أهمية مزج السياسات الماكرو-اقتصادية لتحقيق الاستقرار الماكرو اقتصادي وخدمة الأهداف الاجتماعية (2)

ابراهيم منصوري
brmansouri@yahoo.fr

2019 / 3 / 21

• ملاحظات تمهيدية:

في الحلقة الأولى لهذه الورقة البحثية بمباحثها الخمسة، وضعنا رؤوس أقلام موجزة حول إشكالية مزج السياسات الماكرو-اقتصادية والاجتماعية في سبيل تخفيف أثار الهشاشة والفقر والإقصاء الاجتماعي. أما الحلقة الثانية من الورقة فإنها تحاول في الفصل السادس الإسهاب في تحليل أهمية ألمقاربات العلمية الموسوعية في فهم العلاقات بين معايرة السياسات الماكرو-اقتصادية من جهة والأهداف الاجتماعية من جهة أخرى، قبل أن يستعرض المبحث السابع إطارا مفاهيميا موسعا لإدماج السياسات الماكرو-اقتصادية والأهداف الاجتماعية؛ في انتظار التطرق إلى الأسس المنهجية لهذا الموضوع في الحلقة القادمة (أنظر في هذا الشأن،Mansouri et al., 2006 Mansouri et al., 2012 Mansouri).

كما أن المبحث الثامن الذي سيندرج أيضاً في إطار الحلقة القادمة فسيناقش بعض الخيارات والتنازلات الممكنة التي تواجه صانعي السياسات الماكرو-اقتصادية وهوامش الحرية التي يمكن أن يتحركوا فيها من أجل التأثير الإيجابي على النتائج الاجتماعية لهذه السياسات، حتى ولو اتخذت التدابير اللازمة في بيئة تتسم بإكراهات متعددة (Multiples contraintes : Multiple Constraints).

6. أهمية المقاربات الموسوعية في فهم أحسن لتجسير السياسات الماكرو-اقتصادية:

في هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أن المقاربات الموسوعية تعني بذل الجهود الممكنة من أجل استغلال أمثل للعلاقات البينية التي تربط علوما شتى، أي ما يمكن الاصطلاح عليه بارتباط التخصصات العلمية (Interdisciplinarité). وبعبارة أوضح، فإن المقاربات الموسوعية تتوخى استشرافا عقلانيا لنقط التلاقي بين مجموعة من التخصصات العلمية (Frontières entre les disciplines) (أنظر Mansouri, 2009).

كما قلنا في الحلقة الأولى لهذه الورقة البحثية، ليس من المعقول بتاتاً أن نعتبر الأهداف الاجتماعية كعناصر يتم حشوها بطريقة عمياء ضمن المرامي والغايات الماكرو-اقتصادية العامة. إن صياغة وتنفيذ سياسات ماكرو-اقتصادية مستدامة (Politiques macroéconomiques soutenables) تستدعيان قبل كل شيء اطلاعا واسعا على السياق الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للبلد المراد دراسته، بالإضافة إلى بذل مزيد من الجهود من أجل تحليل مستفيض للعلاقات بين الفقر وأسباب العيش والسياسات الماكرو-اقتصادية.

إن السياسات الماكرو-اقتصادية، خاصة السياستين المالية والنقدية، تؤثر على جيوب واسعة من مختلف الفئات السوسيو-اجتماعية، وبطرق مختلفة على مدى الأزمنة وحسب الطبائع المتعددة للأمم. وبطبيعة الحال، فإن تقييم المفعول المتعدد الأبعاد للسياسات الماكرو-اقتصادية، خاصة على نسب فقر الساكنة، يحتم على الباحث الإلمام بآليات انتقالها (Mécanismes de transmission ) على مر الزمن، والتي تتأثر بدورها بالبنيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والمؤسساتية (Structures sociales, économiques, politiques et institutionnelles)، مع العلم أن مفهوم البنية يجب فهمه من منظور خلدوني، أي أن البنية في الحقيقة ما هي إلا مجموعة عناصر مترابطة في ما بينها، بحيث أن إزاحة عنصر واحد ووحيد من هذه المجموعة لا بد وأن يغير النظمة كلها.

يتضح مما سبق أن إدماج الأهداف الاجتماعية ضمن بوتقة شاملة للسياسات الماكرو-اقتصادية يستوجب صياغة مقاربات موسوعية تشتغل على تحليل متعدد الأبعاد يجمع بين ما هو اجتماعي واقتصادي وبيئي وسياسي ومؤسساتي. إن أية مقاربة موسوعية مندمجة ستساهم حتماً في إذكاء الحوار البناء حول الإصلاحات الماكرو-اقتصادية في علاقتها بالأهداف الاجتماعية، ومن ثمة المساعدة على تعيين أنجع للبرامج الماكرو-اقتصادية والاجتماعية اللازمة لاستهداف نمو اقتصادي أسرع وتخفيف أنسب لمعدلات الفقر؛ بحيث أن تلك المقاربات الموسوعية من شأنها أن تساعد على وضع خيارات سياسات عامة مبنية على أدلة علمي وميدانية (Evidence-based policies) ومرتبطة ارتباطا وثيقا بالوضعية الاقتصادية والاجتماعية الراهنة كما بأحوال الفقراء والسبل المناسبة لصياغة برامج صديقة للفئات المحرومة من الساكنة.

كما أن المقاربات الموسوعية من شأنها أن تحسن الشفافية العامة ومن ثمة زيادة احتمال تنفيذ السياسات واستدامة الإصلاحات. إلا أن الجدير بالذكر أن يفقه كل باحث جدي ومسؤول أن مساحة الخيارات الماكرو-اقتصادية المتاحة لصانعي القرار ترتبط أساساً بالوضعية الماكرو-اقتصادية للبلد وبالإكراهات التي تفرضها عليهم، مع العلم أن المسؤولين يتميزون عموما بما أسماه الاقتصادي وعالم الاجتماع الأمريكيSimon Herbert “الرشادة المحدودة” (Bounded Rationality)، بمعنى أن صانعي القرار مهما حاولواْ أن يكونواْ عقلانيين فإن قدراتهم المعرفية والبيانات المتوفرة لديهم تتسم بمحدودية واضحة، مما يؤثر سلباً على نجاعة برامجهم الإصلاحية على مستويي الصياغة والتنفيذ (On the design and implementation fronts).

وبالرغم من هذه العراقيل، فيبقى من الممكن أن يتخطى صانعو القرار محدودية رشادتهم، خاصة عن طريق التكوين المستمر وتبادل التجارب مع نظرائهم في البلدان الراقية، وذلك من أجل مزيد من الانحياز للفقراء (Biais pro-pauvres)، كلما تعلق الأمر بوضع الخيارات الاقتصادية والاجتماعية اللازمة، دون إغفال هدف الاستقرار الماكرو-اقتصادي الذي بدونه لن تستقيم أية سياسة تتوخى نموا اقتصاديا مضطردا على المدى الطويل، وبالتالي إعادة توزيع أعدل للكعكة القومية (Mansouri and El Baz, 2018). وحري بصانعي القرار في هذا المضمار أن تتمحور سياساتهم وإصلاحاتهم على الأفقين المتوسط والطويل إذا أرادواْ فعلا الحصول على نتائج اقتصادية واجتماعية أفضل. ويتضح من هذه الاعتبارات أن صانعي القرار يجب أن يتعدى أفق سياساتهم بكثير ما هو قاب قوسين أو أدنى من أرجلهم، أي أن يفكروا مَلِيا على آمادٍ أبْعد، سواء تعلق الأمر باستغلال المساعدات الخارجية أو بنية الجبايات أو هيكل الإنفاق العام أو المديونية الداخلية والخارجية.

7. الإطار المفاهيمي العام لمزج السياسات الماكرو-اقتصادية مع الأهداف الاجتماعية:

إن أهم إشارة يمكن أن نستقيها من هذه الورقة البحثية تتمثل أساساً في وجوب إدماج السياسات الماكرو-اقتصادية والاجتماعية في بوتقة متكاملة ومبنية على أسس علمية. إلا أن بلوغ هذا الهدف لن يتم إلا بصياغة إطار مفاهيمي قوي يتحتم بناؤه على أسس معرفية متشعبة تهدف إلى تقييم أفضل لخيارات السياسات الماكرو-اقتصادية والاجتماعية. إن هذا التحليل المفاهيمي الذي تتناغم فيه علوم شتى من المنتظر أن ينتج معارف ثمينة عن الآثار الناجمة عن الإصلاحات على مختلف الفئات السوسيو-اقتصادية؛ ومن ثمة فإن هذا التحليل المفاهيمي الموسوعي سيفضي إلى صياغة مسلسل سياسات عامة يتميز بانفتاحه واستناده إلى براهين علمية وميدانية حول العلاقات بين ما هو اقتصادي وما هو اجتماعي، ويمكن من مناقشة التنازلات المكنة بين الأهداف الاقتصادية والاجتماعية، علما ان صانعي القرار يتوقون إلى مزج أمثل للسياسات الماكرو-اقتصادية والاجتماعية من أجل نمو اقتصادي أكثر عدالة في أفق التخفيف من آثار الهشاشة والفقر والإقصاء الاجتماعي.

يشير إطارنا المفاهيمي في إطار الحلقة الثانية من هذه الورقة البحثية إلى أن السياسات الماكرو-اقتصادية والإصلاحات الهيكلية (Politiques macroéconomiques et réformes structurelles) من شأنها أن تمس العلاقات التوزيعية والبنيات المؤسساتية، ومن ثمة فهي قادرة على توليد نتائج اجتماعية يمكن أن تعمق الفقر أو تخففه حسب طبيعتها وطبقا للترسانة المعرفية المستخدمة لصياغتها وتنفيذها (أنظر Mansouri, 2004a, 2004b Mansouri et al., 2006 Mansouri, 2007 Mansouri et al., 2012 Mansouri and El baz, 2018).
في حين يمكن لعلماء الاقتصاد أن يتبينواْ الآثار المباشرة وغير المباشرة للسياسات الماكرو-اقتصاية على بعض المتغيرات الأساسية كنسبة التضخم ومعدل الصرف والرصيد الجاري لميزان الأداءات وعجز موازنة الدولة، وذلك من خلال دراسات تحليلية وتجريبية، فإن تحديد آثار هذه السياسات في المضمار الاجتماعي ليس بالأمر الهين، خاصة أن صانعي القرار لا يتوفرون على القدر الكافي من المعارف والبيانات حول الوضعية الاجتماعية السائدة والفئات السوسيو-اقتصادية الهشة وأليات انتقال التدابير الماكرو-اقتصادية إلى المعترك الاجتماعي.

إن السياسات الاجتماعية يجب أن تصاغ مع تمحيص أعمق للفرص والإكراهات الماكرو-اقتصادية التي تؤثر في استدامة البرامج الاجتماعية؛ ومن هنا يتضح أنه لا مناصّ من مقاربات موسوعية لفهم أوسع للعلاقات بين الأهداف الاقتصادية البحتة والغايات الاجتماعية، علما بأن الباحثين في هذا الحقل المعرفي يجب أن يتناولواْ هذه العلاقات في الاتجاهين معاً، أي مع الإقرار بأن الاقتصادي يؤثر في الاجتماعي، والعكس صحيح، بمعنى أن المؤشرات الاجتماعية لها أيضا ثقلها على الاقتصاد؛ كما تبينه تجارب البلدان المتقدمة التي لم تستطع قطع أشواط ابعد على درب الرقي إلا بعد تحسن ظروف العيش لدى الفئات الأكثر هشاشة، خاصة العمال والفلاحين.

يبدو من الصعب، بل ربما من المستحيل، تحليل آثار السياسات الماكرو-اقتصادية على الفقر والوضعية الاجتماعية العامة في بلد معين باتباع مقاربات تنضح بالعموميات. ويعني هذا أن كل باحث في هذا المضمار المعرفي يستحسن أن يخوض في مفعول سياسات اقتصادية معزولة على الأوضاع الاجتماعية، مع الرجوع مرات عديدة إلى الإطار الماكرو-اقتصادي العام كلما كان ذلك ضرورياً.

وعلى سبيل المثال لا الحصر،غالباً ما يتعذر على الباحثين، وحتى الصناديد منهم، أن يبينواْ آثار بنية جبائية معينة على نسب الفقر أو على درجة رفاه فئة سوسيو-اقتصادية بعينها. إلا أنه من المعقول والممكن أن يقيم الباحث تلك الآثار انطلاقاً من تمحيص وتحري تغيرات معينة في بنية الجبايات، كما هو الحال مثلا بالنسبة لارتفاع في معدل ضريبة ما أو بالنسبة إلى تحول صانعي القرار إلى الاعتماد على الضرائب غير المباشرة. وتبقى الإشارة هنا إلى أن آليات انتقال مفعول أية سياسة إلى المعترك الاجتماعي قد تختلف من بلد إلى بلد ومن سياق اقتصادي واجتماعي معين إلى آخر، بل ومن زمن إلى زمن.

• خاتمة وجسر نحو الحلقة الثالثة من ورقتنا البحثية:

حامن خلال الحلقة الثانية لهذه الورقة البحثية الخوض في محورين أساسيين يتعلق الأول منهما بأهمية المقاربات الموسوعية في فهم الجسور بين السياسات الماكرو-اقتصادية والاجتماعية بينما يرتبط المحور الثاني بالإطار المفاهيمي العام الذي يمكن تبنيه لفقه أحسن لمزج السياسات الماكرو-اقتصادية والاجتماعية.

في الحلقة الثالثة من هذه الورقة، سنواصل سبر أغوار الموضوع مع تناول الإطار المنهجي المكمل للإطار المفاهيمي المبين أعلاه وتحليل الخيارات الماكرو-اقتصادية الممكنة والتنازلات التي يتحتم على صانعي القرار القيام بها من أجل تخفيف آثار الهشاشة والفقر والإقصاء الاجتماعي دون إهمال جانب الاستقرار الماكرو-اقتصادي الضروري لنمو الاقتصادي المستدام وعدالة توزيعية أنجع.

المراجع:

المرجع 1: Mansouri, Brahim. (2004a). “Politique Budgétaire, Gouvernance et Groupes d’intérêt au Maroc”, in El Cohen, Abdelmajid (-dir-.), Du Gouvernement à la Gouvernance: L’Expérience Marocaine, La REMALD, Rab Rabat, Morocco.

المرجع 2: Mansouri, Brahim. (2004b). “Research and Policy for policy Reforms in the Arab World”, The ERF Newsletter, Vol. 11, N°2, summer, Economic Research Forum (ERF), Cairo, Egypt.

المرجع 3: Mansouri, Brahim, Brahim Elmorchid, Mustapha Ziky and Sidi Mohamed Rigar. (2006). “Understanding Reforms: A Country Case Study of Morocco”, in Joseph Menash (eds.), Understanding Economic Reforms in Africa: A Tale of Seven Nations, Palgrave McMillan, New York (USA), and Houndmills, Basingstoke, Hampshire (England).

المرجع 4: Mansouri, Brahim. (2007). “Speed of Adjustment, Sequencing and Outcomes of Macroeconomic Stabilization and Structural Reforms in Morocco: A Political Economy Analysis”, Journal of Development and Economic Policies, Vol.9, N°1, January.

المرجع 5: Mansouri, Brahim, Mohsine EL Ahmadi, Fatima Arib and Abdelmalek El Ouazzani. (2012). Les incidences des réformes sur la compétitivité globale du Maroc (Implications of Reforms for the Overall Competitiveness of Morocco), Publications of the Royal Institute for Strategic Studies, Rabat, Morocco: https://www.ires.ma/wp-content/uploads/2012/12/RAPPORT-REFORMES.pdf

المرجع 6: Mansouri, Brahim and Ayad El Baz (2018), “Fiscal Deficits and External Sector Variables: A Structural Multivariate Modeling for Morocco”, Asian Academic Research Journal of Social Science and Humanities, Vol. 5, N° 1.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن