خطيئتي*!

محمد علي الشبيبي
alshibiby45@hotmail.com

2019 / 3 / 18

ملاحظة: من تراث المربي الراحل علي محمد الشبيبي

المعروف أن من الصعب أن يعترف المرء بخطيئته، وهذا حق! وأريد أن أعترف بخطيئتي، أمام ضميري، وها أنا أعلن ذلك.
لازمتني الكآبة زمناً كنت لا أدرك فيه سبب كآبتي، وكثيراً ما كنت أغرق بالفكر، باحثاً عن سر هذه الكآبة العميقة. ويرتد الفكر القهقرى إلى أيامي الغابرة. لعلني أجد في صفحات ما فات من عمري، الأسباب التي تثير عليّ زوابع هذه الكآبة، وعواصف التعاسة، التي تتملكني فتقصيني عن السرور، وتحجب عن نفسي لذائذ الانشراح، حتى لو كنت بين مروج الطبيعة الخضراء، ومحفل الأنس والسرور، فلم أفلح ولم أنجح.
والآن، وأنا الى جانب كوخ منفرد، تحوطه النخيل وتكتنفه المستنقعات، وقد جلست كالراكع على ركبتي، أمام فرعين من زهر النيلوفر[1]! متأملاً هذين الفرعين. كيف التقيا على ذلك الخيط الدقيق، كما التف حبيبان عند لقاء بعد فراق، على أن كل منهما شد بخيط مستقل من أسفل الساق.
وأخذت بي الفِكَر إلى وساوس شتى. ومثلت لي عوالم شتى، ثم عادت بي إلى هذه الكآبة، وخيمت على قلبي. وكأن باعثاً تعمد أن يغمرني بها، وكأنه ينتظر أن أعترف بها. ومذ ملّ بعد انتظار، ذكرني فيها هذه الساعة على حين غفلة، حين تعقدت أمام نفسي الأفكار المتشعبة، والأفكار المبعثرة.
أجل على حين غفلة ذكرني بالخطيئة، ودون أن تتأملها نفسي طأطأت بذلة وانكسار أمام محكمة الضمير! ولكن كيف تكفر نفسي عن خطيئتها وهي قديمة مرت عليها سنوات توارت كما وارت الازمان أجيالاً من البشر؟
صديقي –سعيد[2]- الشاب الظريف، وقد نشأ بين أب رؤوف وأم حنون. كان والده يًسرفُ عليه. وأسلس له حبل الحرية، فلم يلتفت إليه إن اغترّ. ولم يعاقبه إن أجرم. وهكذا شب ناعم البال تحت ظلال السعادة، ورفاه العيش!
كنت أنا صديقه الوحيد، في المدرسة نجلس على مقعدين متجاورين، ونقرأ بكتاب واحد. وحين ينتهي الدوام نعود يداً بيد إلى بيت احدنا، وقد نبيت سوية. لا نفرق بين الأهلين، وهكذا أيضاً تركنا المدرسة، وبقينا بلا عمل، نقضي الأيام بالبطالة واللهو واللعب.
كان أواسط أخوته، لكنه التزم رعاية أهله –حين توفى أبوه- بعد فترة وجيزة من تركه المدرسة، فإذا به كمن أستيقظ بعد نوم، يشمر عن ساعده لرعاية أهله وإعالتهم. فلم يترك أبوه مالاً ولا ملكاً غير البيت الذي يسكنونه وارض زراعية ليست كبيرة! لم يدخر أبوه شيئاً، كان ينفق على العائلة كل ما يكسب ويبذر دون حساب.
عاد سعيد يحمل هم العائلة، بينما لم يكترث أخوه الأكبر بكل شيء، لكنه أستقر بتدبير شأنه. اشتغل سعيد عند قماش، وكاتباً في متجر، ويعاود ارضهم الزراعية الصغيرة وما يعوز فلاحها. كل جهوده لم تُعِدْ إلى عائلته تلك السعادة التي افتقدوها بعد وفاة والده، فأنهكه الهم وثقل العبء، وسلب راحته وكساه مسحة حزن قاتمة. تغيرت ملامحه، انهارت قواه، فأصيب بالاستسقاء المعوي، فما أجدى الأطباء نفعاً في دواء. فذهب ضحية ذاك الداء الوبيل. وتوارى شبابه النضر تحت التراب.
كان يرجو لو أسرع الموت إليه، مادام أمل الشفاء مستحيلاً.
وأنا؟ أنا الصديق الودود، ماذا فعلت خلال الأشهر الأربع التي قضاها في صراع مع المرض؟ ان ذنبي لعظيم، وأن جفوتي لقاسية؟ ما السبب في كل هذا؟ لا شيء. انه بسيط، فقد عُدَته مرةً، وجفوته شهراً كاملاً، فكان هذا سبباً في خجل أستولى عليّ، وانعدام عذر معقول زادني جبناً فتضاعفت جفوتي. خجلت أن أذهب بعذر مكذوب، واستمر الجفاء بدافع الخجل وعدم وجود العذر المعقول.
لم أكفر عن الخطيئة قبل أن تصبح عظيمة، وصارت ذنباً لا يغتفر!
وفي ذات ليلة وأنا أصب الماء على يد أبي بعد العشاء، جاءت الريح بصوت: يا سعيد يبني!. كان الجو ملبداً بالغيوم. حجب القمر الذي بدا لعيني يشاطرني الحزن وكأنه أيضاً ينظر إلي شزراً، لخطأ عظيم أخطأته.
سقط الإبريق من يدي! قال أبي ما بالك؟ قلت بصوت مختنق، سعيد مات! قال كيف سمعت؟ قلت نعم: صوت أمه بعينه، صك سمعي –سعد يبني- ونهضت أتعثر بخطاي، واجماً كالأخرس، سوى دمعات تلجلجت ثم جمدت لشدة البرد. وأسرعت أمشي خلف النعش. ولما تم غسله، نوديت لإلقاء النظرة الأخيرة، فطبعت بصمت على خده قبلة الوداع الأخير. وهمت من جديد أتعثر بوادي الأموات بالقبور المتزاحمة، ابحلق بعيني بالغيوم الملبدة، فأختنق بعبرتي. هذه الخطيئة تتمثل لي كل حين، فأعترف لضميري نادماً على ما بدر مني، وكثيراً ما زرت رمسه، خصوصاً أيام الشتاء حين تتراكم الغيوم، فأكتب كلمة أو قصيدة، ثم نسيت كل شيء.
لم أعد أذكر الخطيئة ولا صديقي، إلا حين يتردد أسمه فتدركني حسرة! وفي هذه الساعة وكنت أعالج فرع زهور لتنظم حسب الاتجاه الصحيح لها، لاح لي فرع من زهور –النيلوفر[3]- التقى به فرع آخرمثله فأشتبكا كحبيبين تعانقا. وبذات اللحظة خطر –سعيد- أيضاً على بالي وكأني أراه ينظر إليّ نظر عاتب. وكان صوت الضمير يصرخ بي من أعماق نفسي. فعدت إلى الكوخ، وعلى ضوء مصباح عادي كتبت اعترافي هذا، بالخطيئة التي لا تغتفر، لعلني افارق وأتخلص من غيوم كآبتي، وأستريح من عذاب الضمير!

للمربي الراحل
علي محمد الشبيبي
1913-1997

الهامش
*- نشرت في جريدة الهاتف عدد 7 صفحة 5 عام 1935.
1- زهر النيلوفر نوع من النباتات المائية تنمو في المياه الراكدة، وهو نبات معمر جذوره عميقة، يمد سيقانه الى سطح الماء حيث تورق وتزهر النبتة على سطح الماء، ازهاره بيضاء وصفراء زاهية./الناشر محمد علي الشبيبي
2- هو سعيد بن شيخ كاظم بيذره. كان أبوه طبيباً أهلياً على الطريقة اليونانية القديمة والأدوية العشبية، ونحن جاران أيضاً.
3- كنت من هواة الزهور قبل أن أكون موظفاً في التعليم. وفي بداية تعيني معلما في قرية، جئت ببذور ونسقت مربعاً أمام كوخي وبذرت فيه بعض بذور بسيطة. كما نمت في بركة ماء عذب زهرة النيلوفر.




https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن