الطلقة41: الحب أم الثورة؟ قلب من لاقلب له

محمود الصباغ

2019 / 3 / 11

يقول الفرنسيون في أمثالهم, عند المشكلة لابد من وجود حل ثالث, وهذا يعني أن المرء غير مطالب للمفاضلة, بالضرورة, بين الحب و الثورة, مثلما فعلت ماريا فيلاتوفنا ذات التسعة عشرة ربيعا و المتطوعة في صفوف الجيش الأحمر أثناء الحرب الأهلية إبان الثورة البلشفية" في روسيا حيث تجري أحداث الفيلم.
عادة ما يتعامل "الثوار" مع الحب مثلما يتعاملون مع "ثورتهم" كحدث عفوي "انفجاري" وفعل لاعقلاني جنوني و متواطئ, لا خطة واضحة له و لا هدف, يهوي بالمرء من عليائه, فـ"يقع" في الحب مثلما يقع في الثورة, وهو أيضا يشبه الثورة في كونه اللحظة التي تتكسر فيها الأحلام (حتى في لحظة تحققها), فسوء الحظ في الحب (وهو المعادل الموضوعي للعدو في الثورة) يعمل بمثابة قوى مضادة لفعل الحب.
سوء الحظ كتعبير عن طيف واسع من لحظات الفشل( الذاتي وغير الذاتي) يقلل من مساحة المناورة النفسية لتفسير مسار العلاقات الاجتماعية كما عبر عنها عالم النفس الأمريكي ستيفن كاربمان فيما يعرف باسم "مثلث كاربمان" حين تلجأ الذات في سياق تفاعلها مع محيطها (بغية الحفاظ على التوازن) إلى تقمص ثلاثة أدوار نسقية : مستبد, ضحية, منقذ, و على المرء تطوير هذه الأدوار "الدرامية" و أنماطها السردية من أجل التوصل لحل أية أزمة تعترضه، وأي واحد منا يراقب علاقته مع شريكه لابد أن يلحظ هذه العناصر بسهولة و تبادل الأدوار بينه و بين شريكه و التنقل بين المستبد و الضحية و المنقذ بطريقة لا واعية, ويبدو أن مثلث كاربمان أكثر شيوعا في العلاقات العاطفية (وهي الموضوعات الأثيرة للصناعة السينمائية, حيث تعتمد بعض الأفلام في حبكتها الرئيسية على "دور" البطل المنقذ لحبيبته من الأشرار أو من ماضيها أو من الرذيلة....إلخ , أو حين يضحي الجندي بنفسه في سبيل أن "ينقذ" رفاقه و يساهم في انتصار بلده , فالجندي و العاشق و البطل , والزعيم, و الحزب , والرئيس و الحبيبة , و المومس الطاهرة و العبد الثائر , الطيب القوي تعتبر عناصر أساسية في تشكيل العلاقة الترادفية لأضلاع مثلث كاربمان في السينما فضلا عن كونها-أي العلاقة- أساس الظاهرة النفسية المعنية بمعناها التوزيعي في مثلث كاربمان أي الضحية و المنقذ و المستبد ).
ماريا ابنة صياد من قرية صغيرة على نهر الفولغا قرب استراخان , تعمل منذ صغرها على تنظيف اسماك الرنجة , كان حلمها أن تصير شاعرة , ومع انفجار الثورة البلشفية تتطوع في الجيش الأحمر و يتم إلحاقها في فصيل المفوض يفيسوكوف الذي رأى فيها قناصة ماهرة أكثر منها شاعرة . فتنتقل مع فصيلها من معركة إلى أخرى في أرجاء القوقاز , وذات يوم, أجبر فصيل يفيسوكوف على الفرار باتجاه صحراء قره قوم في جمهورية تركمانستان بعد أن ألحق بهم القوزاق هزيمة أدت إلى مقتل أكثر من مائة عنصر منهم، رغم مهارة ماريا في القنص (قتلت بزعمها 38 عنصرا منهم). لم يلحق بهم القوزاق لاعتقادهم أن الصحراء القاحلة كفيلة بالقضاء على من تبقى من الفصيل, و لم يكن الفصيل قد أعد نفسه لمثل هذه الظروف، بالإضافة إلى إمكانياتهم المتواضعة و قلة عددهم , لاسيما بعد معركتهم مع القوزاق , يضاف لكل هذا جو الصحراء القريب من التجمد في ليالي شباط الباردة. يقرر يفيسوكوف أن يسيروا عبر الصحراء حتى يصلوا لبحر آرال ومن هناك يمكنهم الانطلاق نحو مقر الجيش الأحمر في كازالينسك.
و في إحدى الليالي يكتشفون قافلة من القرغيز مع حوالي أربعين جملاً فيكمنون لهم و يستولوا على القافلة وتقتل ماريا اثنين منهم ( فيصبح مجموع ما قتلتهم 40 رجلاً), يلحظ يفيسوكوف وجود ضابط مع القافلة فيطلب من ماريا أن تتولى أمره فتخطئه ,وكانت هذه أول مرة تفشل فيها في القنص, تشعر بالإحباط فترمي بندقيتها و تنفجر في البكاء , ولكن من حسن حظها أن يستسلم الضابط للفصيل و يعرّف عن نفسه بصلافة و فظاظة: فاديم غوفوروخا-أوتروك , و يتبين أثناء تفتيشه أنه يحمل رسالة من الأدميرال ألكسندر كولتشاك ( قائد "الحركة البيضاء" المناهضة للثورة ) إلى الجنرال أنطون دينيكن تقول أن لديه معلومات سرية و خطيرة و يجب نقلها شفهيا وعند استجوابه، يرفض أوتروك البوح بفحوى الرسالة, فيطلب الرجال من المفوض إعدامه في الحال إلا أنه يرفض و يذهب إلى ماريا و يطلب منها أن تقوم بحراسته حتى وصولهم إل كازالينسك, فتقوم بربطه و ينام الجميع من شدة التعب و الإرهاق, فيستغل القرغيز الفرصة ليقوموا بسرقة جميع الجمال التي بحوزة الفصيل وهذا ما ينعكس سلبا على المجموع, إذ سوف يتكفل البرد و الجوع بالقضاء على الرجال واحد تلو الآخر قبل أن يصلوا لبحر آرال حين يصرخ أحدهم من فوق تلة قريبة إنه البحر، البحر. إنه الآرال يا شباب, فيندفع الجميع نحو الصوت و كأنهم بحارة كولومبوس يشاهدون برّ العالم الجديد أول مرة, وهناك يلتقون بعجوز من القرغيز يقدم لهم الطعام.في الليل يطلب فاديم من ماريا أن تقرأ بعض مما تكتبه بعد أن عرف أنها تريد أن تصبح شاعرة, فتنظر نحوه و تقول له لكنك لن تفهم ما أكتب، فما أكتبه ليس شعراً يكتبه الأغنياء عن الحب و الزهور, ما أكتبه يتحدث عن الفقراء و عن الثورة, فيقر لها بذلك ويقول أنه لا يكتب عن مثل هذه الأمور، لكنه يستطيع أن يستمع جيداً في نهاية الأمر، فتبدأ ماريوتكا بقراءة إحدى قصائدها التي يظهر فيها الحماس و الخطابة و المباشرة و السطحية, وحالما تنتهي, يقلب فاديم شفتيه ويقول أنه يشعر بشيء ما لا يستطيع أن يحدد ما هو , لكن بوسعه القول أن ما سمعه ليس جيدا "قد يكون أي سيء ولكن ليس الشعر" ، بل في الحقيقة ما سمعه كان سيئاً وهو بحاجة "للتهذيب و التشذيب", فتقول له ماريا أنها تحلم بنشر شعرها و تسأله كيف يمكنها أن " تهذب و تشذب" شعرها, فيقترح عليها أن تدرس ذلك لأن الفن مثله مثل الهندسة يجب أن يدرس, فتقول له سوف تذهب, بعد انتهاء هذه الحرب, إلى المدرسة لتتعلم كيف تكتب, يهز فاديم رأسه و قد بدى عليه النعاس, تقترب منه ماريا, تحرر يديه, لكن قبل ذلك تطلب منه أن يقسم باسم البروليتاريا بأنه لن يهرب أو يحاول الهرب. يبتسم لها, فما يفكر به الآن هو أن ينام, لا شيء سوى أن ينام, يوم, يومين, لا يهم, يريد أن ينام فقط .
بعد عدة أيام يجد المفوض يفيسوكوف قارب صيد مهجور يتسع لأربعة اشخاص. فيقرر إرسال الضابط مع اثنين من رجاله بحراسة ماريا عبر مصب نهر سير داريا و من هناك إلى كازالينسك, و قبل أن يبحروا يهمس المفوض لماريا, "إذا ما تعرضتم للخطر عليك بقتل الضابط دون تردد ", وحالما يصير الجميع داخل القارب, تحرر ماريا فاديم- فلا داعي للوثاق, فأين سيهرب؟ تتأمل ماريا بحر آرال, سطحه الباهت السلس مثل وجه امرأة رقيقة, تنظر نحو الأزرق المدهش للمياه , يقول لها فاديم أنه كان يملك يختاً وكثيراً ما كان يبحر فيه في سان بطرسبرغ, تعلق ماريا كأنها لم تسمعه " مدهش لون البحر ..مدهش هذا الغامق الكحلي" لتنتبه فجأة أن عيني فاديم لهما لون مياه الآرال, أثناء ذلك تهب عاصفة فيغرق الجنديان المرافقان ليبق فاديم وماريا وحدهما و قد رمتهما العاصفة على جزيرة بارساكلمز و ما أن يصلا حتى تنهار ماريا و تبدا في البكاء.
يتجولان في الجزيرة حتى يعثران على كوخ للصيادين فيمكثان فيه على أمل أن يأتي أصحاب الكوخ بقواربهم فينقذوهم. يصاب فاديم في الحمى فتسهر ماريا على العناية به حتى يشفى، و تراوده كوابيس بسبب الحرارة، وحين يفتح عينيه يجد ماريا تنظر نحوه بحنان, لا يعرف في البداية أين هو, ثم يستذكر و يقول " أووه نعم ..نعم روبنسون كروزو .. جمعة[فرايدي]" فتقول له ماريا بأن اليوم هو الأربعاء و ليس الجمعة, يبتسم لها و يخبرها أن فرايدي هو اسم الخادم في رواية روبنسون كروزو , يرغب فاديم في التدخين فتعطيه ماريا التبغ, لكنه يكتشف أنه لا يمتلك ورق سجائر فتناوله بعض من الأوراق التي كتبت عليها قصائدها , يرفض في البداية , لكن يقبل في آخر الأمر بسبب إصرارها وهو يشعر بالامتنان نحوها , تطلب منه ماريا أن يقص عليها حكاية روبنسون كروزو فيبدأ في القول".. كان هناك رجل غني في مدينة ليفربول.." فتقاطعه متسائلة( بعفوية و بساطة) لماذا تدور القصص دائما حول الأغنياء و الأمراء؟ لا يمتلك فاديم في الحقيقة إجابة على سؤالها ,تتابع ماريا أنها عندما تذهب إلى المدرسة لتستكمل تعليمها سوف تكتب عن الناس العاديين الفقراء, لا يلتفت فاديم لقولها, بل يتابع سرد الحكاية بينما تستمع ماريا بانتباه بالغ فيمسح شعرها بيده وهي تنظر في عينيه الزرقاوين المليئتين بالحنان و يبدو كأنهما نسيا الحرب, يقبلها فاديم على خدها فيزداد وجهها حمرة و تبتعد عنه بخجل. يستمران في الجزيرة بانتظار من ينقذهما و تصبح العلاقة بينهما أكثر حميمية, وكل مساء كانت تجلس ماريا قرب فاديم ليخبرها بقصة جديدة فتزداد تعلقاً به و حباً له.
وهكذا يصارحها فاديم بأنه ،طالما هي بقربه، لا يريد , بعد اليوم أن يلطخ يديه في أزمات هذا العالم, فليلوث الآخرون أيديهم بالقذارة, أما هو فلا، لن يقوم بهذا بعد الآن .و يردد " لا أريد العدالة .. أريد السلام " يقولها بصدق ,و يا لها من صرخة, حين نرفض العدالة- وهي إحدى القيم التي قد نموت دفاعا عنها- بسبب من خوفنا أن تتحول إلى تصور قانوني له مضمون حقوقي استنسابي، ونطلب بدلاً منها السلام رغم كل ما يعنيه من رومنسية أرضية قد لا تتحقق قط, نطلب السلام بوصفه مدخل لفهم إنساني أعمق لمعنى العلاقات بين الأفراد غير الخاضعة لموازين الربح و الخسارة و الفقد و الاكتساب, لهذا يقول لماريا أنه حالما يخرجان من هذه الجزيرة سوف يتقاعد من الجيش و يعيشان معاً هو بين كتبه غير مكترث لما حوله و هي تتابع دروسها و تتعلم كيف تكتب الشعر .
ذات يوم يلمحان قارباً من بعيد فيقفزان نحوه و يبدءان في الصراخ و التلويح ,و عندما يقترب القارب أكثر يكتشف فاديم أنه تابع "للبيض" , فيرقص بمرح و يندفع في البحر نحو القارب ملوحاً له , تتذكر ماريوتكا كلمات يفيسوكوف: "إذا تعرضتم للخطر فعليك قتل الضابط على الفور ". هكذا تأمرها الثورة, فقد يكون القتل أحد منافذ الخروج من سطوة مثلث كاربمان, رغم أنه -أي القتل- ليس حلاً يتفق عليه جميع الأطراف, فالقتل يتبناه القاتل -في لحظة ضعف و عدم القدرة على الإقناع -دون استشارة القتيل مما يعني انتفاء العلاقة التبادلية بينهما.
حين كانا معا على الجزيرة , قبل ظهور القارب, يخبر فاديم ماريا في لحظة حميمية, كيف أنه جال في العديد من دول العالم و أنفق الكثير من الأموال هنا و هناك ,بيد أن كل هذا لم يكن سوى هراء, فمازال يشعر في فراغ كبير يملئ حياته, لكنه يظن الآن،طالما هي بقربه، أنه يعيش أجمل لحظات حياته هنا برفقتها في أحضان هذه الطبيعة الساحرة, فتقول له ببساطتها وعفويتها " و أنا أيضا أشعر بالسعادة هنا, لأنك أنت سعيد هنا" فيرد عيلها متمنياً لو يبقيا على هذه الجزيرة إلى الأبد, وهنا تنتفض ماريا ويغمرها الشعور بالذنب اتجاه الثورة فتقول أنه لايمكنها أن تبقى هنا إلى الأبد، إذ عليها العودة للجيش ,فمن المخجل أن تبقى هنا تمرح و تمارس الحب و تستمتع بجمال الطبيعة و البحر و رفاقها يموتون في ساحات المعارك, يرد عليها فاديم أنه سئم من الحرب و الموت, و النفاق الاجتماعي المتمثل في الشرف الأسري الذي دفعه لينخرط في الجيش , وهو الذي كان يعيش قبل الحرب مع ألمانيا في عوالمه الخاصة غارقا بين كتبه. يدرك فاديم أنها لن تفهم ما يقصده أبدا, فهو حين انضم إلى الجيش كان يقاتل لأسباب بعيدة عن رغباته, وحين أتت الثورة, الثورة البلشفية, استبشر بها خيراُ في البداية و تأمل أن يحظى و تحظى روسيا بمستقبل أفضل, لكنه أصيب بخيبة أمل من الثورة و الثوار,فليس أقلّه أنه طوال مدة خدمته في الجيش القيصري لم يتعرض لأي جندي أو عسكري أقل رتبة منه ولكن منذ أول لحظات اعتقاله على يد "الحمر"، قام هؤلاء "الثوار البلاشفة" بنزع رتبه العسكرية و بصقوا في وجهه, كان يشعر أن انتمائه للبيض يعني القتال للدفاع عن بلاده و عن شرفه, في حين ان الانتماء "،للحمر" كان يعني شيء غامض، وحشي، رغم نبل أهدافه، لكن اكتشف الآن وهو بين أحضان ماريا أن عليه أن ينتمي لنفسه، فهذا العالم من حوله -في روسيا و خارج روسيا- في الحقيقة ليس سوى عالم يعمّه الفساد ..يموت فيه الأنقياء ليحكمه الجبناء, عالم يحتضر، يفتقد للقيم الإنسانية و التضامن بين البشر.
إنها الثورة إذن و من خلفها الحزب ما يشكل أساس حياة "السوفييتي" الجديد، إنها الثورة حين تجرف كل ما هو أمامها في سعيها لكتابة تاريخ جديد فوق أي تاريخ آخر ، تاريخ مشغول-موضوعياً- بقضايا الصراع الطبقي و تقسيم العمل و النضال في سبيل البروليتاريا،وهي قضايا في حقيقة الأمر منصفة وعادلة، لكنها -من وجهة نظر أخرى-قائمة على الحقائق المادية و الإقتصادية ليس إلا، وعلى المواطن السوفييتي الجديد أن يبتعد عن "السمات البرجوازية" التي تشكل المعيش اليومي مثل مؤسسة الزواج و الدولة و الإيمان و البنى الأخرى اللصيقة بالهم الشخصي مثل الفن و الشعر و الموسيقا و غيرها ،فهذه البنى ليست سوى ظلال باهتة لاينبغي لها أن تعيق مسيرة الثورة و الحزب.
ولكن هل هذا ما وصلت له ماريا حقاً؟ ولو شئنا الابتعاد نظرياً أعمق و أعمق ،قرأت ماريا ما كتبه ماركس و إنجلز في "الإيديولجيا الألمانية":(ليست الشيوعيّة بالنسبة إلينا حالةً ينبغي خلقها، أو مثالاً ينبغي أن ينتظم الواقع تبعاً له. نعني بالشيوعيّة الحركة الفعليّة التي تهدف إلى هدم حال الأشياء الراهنة. شروط هذه الحركة تتأتّى من مقدّماتها المتوافرة راهناً)..رغم ابتعاد ماركس وإنجلز، عن التصنيف الميكانيكي لمعاني "ديمقراطية برجوازية"و "ديمقراطية بروليتارية"، لأنهما كانا يريان في الديمقراطية مآلاً بروليتاريّاً واحداً ذات طبيعة ثورية انسيابية شيوعية وأنّ البروليتاريا يمكنها،(بل عليها) أن تفرض "هيمنتها" في سياف تخالفات موضوعية مؤقته تشمل القوى الفاعلة الأخرى (ويقصدان بها البرجوازيّة الصغيرة والفلّاحين، والبرجوازيّة اللبراليّة في البلدان التي كانت لا تزال رازحةً تحت هيمنة «النظام القديم».)
هل قرأت؟ هل كان لديها متسع من الوقت لتتأمل كل هذا؟، هل حاول الحزب أن يطلعها على ما كتبه ماركس؟ أم كان جلّ اهتمامهم ينصب على قدرات ماريا في التصويب و قتل"أعداء الثورة"؟. في المقابل ، هل الحب حلاً؟ ....لنرَ ما يقول أحد المجانين السابقين لعصر"الإيديولوجيا الألمانية"و لعصر ثورة البلاشفة :"ألف قبلة كل منها أشد عاطفة من غيرها.. التقلب بين ذراعي عاشق فماً في فم منتشيين بكيان واحد. شكوانا الوحيدة لو نهمل مرة، نحب عشاقنا أن يكونوا أقوى من هرقل لا تتخيلي يا تريز أننا كالرجال الآخرين فمنشأنا مختلف، إننا حقا نساء ،فلا توجد لذة تعرفينها ونجهلها وهكذا ترين أن حبنا المفتون يجعل تقويم أهوائنا مستحيلا فهو يحيلنا مجانين لوكبحت ملذاتنا"....(دوساد/جوستين ص57).." فإذا كان إدراكنا مرتبط بطريقة ما بقدرتنا على التعبير لما هو لصيق بعوالمنا الداخلية، فإن لهذا الإدراك وظيفة أخرى تحد من تعارضات أضلاع مثلث كاربمان بما يثري تصوراتنا الذهنية على عقد المساومات المطلبية. فكيف يستقيم كل هذا؟ بعيداً عن معاني العدالة و السلام و الشرف العسكري و الموت و القتل و الثوة و الحب, بماذا كانت تفكر ماريا في تلك اللحظة؟ حين نسي فاديم كل شيء حتى ماريا نفسها و يهرع لا يلوي على شيء نحو القارب؟ هل عليها أن تندفع معه نحو القارب لتعيش الحب الذي لم تذقه، مع الثورة، من قبل و الذي ترغب به بشدة؟ هل الخروج من سطوة الحزب/الثورة يمثل خروج من سطوة اضلاع مثلث كاربمان؟ قد يكون الجواب نعم إذا ما تمثلنا عملية الخروج هذه بشكلها الديمقراطي كسبيل وحيد لتغيير نمط السرد أحادي الجانب و الاتجاه, بمعنى التوقف عن تقنيات التصنيف تبعا لـ"الهوية الثقافية" الدونية أي تعيين الضحية في مقابل الجلاد , و الحر مقابل العبد, و الضعيف مقابل المستبد ... إلخ وكذلك نقد آليات التقديس "الحزبية أو الثورية " ضيقة الأفق باعتبار أن مثل هذا التقديس ضرورة "ثورية" لامتلاك الحزب أو الثورة قيمة جوهرية مثالية متعالية تتعدى لحظتها التاريخية, وبالتالي لا يجوز التعرض لها بالنقد .
و لأن السينما حتى تكون مدهشة عليها أن تفاجئنا, فقد رفعت ماريوتكا بندقيتها و طلبت من فاديم أن يعود إليها بينما يقفز صوب القارب متجاهلاً توسلها بالعودة، فتصرخ " ولكنك أسيري ..عد .. عد يا حبيبي" لكنه لا يسمعها, لم يعد يسمعها , أصلاً،لم يعد يسمع أحد أو شيء ,فتصوب بندقيتها نحوه و هوووووب , تطلق رصاصتها الـ41 , لينفجر المكان بصوت الرصاصة ..انفجار كأنه غطى كل هذا الكوكب الذي حطمته الحروب, انفجار العالم المحتضر هو الصوت الأخير الذي سمعه فاديم حين كانت ماريا تحضنه بعد أن القت بندقيتها بعيدا و هي تقول باكية "أوه ، ماذا فعلت أنا ؟ أنظر إليّ، يا حبيبي, افتح عيونك الزرقاء الغالية..عيونك تلك العزيزة على قلبي "



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن