تاجرُ موغادور: الفصل السابع 5

دلور ميقري
dilor7@hotmail.com

2019 / 3 / 10

لقد سبقَ وقدمنا وصفاً خارجياً للربّان الراحل، " بوعزة "، علاوة على وقائع متصلة بعلاقته مع بعض أبطال سيرتنا. كون " ميرا " هيَ أيضاً إحدى أبطال السيرة، فإن صلتها بالربّان ستحظى بشيء من التفصيل. ويتعين التنويه بدءاً، بأنه لم يكن في الوسع التوصل إلى معلومات في هذا الشأن، قبل انتقال تلك الخادمة إلى وضعية الخليلة في دار التاجر القادم من دمشق.
" بوعزة "، كان بمثابة أفعى سامة، تسللت إلى مأوى صيّادٍ بائس وما لبث أهله أن اعتادوا عليها وكما لو أنها أحد أفرادهم. الواقع أن عدد هؤلاء الأفراد، بما فيهم الأب والأم، كان أربعة لا غير. وكانوا يتقاسمون مع أسرٍ أخرى السكنى في خرابة، منبوذة على طرف منطقة الشبانات من ناحية مقبرة المسلمين. منذ حلول الظلام، كانت الريحُ تحمل رائحة الأكفان المتعفنة إلى أنوف ساكني المكان. حتى إذا حلّ الصباح، عاد النسيمُ البحريّ يطرد رائحة الموت ويحنو على أحلام أرباب أسر الخرابة، وجميعهم من الصيادين؛ هم العائدون فجراً من لجة البحر، المؤمنة ثماره الرزقَ لهم ولعيالهم. " سي عمر "، والد بطلتنا، كان عادةً ما يمشي مع زملائه إلى ناحية المرسى، وذلك عند هيمنة العتمة. وكانوا يخترقون دربَ باب مراكش حتى نهايته في السوق، ومن هنالك يستقيم طريقهم إلى المكان المنشود. بسبب الحوادث المفجعة، المتخلفة عن انقلاب القوارب الصغيرة في عرض البحر، آثرَ الرجلُ أن ينضم إلى مركب كبير، مملوك من لدُن المدعو " بوعزة ". إلا أنّ التيفوسَ جاء يسعى حثيثاً إلى خرابة الصياد المسكين، ليحصد روحه حال ما جرى مع أرواح آخرين في الأحياء الفقيرة. مثلما جرى القول، كان الربّانُ مواظباً على التواجد في الخرابة، وذلك في حياة مساعده. فلما توفيَ هذا، بادر " بوعزة " لإقناع الأرملة بالانتقال إلى مسكنه، الكائن في حيّ بني عنتر قريباً من السور البحريّ.
" لن أدع أسرةَ صديقي المرحوم عُرضةً للجوع والحاجة، وأنا على قيد الحياة! "، قال للأرملة. ثم أضاف بنبرة إغراء: " الطابق العلوي في منزلي فارغ، وأنا أقيم وحيداً على أيَ حال مذ فترة وفاة زوجتي. لا أطلب منكم سوى تحضير الطعام والاعتناء بنظافة المكان، وسنعيش كأسرة واحدة بعون الله ". أصلاً، كان لدى المرأة ما تُغري به الربّان دونَ الحاجة للحديث عن الطبخ والكنس: أم " ميرا "، كانت معروفة بحُسنها، والذي أورثته لابنتها الوحيدة. إلى ذلك، حظيت الأم بعقل راجحٍ، بيّن لها منذ البدء أن معلّم رجلها كان يطمع في وصالها. فإذ تمكنت من صدّ تلك الرغبة الأثيمة في حياة والد ابنيها، فإن الأمر تعذر عليها الآنَ بعيد وفاته وتركه لهم بلا أيّ مورد.
ولكن سرعان ما لحقت المرأة برجلها الراحل، وبنفس مرض التيفوس. أصيبَ " بوعزة " بالهلع، خشيةً من أن تكون العدوى انتقلت للولدين. قال لهما عقبَ تشييع الأم لمثواها الأخير: " الخرابة قريبة من المقبرة، وها أنتما تعودان إليها بنفس الملابس، التي سبقَ وجئتما بها إلى منزلي! ". كان صعباً على كلا الشقيقين العودة للعيش في هذا المكان التعس، بعدَ تجربة المقام في منزل فاره. الجيران، وبرغم بؤسهم وعوزهم، ما لبثوا أن أمدوهما بما يكفي لسدّ الرمق، مستنيرين بآية من كتابهم المقدس؛ " فأما اليتيمَ فلا تقهر ". على أنّ الفتاة كانت قد وصلت سن البلوغ، وتعيّن عليها أن تُعينَ نفسها وأخاها المعاق. هكذا مضت تعمل كخادمة في منازل الأسر الموسرة، ولم تكن ترجع لمسكنها قبل المساء. وإنما هنالك، في منزل أحد أولئك المخدومين، عادَ " بوعزة " والتقى بها. أدهشه بالغ الدهشة، ما وصلت إليه من الحُسن والفتنة ـ كما ثمرة تفاح، نضجت على مهل في بيئة مناسبة.
مثلما كان حاله مع والدتها الراحلة، لم يجد الربّانُ صعوبةً في حمل الفتاة على قبول فكرة العيش تحت سقف منزله. ولكن، لئن وجدت " ميرا " وشقيقها الحماية بفضل وجود الوالدة إلى جانبهما، فإن الأمرَ اختلف تماماً وهما لوحدهما بمواجهة الأفعوان. مع ذلك، واجهت " ميرا " بشجاعة الرجلَ الهمجيّ ولم تسلّم له جسدها حسبما كان يأمل. كلّ مرةٍ كان يهم فيها بافتراسها، كانت تلجأ للحيلة. من ناحيته، صبرَ الرجل على ربيبته وكان يأمل في تليينها عن طريق إهدائها الملابس الجميلة وعقود الخرز. كونه دأبَ بين فينة وأخرى على وصال بنات الهوى، فإنّ جوعه الجنسيّ لم يكن من القوة بحيث يدفعه لاغتصاب ربيبته. في المقابل، وجدَ " بوعزة " مجالاً للتعويض عن مصاريف الفتاة من خلال شقيقها المعاق. وكنا قد رأينا كيفَ كان يحمله إلى ترّاس مقهى الأرملة الإيطالية، بهدف تسوّل أعطيات الزبائن والمارة. بيد أنّ تخلي الربّان أخيراً عن " ميرا "، بوهبها لمنزل الرابي دون أيّ مقابل، كانت مسألة ما تزال غير واضحة حتى بعد مقتله بعدة شهور.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن