوق ويبيعون منتجاتهم. ومنتجاتهم –بلا شك- سلع، وإنتاجهم إنتاج سلعي. ولكن هذا الإنتاج ليس إنتاجا رأسماليا. إنه ليس أكثر من إنتاج سلعي بسيط. ولكي يتحول الاقتصاد السلعي البسيط إلى إنتاج رأسمالي، يجب أن يتوفران شرطان: 1- يجب أن تصبح وسائل الإنتاج (الأدوات، الآلات، الأبنية، الأراضي، الخ.) ملكا فرديا بيد طبقة محدودة نسبيا من الرأسماليين الأغنياء، 2- يجب أن يؤدي ذلك إلى انهيار وإفلاس معظم الحرفين المستقلين والفلاحين وتحولهم إلى عمال مأجورين.
قلنا أن الاقتصاد السلعي يؤدي إلى إفقار البعض كما يسمح بإغناء البعض الآخر. وهذا ما حصل فعلا. لقد انهار معظم الحرفيين المستقلين والمعلمين الصغار في كل البلدان على حد سواء، واضطر أفقرهم حالا إلى بيع أدواتهم وتحولوا من «معلمين» إلى مجرد «بشر» لا يملكون غير قوة سواعدهم. أما الأغنياء، فازدادت ثرواتهم، فأعادوا بناء مشاغلهم ووسعوها وادخلوا الآلات الجديدة إليها وبدأوا يستخدمون المزيد من العاملين. أي أنهم تحولوا إلى أصحاب معامل إلى أرباب عمل.
ومع مرور الزمن، انتقل إلى أيدي الأغنياء كل ما هو ضروري للإنتاج: أبنية المصانع، الآلات، المواد الأولية، المستودعات، المساكن، المشاغل، المناجم، سكك الحديدية، السفن التجارية، الأراضي –باختصار، كل وسائل الإنتاج. وصارت وسائل الإنتاج هذه كلها ملكية خاصة للطبقة الرأسمالية، صارت «احتكارا» للطبقة الرأسمالية، كما يقال.
عدد قليل من الأغنياء يملكون كل شيء. وجماهير الفقراء الواسعة لا تملك شيئا سوى سواعدها. الصفة الرئيسية الثانية من صفات النظام الرأسمالي، إذن، هي احتكار الطبقة الرأسمالية لوسائل الإنتاج.
العمل المأجور

الأعداد الكبيرة من البشر الذين حرموا من كل ملكية، تحولوا إلى عمال مأجورين لرأس المال. هل كان الفلاح أو الحرفي المفقر يملك مخرجا آخر؟ لا. فإما أن يخدم كعامل زراعي عند مالك الأرض الرأسمالي وإما أن ينزل إلى المدينة ويبحث عن عمل في مشغل أو مصنع. لم يكن له من مخرج آخر. هذا هو أصل العمل المأجور. والعمل المأجور هو الصفة الثالثة من صفات النظام الرأسمالي.
ما هو العمل المأجور؟
في الماضي البعيد، كان يوجد العبيد والأقنان. وكان يمكن شراء وبيع أي قن أو عبد. وكان الأسياد يملكون، كملكية شخصية، بشرا لهم جلد وشعر وسواعد وأرجل. والسيد يجلد أقنانه حتى الموت في الاصطبل بكل بساطة، تماما كما يحطم كرسيا وهو تحت تأثير الشراب. وكان القن أو العبد يعتبر من الأملاك المنقولة. عند الرومان، كانت ملكية السيد –أي كل الأشياء الضرورية للإنتاج- تقسم إلى ثلاثة أقسام: «الأدوات البكماء» (الأشياء) و«الأدوات شبه الناطقة» (أي الدواب والماشية من غنم وبقر وثيران، الخ). باختصار الحيوانات غير الناطقة) و«الأدوات الناطقة» (أي العبيد، البشر). المجرفة والثور والعبد، عند السيد، كلها أدوات متساوية، يبيعها ويشتريها ويسيء استعمالها أو يحطمها حسبما يشاء.
العامل المأجور لا يمكن شراؤه أو بيعه. يمكن شراء وبيع قوة عمل العامل المأجور. ولكن لا يمكن شراء وبيع الرجل نفسه أو المرأة. يمكن شراء وبيع قدرة هذا وتلك على العمل. العامل المأجور حر بشخصه. ولا يستطيع صاحب المعمل أن يجلده في الاصطبل أو بيعه لجاره أو يبادله لقاء جرو وكلب، وهذه أمور كانت تحدث كلها أيام القنانة. العامل المأجور يمكن استئجاره فقط. وهو، من حيث الشكل، متساو مع الرأسمالي. ويقول له صاحب المعمل: «لا تعمل إذا كنت لا تريد العمل. لا أحد يجبرك على العمل». هذا يعني أن رب العمل يمنن العامل بأنه يطعمه وبأنه يجد له عملا.
الحقيقة أن العامل المأجور والرأسمالي ليسا متساويين على الإطلاق. العمال عبيد للجوع. الجوع يجبرهم على أن يؤجروا أنفسهم. والجوع يجبرهم على أن يبيعوا قوة عملهم. ولا يوجد حل آخر بالنسبة لهم. لا يوجد خيار آخر. العامل لا يستطيع إنتاج «منتوحه» اعتمادا على قوة ساعديه وحدها. وهل يوجد من يستطيع أن يصهر الحديد وأن يغزل ويحيك ويبني القاطرات دون الاستعانة بالأدوات والآلات؟ وبعد، فالأرض ذاتها مملوكة فرديا. ولا توجد قطعة أرض واحدة لا يملكها أحد، ما دامت صالحة لأن يقام عليها مشروع ما. حرية العامل في بيع قوة عمله، حرية الرأسمالي في شرائها، والمساواة بين الرأسمالي والعامل المأجور. لا هذه حرية ولا تلك مساواة. إنها سلاسل الجوع التي تجبر العامل على العمل من أجل الرأسمالي.

جوهر العمل المأجور هو بيع قوة العمل، أي تحويل قوة العمل إلى سلعة. أيام الاقتصاد السلعي البسيط، كنت تجد في السوق الحليب والخبز والنسيج والأحذية وغيرها. لكنك ما كنت تجد قوة العمل. قوة العمل ما كانت برسم البيع. كان مالك قوة العمل، الحرفي المستقل، يملك بيته الصغير وأدواته بالإضافة لقوة عمله. وكان يعمل لحسابه الخاص، ويدير مؤسسته بنفسه، ويبذل قوة عمله لأجل هذا الغرض.
الأمر يختلف كليا في ظل الرأسمالية. العامل ما عاد يملك وسائل الإنتاج. وهو لا يستطيع استخدام قوة عمله لإدارة مؤسسته الخاصة. مفروض عليه أن يبيع قوة عمله للرأسمالي إذا أراد أن لا يموت من الجوع. لهذا السبب، تجد إلى جانب الأسواق التي تبيع القطن والجبنة والآلات أسواق العمل حيث البروليتاريون –أي العمال المأجورون- يبيعون قوة عملهم.
الفارق بين الاقتصاد الرأسمالي والاقتصاد السوقي البسيط هو أن قوة العمل نفسها تتحول إلى سلعة في الاقتصاد الرأسمالي. والصفة الثالثة للنظام الرأسمالي هي وجود العمل المأجور.
ظروف الإنتاج في ظل الرأسمالية

النظام الرأسمالي له ثلاث صفات: الإنتاج الموجه للسوق (الإنتاج السلعي)، احتكار الطبقة الرأسمالية لوسائل الإنتاج، والعمل المأجور، أي العمل القائم على بيع قوة العمل.
هذه الصفات تثير السؤال التالي: ما هي العلاقات بين الأفراد العاملين في الإنتاج والتوزيع؟ عندما نقول «إنتاج سلعي» و«إنتاج من أجل السوق»، ماذا نعني؟ نعني أن الأفراد يعملون بعضهم لبعض، ولكن كل واحد منهم ينتج للسوق في مؤسسته دون أن يعلم سلفا من هو الذي سيشتري سلعه. لنفترض انه يوجد حرفي يدعى عباس وفلاح يدعى يوسف. عباس الحرفي صانع أحذية. يحمل الأحذية إلى السوق ويبيعها ليوسف. وبواسطة المال الذي يتقاضاه من يوسف، يشتري عباس من يوسف نفسه كمية من الخبز. عندما ذهب عباس إلى السوق لم يكن يعمل أنه سيلتقي بيوسف. فكل منهما ذهب بكل بساطة إلى السوق. وعندما اشترى عباس الخبز، واشترى يوسف الحذاء، كانت النتيجة أن عباس يعمل من أجل يوسف ويوسف يعمل من أجل عباس. ولكن دون أن يتضح الأمر لهذا أو ذاك فورا. فالضجة في السوق تنسى البشر أنهم في الواقع يعملون واحدهم للآخر وأنه لا يستطيع أن يعيش بدونه. في ظل الاقتصاد السلعي، يعمل البشر واحدهم للآخر، ولكن بطريقة فوضوية، ويبقى كل منهم معزولا عن أخيه لا يدري مبلغ حاجته إليه. الأفراد –في ظل الإنتاج السلعي- تربطهم بعضهم ببعض علاقات متبادلة هي التي تهمنا الآن.
الواقع أنه عندما نتحدث عن «احتكار وسائل الإنتاج» أو عن «العمل المأجور»، فإننا نتحدث عن العلاقات بين الأفراد. ما معنى «احتكار»؟ الاحتكار يعني أن أشخاصا يعملون ويستخدمون في عملهم وسائل إنتاج تعود ملكيتها لغيرهم. الاحتكار يعني أن العمال خاضعون للذين يملكون وسائل الإنتاج، أي أنهم خاضعون للرأسماليين. بعبارة أخرى، ما زلنا هنا نعالج السؤال التالي: ما هي العلاقات المتبادلة بين الأفراد عندما ينتجون السلع؟ والعلاقات المتبادلة بين الأفراد خلال عملية الإنتاج تسمى علاقات الإنتاج.

علاقات الإنتاج تغيرت مع الزمن. في الماضي البعيد، عندما كان البشر يعيشون في تجمعات صغيرة، كانت العلاقات الرفاقية الودية سائدة بينهم (صيد، قنص، قطف، ثمار أو تقليع جذور) وكانوا يتقاسمون كل ما يجنوه. هذا نمط واحد من علاقات الإنتاج. أيام العبودية، كانت علاقات الإنتاج من نمط آخر. وفي ظل الرأسمالية، يسود نمط ثالث من علاقات الإنتاج. يوجد إذن عدة أنماط من علاقات الإنتاج. وتسمى أنماط علاقات الإنتاج هذه الأنظمة الاقتصادية في المجتمع أو أنماط الإنتاج.
«علاقات الإنتاج الرأسمالي» أو «مجتمع من النمط الرأسمالي» أو «نمط الإنتاج الرأسمالي- كل هذه التسميات تعبر عن العلاقات بين الأفراد في اقتصاد سلعي يتصف باحتكار حفنة صغيرة من الرأسماليين لملكية وسائل الإنتاج كما يتصف باضطرار الطبقة العاملة إلى بيع قوة عملها.

استغلال قوة العمل

لماذا تحتاج الطبقة الرأسمالية إلى استئجار العمال؟ كلنا يعلم أن السبب ليس على الإطلاق لان أصحاب المعامل يريدون إطعام العمال الجياع، وإنما لأنهم يريدون جني الأرباح بواسطتهم. من أجل الربح، يبني صاحب المعمل معمله. من أجل الربح، يشغل العمال عنده. من أجل الربح، يبحث عن الأسواق التي تدفع لسلعه أعلى الأسعار. الربح هو محرك كل أعماله. هنا نكتشف صفة مثيرة من صفات المجتمع الرأسمالي. فهذا المجتمع لا ينتج الأشياء المفيدة والضرورية له، بل أن الطبقة الرأسمالية تجبر العمال على إنتاج السلع التي تأتي بأغلى الأسعار، السلع التي يجني الرأسماليون منها أكبر قدر من ممكن من الأرباح. المشروبات الروحية، مثلا، مادة مضرّة جدا بالصحة، يجب إنتاجها فقط لأغراض تقنية أو لاستخدامها في صنع الأدوية. لكن الرأسماليين ينتجون المشروبات الكحولية في طول العالم وعرضه بكل ما أوتوا من حماس وزخم. لماذا؟ لان إغراق الناس بالشرب تجارة رابحة.
يجب أن نوضح الآن كيف يتكوّن الربح. ولهذا السبب، يجب أن ننظر إلى المسألة بالتفصيل. الرأسمالي يحصّل الربح على شكل مبلغ مالي عندما يبيع السلع التي أنتجها معمله. ما هو مبلغ المال الذي يحصل عليه من بيع سلعه؟ يتوقف هذا المبلغ على السعر. كيف يتحدد السعر؟ ولماذا تباع سلعة بسعر منخفض بينما تباع أخرى بسعر مرتفع؟ الجواب ليس صعبا. إذا دخلت الآلة إلى أحد فروع الإنتاج واستخدام العمل بطريقة مجدية (أي إذا كان العمل منتجا، كما يقال) ينخفض سعر السلعة. أما إذا كان الإنتاج صعبا وكمية السلع المصنوعة قليلة وإذا فشل صاحب العمل في استخدام العمل بنجاح، أي إذا لم يكن العمل منتجا بالدرجة المطلوبة، يرتفع سعر السلعة.
إذا اضطر المجتمع إلى بذل ما يزيد عن المعدل من العمل لإنتاج سلعة معينة، يرتفع سعر هذه السلعة. أما إذا انخفض هذا المعدل، ينخفض سعر السلعة. لنفترض أن فاعلية الصناعة متوسطة، أي أن الآلات والأدوات ليست أفضل الآلات والأدوات الموجودة، ولا هي أسواها. هنا نسمي كمية العمل الاجتماعي الضرورية لإنتاج سلعة معينة قيمة تلك السلعة. إذن، السعر يتوقف على القيمة. والواقع أن السعر قد يزيد أو ينقص عن القيمة. ولكن يمكننا –توخيا للبساطة- أن نعتبره مساويا للقيمة.
لنتذكر الآن ما قلناه سابقا عن العمال المأجورين. أن استخدام عامل يعني بيع سلعة معينة. وهذه السلعة اسمها «قوة العمل». عندما تصبح قوة العمل سلعة، ينطبق عليها ما ينطبق على السلع الأخرى. وعندما يستخدم الرأسمالي العامل، يدفع له سعر قوة عمله (أو فلنقل أنه يدفع له قيمة قوة عمله، توخيا البساطة هنا أيضا). ولكن كيف تتحدد هذه القيمة؟ قلنا أن الذي يحدد قيمة السلع –كل السلع- هو كمية العمل المبذولة لإنتاجها. هذا القول ذاته ينطبق على قوة العمل.
ما الذي نعنيه بإنتاج قوة العمل؟ قطعا، لا يجري إنتاج قوة العمل في المصنع، مثلما يجري إنتاج دهان الأحذية والنسيج والآلات. كيف نفسِّر إذن إنتاج قوة العمل؟ لكي نفسرها، يكفي أن نلقي نظرة إلى الحياة اليومية في ظل الرأسمالية. ها هم العمال قد انتهوا من عملهم. إنهم منهكون. لقد استنفذوا كل نشاطهم، وهم لا يستطيعون بذل المزيد من العمل. قوة عملهم مستنفذة تقريبا. ماذا يحتاجون لكي يجددوا قوة عملهم؟ إنهم يحتاجون إلى الطعام والراحة والنوم، فتعود إليهم قوتهم. هكذا تتجدد قوة عملهم. وهذا يعني أن الطعام والكساء والسكن –باختصار، الحاجيات الضرورية التي يحتاجها العامل –تؤثر على إنتاج قوة عمله. ولكن لا يجوز أن ننسى العوامل الإضافية التي تدخل في إنتاج قوة العمل، كنفقات تدريب العمال عندما يكون المصنع بحاجة لعمال مهرة، على سبيل المثال.
كل ما تستهلكه الطبقة العاملة لتستعيد قوة عملها له قيمة. ولهذا السبب، فقيمة قوة العمل = قيمة الحاجيات الاستهلاكية + نفقات التدريب والتأجيل. السلع المختلفة لها قيمة عمل مختلفة. وكل نوع من أنواع قوة العمل له قيمته الخاصة به. قيمة قوة عمل عامل الصف في المطبعة مختلفة عن قيمة قوة عمل العامل غير الماهر.
ونعود إلى المصنع. الرأسمالي يشتري المواد الأولية والمحروقات والآلات والزيوت والضروريات الأخرى. ثم يشتري قوة العمل، أي يستخدم «اليد العاملة». وهو يدفع ثمن كل هذه المشتريات نقدا. ويبدأ الإنتاج. العمال يعملون. الدواليب تدور. المحروقات تحترق. الشحم يستهلك. أبنية المصنع تبلى. قوة العمل تستنفذ. نتيجة ذلك، ينتج المصنع سلعة جديدة. ولهذه السلعة قيمة كما لغيرها من السلع. فما هي قيمتها؟ أولا، امتصت هذه السلعة قيمة وسائل الإنتاج المستهلكة –المواد الأولية، المحروقات المستهلكة، الآلات البالية، وغيرها. قيمة كل هذه تحولت إلى قيمة السلعة نفسها. ثانيا، أضيف على قيمة السلعة قيمة أخرى هي عمل العمال. إذا كان عدد العمال 30 عاملا، وإذا صرفوا 30 ساعة عمل لإنتاج هذه السلعة، يكونون قد بذلوا ما مجموعه 900 ساعة عمل. ويكون مجمل قيمة المنتوج هو قيمة المواد المستخدمة في إنتاجه (ولنفترض أن قيمتها تساوي 600 ساعة عمل) بالإضافة إلى القيمة الجديدة التي أضافها العمال للمنتوج بواسطة عملهم، وهي 900 ساعة. مجموع قيمة هذه السلعة إذن هو 600 + 900 = 1500 ساعة عمل.
لكن، ما هو المبلغ الفعلي الذي دفعه الرأسمالي كثمن لهذه السلعة؟ لقد دفع كامل ثمن المواد الأولية، أي أنه دفع مبلغا من المال يساوي قيمة 600 ساعة عمل. ما الذي دفعه كثمن لقوة العمل؟ هل دفع قيمة الـ 900 ساعة كاملة؟ هنا مفتاح السر. لقد افترضنا أن الرأسمالي دفع كامل قيمة قوة العمل. إذا عمل 30 عاملا خلال 30 ساعة –أو خلال ثلاثة أيام على أساس 10 ساعات في اليوم- يكون صاحب المعمل قد دفع لهم المبلغ المطلوب لاستعادة قوة عملهم خلال تلك الأيام الثلاثة. ما هو هذا المبلغ؟ الجواب واضح: إنه أقل من 900. لماذا؟ لأن كمية العمل المطلوبة لتجديد قوة عمل العامل شيء، وكمية العمل التي يستطيع هذا العامل أن يبذلها شيء آخر. أستطيع أن أعمل 10 ساعات في اليوم. ولكن، لكي أحصل على حاجتي اليومية من الطعام والكساء وسواهما، فإن كل ما احتاجه من حاجيات تساوي قيمته الإجمالية 5 ساعات عمل. هذا يعني أنني أستطيع أن أقدم من العمل ما يزيد عما هو ضروري لتجديد قوة عملي.
لنعد إلى المثال لذي انطلقنا منه. العمال يستهلكون من الطعام والكساء، وما شابه خلال ثلاثة أيام ما قيمته 450 ساعة عمل من الحاجيات. لكنهم يقدمون 900 ساعة عمل في المقابل. هكذا يبقى للرأسمالي 450 ساعة تشكل مصدر ربحه. والواقع أن السلعة كلفت الرأسمالي 600 + 450 = 1050 ساعة عمل. لكنه يبيعها لقاء قيمة قدرها 600+ 900 = 1500 ساعة عمل. الفارق بين الاثنين –أي 450 ساعة- هو فضل القيمة الذي أنتجته قوة العمل. هذا يعني أن يوم العمل ينقسم إلى نصفين، كل منهما من خمس ساعات. في النصف الأول، يعمل العمال للتعويض عما تلقوه من أجر. وفي النصف الآخر، يعملون للرأسمالي مجانا.

لننظر الآن إلى المجتمع ككل. أن ما يفعله صاحب المصنع الفرد أو العامل الرفد لا يهمن كثيرا. الذي يهمنا هو كيف تعمل الآلة الضخمة المسماة المجتمع الرأسمالي. الطبقة الرأسمالية تستخدم الطبقة العاملة، الأكبر منها بكثير من حيث العدد. وفي ملايين المصانع والمناجم والمقالع وفي الغابات والحقول مئات الملايين من العمال يكدحون كالنمل.
رأس المال يدفع لهم أجورهم، أي قيمة قوة عملهم التي يستعينون بها دائما لتجديد قوة عملهم من أجل الاستمرار في خدمة رأس المال. الطبقة العاملة تنتح أجورها من عملها. وبالإضافة لذلك فهي تخلق مدخول الطبقات العليا، تخلق فضل القيمة. ويتدفق فضل القيمة إلى جيوب طبقة الأسياد عبر ألف وسيلة ووسيلة. قسم يذهب للرأسمالي نفسه على شكل أرباح معملية، وقسم يذهب لمالك الأرض على شكل ريع عقاري. وقسم آخر يدخل خزائن الدولة الرأسمالية. أما الأقسام الأخرى، فتذهب للتجار والباعة وأصحاب الحوانيت، أو تنفق على الكنائس وفي المواخير ولإعالة الممثلين والفنانين والكتاب البرجوازيين. وعلى فضل القيمة الذي ينتجه العمال تعيش كل الحشرات الطفيلية التي يولدها النظام الرأسمالي.
غير أن قسما من فضل القيمة يعاد توظيفه من قبل الرأسماليين، إذ يضيفونه إلى رأسمالهم، فينمو هذا ويتكاثر. وهكذا يوسعون مؤسساتهم ويستخدمون أعدادا إضافية من العمال، ويستجلبون آلات أفضل. والواقع أن زيادة عدد العمال تسمح بإنتاج كمية إضافية من فضل القيمة. وهكذا تتسع المؤسسات الرأسمالية وتتكاثر. ومع كل طلعة شمس، يتقدم رأس المال خطوة جديدة إلى أمام، ويراكم المزيد من فضل القيمة. ويتضخم رأس المال مع امتصاصه لفضل القيمة الذي تنتجه الطبقة العاملة –وهذا ما نسميه استغلال رأس المال للعمال.
رأس المال

نستطيع الآن أن نفهم بوضوح ما هو رأس المال. رأس المال قيمة قبل أن يكون أي شيء آخر. قد يكون مالا أو آلة أو موادا أولية أو أبنية صناعية أو سلعا مصنوعة. غير أن رأس المال قيمة تسمح بإنتاج قيمة جديدة، أي تسمح بإنتاج فضل القيمة. رأس المال قيمة تنتج فضل القيمة. والإنتاج الرأسمالي هو إنتاج فضل القيمة.
في المجتمع الرأسمالي، تكون الآلات والأبنية الصناعة على شكل رأسمال. ولكن هل تكتسي الآلات والأبنية دائما شكل رأسمال؟ لا، بالتأكيد. إذا كان المجتمع بأسره مجتمعا تعاوليا ينتج كل شيء لنفسه، فلا تكون الآلات ولا المواد الأولية رأسمالا، نظرا لأنها ليست مستخدمة كوسائل لمراكمة الأرباح عند قبضة من الأغنياء. هذا يعني أن الآلات مثلا تصبح رأسمالا عندما تملكها الطبقة الرأسمالية كملكية فردية، عندما تستخدم لاستغلال العمل المأجور ولإنتاج فضل قيمة. أما الشكل الذي تتخذه القيمة هنا فليس مهما. فقد تتخذ القيمة شكل السبائك الذهبية أو العملة الورقية التي يشتري بواسطتها الرأسمالي وسائل الإنتاج وقوة العمل. أو قد تكون على شكل آلات يعمل عليها العمال، أو على شكل سلع انتهى صنعها وباتت برسم البيع. المهم أن هذه القيمة تتحول إلى رأسمال عندما تستخدم لإنتاج فضل قيمة.
إن رأس المال تتحول مظاهره باستمرار. فلندرس كيف تتم هذه التحولات.
الرأسمالي لم يشتر بعد قوة العمل ولا وسائل الإنتاج. لكنه متحفز لاستخدام العمال وشراء الآلات والحصول على أجود المواد الأولية وعلى كمية كافية من الفحم، إلى آخره. إنه لا يملك إلا المال. وهنا نجد رأس المال بشكله الحالي.
يتجه الرأسمالي إلى السوق ومعه هذا المال (طبعا، إنه لا يذهب بنفسه إلى السوق لأنه يملك بتصرفه الهاتف والبرق ومئات الخدم). ويشتري في السوق وسائل الإنتاج وقوة العمل. ثم يعود الرأسمالي إلى المصنع وقد استبدل المال بالعمال والآلات والمواد الأولية والمحروقات. هذه الحاجيات لم تعد سلعا، لأنها لم تعد برسم البيع. فالمال قد تحول إلى وسائل إنتاج وإلى قوة عمل. وها أن رأس المال قد تخلى عن مظهره الحالي، واكتسى شكل رأس المال الصناعي.
ثم يبدأ العمل. الآلات تتحرك. الدواليب تدور. الرافعات تطلع وتنزل. العمال يرشحون عرقا. الآلات تهتلك. المواد الأولية تنضب. قوة العمل تتعب.
كل المواد الأولية بالإضافة إلى ما اهتلك من الآلات وإلى قوة العمل المبذولة تتحول تدريجيا إلى كمية من السلع.
وبذلك يكتسي رأس المال شكلا جديدا. فينزع عن جسده قشرته المعملية ليرتدي شكله السلعي. وها نحن أمام رأس المال في شكله السلعي. ولكن مع اكتمال دورة الإنتاج، نجد أن رأس المال لم يغير قشرته وحسب: فقد ارتفعت قيمته أيضا. لأن عملية الإنتاج أضافت إليه فضل القيمة.
الرأسمالي ينتج السلع ليس لاستهلاكه الخاص، وإنما السوق، للبيع. السلع التي تتكدس في مستودعاته يجب أن تباع. في البدء، ذهب الرأسمالي إلى السوق ليشتري. وها هو الآن يذهب إلى السوق ليبيع. في البدء، كان يحمل مالا وكان يريد شراء السلع (وسائل الإنتاج). وها هو الآن يملك سلعا ويريد تحويلها إلى مال. عندما تباع السلع، يتحول رأس المال مرة ثانية من شكله السلعي إلى شكله المالي. لكن كمية المال التي حصل عليها الرأسمالي تختلف عن كمية المال التي دفعها أصلا.
الزيادة على المبلغ الأصلي تساوي مقدار فضل القيمة الذي تحتوي عليه السلع.

إلا أن هذا لا ينهي دورة رأس المال. فرأس المال المتضخم هذا يبدأ دورة جديدة ويستحصل على كمية متزايدة من فضل القيمة. ثم يضاف قسم من فضل القيمة هذه إلى رأس المال ليبدأ دورة جديدة أخرى. إن رأس المال يتدحرج ككرة الثلج. ومع كل انقلاب، تضاف إليه كمية أكبر من فضل القيمة. ونتيجة ذلك فإن الإنتاج الرأسمالي يتسع باستمرار.
وهكذا فإن رأس المال يمتص فضل القيمة من الطبقة العاملة ويبسط سيطرته أينما كان. وهذا النمو المتسارع يجد تفسيره في خصوصيات رأس المال. إن استغلال طبقة لأخرى أمر يحصل منذ أقدم العصور. لنأخذ على سبيل المثال الإقطاعي في ظل علاقات القنانة أو مالك العبيد في العصور الغابرة. كان الإقطاعيون والأسياد يعيشون على ظهر العبيد والأقنان. ولكن كل ما كان ينتجه العاملون كان يستهلكه الإقطاعيون والأسياد أنفسهم على شكل مأكول ومشروب ولباس أو يستهلكه خدمهم وحاشيتهم الكبيرة. في ذلك الحين، لم يكن يوجد إنتاج سلعي واسع. لم يكن يوجد سوق. ولو أن مالك الأرض أو مالك العبيد أجبر أقنانه وعبيده على إنتاج كميات واسعة من الخبز واللحم والسمك وما شابه، لكانت هذه فسدت وتعفنت. لذا كان الإنتاج يقتصر في ذلك الزمن على سد الحاجات الحيوانية لمالك الأرض وأفراد أسرته.
الأمر مختلف كليا في ظل الرأسمالية. هنا الإنتاج لا يهدف إلى سد الحاجات المباشرة، وإنما يهدف إلى تحقيق الأرباح. تنتج السلعة، في ظل الرأسمالية، لبيعها، للكسب، لمراكمة الأرباح. وكلما ازدادت الأرباح، كلما كان ذلك أفضل. من هنا تجري الطبقة الرأسمالية كالمجنون وراء الربح. وجشعها لا حد له. الربح هو محور الإنتاج الرأسمالي. والربح هو الحافز الأول للإنتاج الرأسمالي.
الدولة الرأسمالية

المجتمع الرأسمالي مبني على استغلال العمل. الأقلية تملك كل شيء والجماهير الكادحة لا تملك شيئا. الرأسماليون يأمرون والعمال يطيعون. الرأسماليون يمارسون الاستغلال. العمال هم ضحية الاستغلال. وجوهر المجتمع الرأسمالي هو الاستغلال المتفاقم الذي لا يرحم.
الإنتاج الرأسمالي أداة عملية لابتزاز فضل القيمة.
لماذا استطاعت هذه الأداة أن تستمر في العمل طوال هذه المدة؟ لماذا يطيق العمال هذه الحالة؟
يبدو الجواب صعبا للوهلة الأولى. ولكن يوجد سببان لذلك بشكل عام. الأول لأن الطبقة الرأسمالية قوية ومتينة التنظيم. والثاني، لأن البرجوازية تسيطر عادة على عقول الطبقة العاملة.
لتحقيق هذا الغرض فإن أفضل وسيلة تملكها البرجوازية هو كونها منظمة في الدولة. الدولة هي اتحاد الطبقة المسيطرة في كافة الأقطار الرأسمالية. خذوا أي بلد: بريطانيا، الولايات المتحدة، فرنسا، اليابان... تجدون أن الوزراء والموظفين الكبار وأعضاء المجالس النيابية هم رأسماليون وملاك أراضي وأصحاب مصانع، ومتمولون كبار أو أنهم الخدم الأوفياء لهؤلاء يتقاضون الأجور العالية على خدماتهم. وهؤلاء هم المحامون ومدراء المصارف والأساتذة وضباط الجيش والبطاركة والمطارنة ممن يخدم الرأسمالية ليس عن خوف وإنما عن اقتناع.
الدولة هي اتحاد جميع هؤلاء الأفراد البرجوازيين الشامل للبلد ككل والمسيطر على كافة مرافقه. ولهذه المؤسسة البرجوازية هدفان رئيسيان. الهدف الأول والأهم هو قمع الاضطرابات والانتفاضات التي يقوم بها العمال. وذلك لتأمين نهب فضل القيمة من الطبقة العاملة وتعزيز قوة وسائل الإنتاج الرأسمالية دونما إزعاج. والهدف الثاني هو المنافسة مع اتحادات أخرى من نفس النوع، أي مع الدول البرجوازية الأخرى، من أجل السيطرة على حصة أكبر من فضل القيمة. الدولة الرأسمالية، إذن، هي اتحاد الطبقة المسيطرة الذي جرى تأسيسه لحماية الاستغلال. «مصالح رأس المال ولا شيء غير مصالح رأس المال» -ذلك هو الهدف الذي تسعى إليه كل نشاطات هذه الزمرة من اللصوص.
الدولة الرأسمالية هي أكبر وأقوى المؤسسات البرجوازية. ولكنها في الوقت ذاته أكثر المؤسسات تعقيدا. إنها تضم عددا كبيرا من الفروع، ولهذه الفروع أذرع تتحرك في جميع الاتجاهات. وأول هدف لهذه المؤسسة هو حماية وتعزيز وتوسيع استغلال الطبقة العاملة. والدولة تستخدم ضد الطبقة العاملة نوعين من الإجراءات: العنف الخالص والقمع الفكري. وهذان هما أهم الوسائل بيد الطبقة الرأسمالية.
أجهزة العنف الخالص: الجيش والشرطة والسجون والمحاكم، بالإضافة إلى الأجهزة الملحقة كالجواسيس والمخربين ومنظمي كسر الاضرابات العمالية والمجرمين المأجورين وما شابه.
الجيش في الدولة الرأسمالية منظم بطريقة خاصة. يقبع على رأسها الضباط. وهم في الغالب من صفوف أرستقراطية الأرض أو البرجوازية الكبرى وبعضهم من المثقفين (الطبقات المهيمنة). هؤلاء الضباط هم ألد أعداء البروليتاريا. إنهم يدخلون منذ نعومة أظافرهم إلى مدارس خاصة حيث يتعلمون احتقار البشر و«الحفاظ على شرف بزاتهم»، وهذا يعني إخضاع المجندين إخضاعا كاملا لسلطتهم وتحويلهم إلى مجرد أدوات. وأبرز الأرستقراطيين والبرجوازيين هم الذين تجري ترقيتهم إلى الرتب العالية كالعقداء والأميرالات ويرتدون النياشين والأشرطة.
الضباط ليسوا من أبناء الفقراء. وهو يسيطرون على الجنود العاديين سيطرة كاملة. والجنود العاديون غارقون في بيئتهم إلى درجة أنهم لا يتساءلون أبدا عن السبب الذي من أجله يقاتلون. وإنما ينتظرون الأوامر، لا أكثر ولا أقل. والجيش الذي يؤلفه هؤلاء معدّ بالدرجة الأولى لقمع العمال.
الشرطة والدرك. بالإضافة إلى الجيش النظامي، تملك الدولة الرأسمالية جيشا من الرعاع ومن الوحدات المتخصصة بقمع العمال. طبعا، تعمل هذه المؤسسات على مكافحة السرقة و«حماية أشخاص وأملاك المواطنين». لكن الشرطة تعمل أيضا على اعتقال وتعذيب العمال المتذمرين ومعاقبتهم.. وأشرس فئة على الإطلاق، في كل البلدان الرأسمالية، هم أفراد الشرطة السرية والدرك. وبتعاون مع أجهزة الشرطة الرسمية أعداد كبيرة من أفراد التحري والمحرضين والجواسيس وكاسري الاضرابات، الخ.
القضاء في الدولة الرأسمالية أداة تدافع البرجوازية بها من نفسها. وهي تستخدم بالدرجة الأولى لمعاقبة الذين يعتدون على حقوق الملكية الرأسمالية أو يتدخلون في شؤون النظام الرأسمالي. إن جهز السجون يصفي الحسابات بفاعلية لا تقل عن فاعلية الجلاد في الدولة الرأسمالية. وأبوابه مشرعة أمام الفقراء لا أمام الأغنياء.
تلك هي مؤسسات الدولة الرأسمالية. وهي مؤسسات تمارس القمع الوحشي المباشر على الطبقة العاملة.
ومن بين وسائل القمع الفكري التي تملكها الدولة الرأسمالية، ثلاث تستحق الذكر: المدارس الرسمية والكنيسة الرسمية والصحافة الرسمية أو شبه الرسمية.
البرجوازية تدرك تماما أنها لا تستطيع السيطرة على الجماهير الكادحة بواسطة العنف الخالص. يجب السيطرة على عقل العمال، حتى كأنه في شباك العنكبوت. الدولة البرجوازية تنظر إلى العمال وكأنهم دواب تكدح. ويجب على هذه البهائم أن تعمل ولكن بشرط أن لا تعض. لهذا السبب، لا يمكن الاكتفاء بضرب هذه البهائم أو قتلها إذا حاولت أن تعض، وإنما تدريبها وترويضها أيضا، تماما كما تروّض الحيوانات المفترسة على يد المدربين. بنفس الطريقة، تملك الدولة الرأسمالية مدربين وظيفتهم أن يخدروا ويدجنوا البروليتاريا. وهؤلاء هم الأساتذة والمعلمون والاكليروس والكتاب والصحفيون البرجوازيون. في مدارس الدولة، يتولى هؤلاء الاختصاصيون تعليم الأطفال منذ الصغر إطاعة رأس المال والنفور من «المتمردين». وهكذا تحشى أدمغة الأطفال بالخرافات عن الثورة والحركة الثورية. ويمجدون الأباطرة والملوك وكبار الصناعيين. وفي الكنائس، يبشر القساوسة الذين يتلقون مرتباتهم من الدولة بأن الله هو مصدر كل السلطات. ويوما بعد يوم، تردد الصحف البرجوازية هذه الأكاذيب بينما تعمد الدولة الرأسمالية إلى منع الصحافة العمالية في معظم الحالات... الدولة البرجوازية، باختصار، ترمي إلى تثقيف العمال بحيث يشبهون الحيوانات الداجنة التي تعمل كالأحصنة وترتضي بأقل قدر ممكن من الغذاء.
بهذه الطريقة يضمن النظام الرأسمالي استمراره. وهكذا تعمل آلة الاستغلال الضخمة. ويجري ابتزاز فضل القيمة باستمرار من العمال، بينما تقف الدولة الرأسمالية متأهبة لصد أية انتفاضة يقوم بها عبيد الأجور.
التناقضات الأساسية في النظام الرأسمالي

لننظر الآن إلى المجتمع الرأسمالي أو البرجوازي من منظار تماسك أو تفكك بنيانه. أي شيء يكون صلبا وجيدا إذا كانت أجزاؤه متلائمة فيما بينها. خذوا ساعة الحائط مثلا. إنها تعمل بدقة وانتظام وسهولة إذا كانت دواليبها المسننة متراكبة فيما بينها.
لننظر إلى المجتمع الرأسمالي الآن. نرى بدون صعوبة أن المجتمع الرأسمالي أقل تماسكا مما يبدو للوهلة الأولى. بل بالعكس، إنه منخور بالتناقضات الخطيرة والثغرات الضخمة. في ظل الرأسمالية، يفتقد إنتاج السلع وتوزيعها إلى الحد الأدنى من التنظيم. «فوضى الإنتاج» تسود. ما معنى ذلك؟ معناه أن جميع أرباب العمل الرأسماليين (أو الشركات الرأسمالية) ينتجون السلع باستقلال كامل واحدهم عن الآخر. وبدل أن ينتج المجتمع ما يحتاجه من سلع، ينتج أصحاب المصانع بناء على حساب السلعة التي تستجلب أكبر مقدار من الربح وتسمح لهم بالانتصار على منافسيهم في السوق. وغالبا ما ينتج عن ذلك تدفق كميات فائضة من السلع إلى السوق لا تجد مجالا لتصريفها. العمال لا يستطيعون شراءها، لأنهم لا يملكون المال الكافي لذلك. فتظهر الأزمات. تُغلق المصانع ويسرح العمال. وبالإضافة لذلك، فإن فوضى الإنتاج تؤدي إلى النزاع على الأسواق. كل منتج يريد استمالة زبائن المنتج الآخر، يريد السيطرة على السوق. ويتخذ هذا النزاع عدة أشكال. فيبدأ بالمنافسة بين صناعيين اثنين وينتهي باندلاع حرب عالمية حيث تتعارك الدولة الرأسمالية فيما بينها للسيطرة على السوق العالمية. هذا يعني ليس فقط أن الأجزاء التي تتكون منها آلة المجتمع الرأسمالي تعرقل عمل بعضها البعض وإنما يعني أيضا انه يوجد تضارب مباشر بين العناصر التي يتكون منها المجتمع الرأسمالي.
إن أول سبب للخلخلة في المجتمع الرأسمالي هو فوضى الإنتاج التي تؤدي إلى الأزمات والمنافسة الشرسة والحروب.

أما السبب الثاني للخلخلة فهو يكمن في التركيب الطبقي لهذا المجتمع. فالواقع أن المجتمع الرأسمالي، في جوهره، ليس مجتمعا واحدا بل مجتمعين: الرأسماليون من جهة والعمال والفلاحون من جهة ثانية. وتوجد حالة من العداء الدائم الذي لا هوادة فيه بين هاتين الطبقتين، وهذا ما نسميه الصراع الطبقي. وهنا أيضا نرى أن الأجزاء التي تتكون منها آلة المجتمع الرأسمالي ليست متنافرة مع بعضها البعض وحسب، بل هي في حالة نزاع دائم فيما بينها أيضا.
هل أن الرأسمالية مرشحة للانهيار أم البقاء؟ الجواب على السؤال يتوقف على الاعتبارات التالية. إذا درسنا تطور الرأسمالية وتفحصنا التحولات التي عرفتها على مر الزمن، وتبين لنا أن عوامل التنافر فيها آخذة بالاضمحلال، نستطيع أن تمنى لنا حياة طويلة. وعلى العكس من ذلك، فإذا لاحظنا، على مر الزمن، أن أجزاء الآلة الرأسمالية آخذة بالتنافر والتنازع أكثر فأكثر فيما بينها، وإذا تبين لنا أن الثغرات في تركيبها آخذة بالاتساع – فهذا يعني أن الوقت قد حان لنقول لها: «ارقدي في سلام!».
لذا يجب علينا الآن أن ندرس الرأسمالية في نشأتها وتطورها.

===========
هوامش
[1] الأحصنة في روسيا كانت تستخدم للحراثة و«الذي لا حصان له» تعبير يطلق على الفلاح الفقير. –المترجم-
[2] «بوتيلوف» احتكار للسلاح في روسيا، و«كروب» في ألمانيا، و«أرمسترونغ» و«فايكرز» في إنكلترا...
[3] أي الذين يتمتعون ب«حرية» بيع قوة عملهم لرب العمل الذي يختارونه. –المترجم-
[4] الشرح هنا يتناول الوقف من الدفاع عن الوطن في ظل الرأسمالية الاحتكارية التي تحولت إلى قوة استعمارية. ولا يتناول بالطبع مهام الطبقة العاملة في حروب الدفاع عن الوطن، أو في الحروب الوطنية التحررية، ضد الغزو الاستعماري. -المترجم-


نسخ إلكتروني: جريدة المناضل-ة
ملاحظة:
بقية الفصول تجدونها على موقع جريدة المناضل-ة تبعا للرابط التالي
www.al-mounadhil-a.info/article.php3?id_article=566&artsuite=1#sommaire_1



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن