تاجرُ موغادور: الفصل السابع 6

دلور ميقري
dilor7@hotmail.com

2019 / 3 / 11

حينَ وصل مع " رومي " إلى الدار، وجدَ أن المائدة أعدّت للوليمة وقد فرشت بغطاء أبيض ناصع، سيستقبل بعد قليل الأطباق الخزفية، المحتوية على مختلف المأكولات. ها هما يتقدمان من المنظرة، أينَ استقرت المائدة في منتصف قاعدتها الدائرية، ليجلس كل منهما على أحد الكراسي الستة، المشغولة من أعواد القصب المجدول. ضوى وجه الضيفة، متألقاً بالرقة والعاطفة، كونها تعلم أن المنظرة أشيدت على شرف صداقتها مع صاحب الدار: فيما مضى، كان " جانكو " قد لحظ إيثار السيّدة الفرنسية الجلوس على السدّة الحجرية، المقابلة لكرم الصبّار؛ هنالك، حيث كانت تستغرق بكليتها في تأمل أنواع النباتات الشوكية. وكانت المنظرة، المقامة في مكان السدة الحجرية، تُشبه نوعاً من تلك الشوكيات؛ بقبتها الصغيرة، المصنوعة من صفائح خشبية، مصقولة ومصبوغة بلون أخضر. القبة، رُفعت على اثني عشرة عموداً من ذات الخشب المصقول، وكذلك قاعدتها المرتفعة عن أرض الحديقة بنحو نصف متر. تاجرنا، القادم من دمشق، شاءَ أن يدعوَ المنظرة ب " المصطبة "، وذلك تيمناً بسميّة لها في بستانٍ كان يملكه والده بجنوب حيّ الصالحين. وإذ كانت تلك تتوسطها بركة مربعة الشكل، فإنّ هذه قد أحيطت بساقية نحيلة جرى فيها الماء من خلال فتحة في البحرة، الكائنة في القلب المرمريّ لصحن الدار.
في المقابل، كانت الوليمة على شرف نائب القنصل البريطانيّ، بمناسبة قرب انتقاله إلى مراكش. قرارُ النقل، كان ولا غرو مفاجئاً لمجتمع المدينة الراقي. ومما نمّ إلى " جانكو " مؤخراً، أنّ اختيار الإنكليز تختَ السلطنة لمقر قنصليتهم عائدٌ ربما لاضطراب الأمن في موغادور، مثلما برهن عليه اجتياحها من قبل قبائل حاحا البربرية قبل حوالي ستة أشهر. كذلك رُجّح سببٌ ضاف، يتعلق بتهديد الأسطول الفرنسيّ لميناء البلاد الأهم عقبَ كلّ توتر مع السلطان على خلفية دعمه لثوار الولاية الجزائرية المجاورة. كلا الاحتمالين، سيقدّر لهما نيل الاهتمام من لدُن المجتمعين على مائدة الغداء في منزل التاجر الدمشقيّ. المثير أيضاً في هذه المسألة، المتعلقة بالتهديد الفرنسيّ، أن من بين مَن سيناقشها ستكون " رومي "، فضلاً عن مواطنها، " مسيو باتريك ". هذا الأخير، كان الطبيب الوحيد في القصبة، وكانت صلته قد تعززت مع المضيف مذ وقت قيامه بمعالجة شقيق " ميرا " المريض بالتيفوس، وذلك باستعمال صبغة الكينا، الممزوجة مع الكحول.
أولئك الأشخاص المدعوون ( أي نائب القنصل والطبيب علاوة بالطبع على الرابي والقبطان )، تقاطروا إلى الدار واحداً بأثر الآخر وكانت سحنةُ كلٍّ منهم محتفظة بعدُ بعلاماتٍ متفرّدة، تمثّل ما أعترى صاحبها من هموم وأفكار على السواء. إلا أنهم ذهلوا عما يُشغلهم، مؤقتاً على الأقل، بالإقبال على أصناف الطعام والشراب، المحتفية بها المائدة الكريمة. كون الطقس ربيعياً معتدلاً، شجّعَ " رومي " على استهلال النقاش، بتوجهها إلى نائب القنصل، قائلة بالمحكية المحلية والتي يُجيدها: " ثمة أقاويل شتى، تتعلق بأمر انتقال قنصليتكم إلى مراكش. ولكن أكثرها مدعاة للعجب، تلك الزاعمة خشيتكم من خطر إنزال فرنسيّ على ساحل موغادور، شبيهٍ بما حصل قبل بضع سنين ". المُخاطَب، المحتفى به، ألقى نظرة ملية على السيّدة الفرنسية من مكانه المقابل لمجلسها، وكما لو أنه يتحرّى في ملامحها أيّ احتمال للسخرية. ثم مسح فمه بالفوطة، ليجيب على الأثر بنفس اللغة: " لو أن ثمة تهديداً ما، لرأيتِ مياه الساحل المغربيّ مكتسية بلون رايات أسطولنا الحربيّ "
" أوه، يا له من تشبيه شاعريّ! "، هتفت السيّدة متضاحكة مصفقة بيديها. ولكنها استعادت هيئة جدية، لما استدركت: " المعذرة، يا سيّدي، لو أنني قطعتُ كلامك ". وكانت سحنة الرجل قد كساها الحمرة، ما يفصح عن طبعٍ خجول وأقل برودة مما عُرف به مواطنوه. إلا أنّ بعض المشاركين في المأدبة، كانوا على علمٍ مسبق بمدى ما يكنه نائبُ القنصل للسيّدة من إعجابٍ يصل حدّ التولّه. كذلك الأمر بالنسبة لزوج " رومي "، وكان يُماثل تقريباً في السنّ مواطنَهُ، فإنّ ارتباك هذا الأخير استدعى اهتمامه.
وقال نائبُ القنصل، بعدما هزّ رأسه تعبيراً عن التفهّم: " لم يكن قصدي التبجّح بقدراتنا العسكرية، وهيَ على أيّ حال معترفٌ بها من العدو قبل الصديق. في واقع الحال، إننا لم نعُد نقيّم الفرنسيين كخصوم، برغم المنافسة معهم إن كانت على صعيد المستعمرات أو المصالح التجارية. لقد مضى زمن طويل، على آخر مرة اصطدم فيها أسطولنا بندّه الفرنسيّ وكان ذلك في أعقاب حملة نابليون على مصر. أما اليوم، فيمكن تبصّرُ قوة متانة علاقتنا من خلال وقوفنا معاً إلى جانب السلطان العثمانيّ في حرب القرم "
" رائع هذا العرض، وبالأخص تنويهك عن التنافس على الأسلاب! "، عقّبت السيّدة مستعيدةً نبرة التهكّم. وما عتمَ الطبيب أن تدخّل، بغية حرف النقاش عن مساره. فتساءل ساخراً، وهوَ يرمق المضيف بنظرة مواربة: " وإذاً يتم الاتفاق بين مملكتينا، البريطانية والفرنسية، كرمى لمن يضطهد النصارى في سلطنته؟ ". لقد استعمل الرجلُ المحكية الدارجة أيضاً، طالما أنّ الآخرين اعتمدوها للنقاش مراعاةً لصاحب الدار. المضيفُ، وقد بلل النقاشُ لحيته هذه المرة، فإنه آثر تجاهله متكلّفاً مواصلة الاهتمام بالمائدة. ولكنها " رومي "، من بادرت بالرد وهيَ تفتح ذراعيها في وجه الطبيب: " مرحى، مرحى! نستعبدُ الزنوجَ في مستعمراتنا، بما فيهم أولئك المتحولين لديننا، ومع ذلك نُظهر غيرتنا على نصارى السلطنة العثمانية "، قالتها بالفرنسية.
وضعَ القبطانُ يده على يد امرأته، تعبيراً عن دعمه لملاحظتها اللاذعة، ثم علق مستعملاً لغتها: " المثير للسخرية أيضاً، أنّ كلاً من المملكتين، البريطانية والفرنسية، تدعم طائفة النصارى المشرقية الخاصة بها. بينما القيصر الروسيّ، من ناحيته، يضع تحت حمايته طائفة الأرثوذكس "
" وإنها مطالبة القيصر بحق الإشراف على كنيسة القيامة في القدس، من كانت سبباً مباشراً للحرب المندلعة اليومَ "، قالها الطبيبُ محاولاً صرفَ منتقديه عما تفوّه به قبلاً. في الأثناء، كان الضيوفُ قد فرغوا من الأكل ونزع كل منهم الفوطة الخاصّة به. هنا أشارَ سيّد الدار للمدبّرة، وكانت تقف على مقربة من المنظرة، بتقديم الشاي والحلوى. بدَورها، رفعت المرأة يدها إلى ناحية الخادم المسنّ، المنتصب عند مدخل المطبخ. من تلك الناحية، مرقَ الهيكلُ الأليف لخليلة السيّد، بخطى سريعة وكما لو كانت هاربة من أحدٍ يُطاردها: وإنه الرابي، مَن انتبه للمشهد ذاك، وعليه كان أن يتذكّره مجدداً في وقتٍ لاحق. كما علمنا من قبل، فإنّ " يوسف بن عمران " هذا، كان قد استحق مذ فترةٍ ظهيراً سلطانياً يعترف به كزعيم روحيّ لطائفته في موغادور، وذلك خلفاً للحزّان المتوفي.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن