مِن التصديق الصبياني إلى الإعتقاد النَّاضج.

زيدان الدين محمد
zidanedin7@gmail.com

2019 / 3 / 10

" ‏يَا الله مدّ يدكَ إليَّ لِنتصافح حُسن ظَن،
دُون جهنّم ، دُون قَتل".
-ندئ عادل.


في خضم القرن الواحد و العشرون، و العالم الرقمي الذي نحيا فيه ،مازالت مبادئ التعطيل مستفحلة في مسألة العقيدة الدينية على الرُغم من أن وسائل المعرفة باتت منفتحة جدًا و يسيرة أمام تعرفنا على عقائد الآخرين و ثقافاتهم.

فالمؤسسات و مناهج التعليم لا تخصص دروسًا للتعرف على أديان الآخرين ليحدد الإنسان إنتمائه الديني أو رفضه إياه عن قناعة فكرية ،بل كل دين يسعى جاهدًا لإحتواء معتنقيه خوفًا من الإنضمام لدين آخر، و هذا من أحد الأسباب المهمة التنميطية في خلق التعصب لهذا الفرد و ثقافة "انا امتلك الحقيقة المطلقة" ، و من هُنا نجد أن الأديان والمذاهب تحولت من أصلها " مفاهيم عقلية " إلى " مفاهيم وراثية أيديولوجية" لا يستطيع الفرد التخلص منها بسهولة كي يصل للإعتقاد الناضج.

و يجدر بي هُنا للتوضيح أن أستذكرَ ما جيء في كتاب "الفرد و ديانته" لأستاذ علم النفس جوردون آلبورت ،حيث أزفر فِكره عن طبيعة الإعتقاد قائلًا:
"إنهُ ينطوي على ثلاثة أطوار، الأول فترة التصديق الساذج و هو أوضح ما يرى في الطفل الذي يُصدّق حواسه و خياله و ما يسمعه بغير تمييز، فعقائده الدِّينية الأولى مُستمدّة على الأكثر مما يسمع -أي من الواقعية الكلامية- ،فإن الكلمات عنده و الوقائع بمثابة واحدة، و بقاء هذا التصديق السّاذج معه مدى الحياة أمر ظاهر ولكنه في الغالب ملازم للعقول التي توقّف بها النمو دون التّمام أو مقصور على المسائل التي يحيط بها الجهل المُطبق أو تتسلط فيها قدوة قوية الأثر، و بعض العقائد الدينية بين الكبار مُؤلف من هذا الخليط: أي من التصديق الصبياني و القدوة و ما لم يمحصه التفكير.
و من المُعتاد على كُل حال أن تأتي بعد هذه المرحلة مرحلة تزعزع قرارها، فإن الشّكوك تطرق عقل الإنسان من جميع الأبواب المُتقدمة، و هي جُزء مُتّصل من كُل تفكير مفهوم، و ليس في وسع الإنسان أن ينشئ له عقيدة مُستقلة قائمة على المُلاحظة و التفكير المُفيد ما لم يواجه النقائض التي يشتمل عليها كُل عُرف مسموع.
و المرحلة الثَّالثة هي مرحلة الإعتقاد الناضج، و هي تتطور -مع المشقة- مِن تراوح الشكوك و التوكيدات التي يتسم بها كُل تفكير مُفيد..".

إذن فآلبورت لخّص طبيعة الإعتقاد في ثلاث مراحل:
١التصديق الساذج.
٢التزعزع و الشكوك.
٣الإعتقاد الناضج.
و من المُلاحظ أنني أتحدث عن الإعتقاد و ليس الإيمان، فالإعتقاد يقترن بمعرفة بعض الأسباب و لو من قبيل الترجيح و التقدير ،لذا هو هوادة و تسوية عملية يتطلع صاحبها إلى ما يغنمه مِن خلال إعمال العقل.
و المُتطلع لأوضاعنا في هذه الحقبة مع انفتاح أبواب المعرفة، يرى أن ما زال أكثرنا يلعبون عبثًا في منطقة الإعتقاد الساذج التي وصفها آلبورت ،و إن لَمنهُم مُثقفين و كُتاب و أساتذة و أكاديميين ، حيث من أحد أدوات التصديق الساذج بناء هالة القدسية والتخويف من عذاب أبدي في ذهن هؤلاء ،و هي سر بقاء هذه الأفكار واستمرارها.
فتجدهم يستميتون للدفاع عن أفكارهم و مذاهبهم أيّما استماتة ،و إثبات صحة ما يعتقدونه و الإستخفاف بالفِكر المُغاير إنطلاقًا من أنهم أرباب الحقيقة المُطلقة، بينما لو وُلدوا في بيئة مُغايرة يخالفونها الآن لكانوا يفعلون سوءتهم هذه من الدفاع عن معتقداتهم بنفس المذهب الغير السوي ذلك.
و هذا ليس محصنًا بالتأكيد من جرّ الويلات و الصراعات و النازعات و سفك الدماء ما دام كُل فئة ترى أنها على المنهج الحق،فذلك لا يكبح من أن تُشرّع كل فئة سيفها أمام كل مغاير و مختلف عنها .
و هؤلاء أهل التصديق الصبياني ، هُم تمامًا الذين ينطبق عليهم مصطلح الشوفينية الذي هو بطبيعته يعني الإعتقاد المغالي و التعصب لشيء و العنجهية في التعامل مع خلافه،و الشوفينية تُعبّر عن غياب رزانة العقل و الإستحكام في التّحزّب لمجموعة ينتمي إليها الشخص و التفاني في التحيز لها، و بالمُجمل فهي تفيد التعصب الأعمى .

رُبما كثرة الصراعات الداخلية اليوم في أوطاننا لا تعطي فرصة الثورة على تلك المفاهيم المُتنطعة بجرِّ ثقافة "أنا على الحق و غيري على الباطل" و بالطبع نحنُ لا نقصد الثورة على الدين نفسه بل نقصد هدفًا واضحًا و هو قتل روح الكراهية وتسفيه الطرف الآخر ،و زراعة منهج راسخ يُمكّن أبناءنا من تحديد إنتماءاتهم عن قناعة فِكرية، فهذا ما نحتاج إليه كعامل من العوامل الأساسية للحد من انتشار ثقافة الدم و التسفيه .

مَن ينجو بنفسه من حضيرة التصديق و التسليم الساذج كخطوة أولى فهو يرنو لبناء الإعتقاد الناضج من خلال المرحلة الثانية و التي هي مثالًا موجزًا ‏كالكثير الذين يقعون في خطأ الإعتقاد بأن النفط أتى من تحلل عظام الديناصورات والحيونات السابقة قبل ملايين السنين، لكن في الحقيقة وجدوا فيما بعد أن النفط أتى من موت الميكروبات والجراثيم فقط.

و من الشاهد جدًا في جذر مسألة مُعتقداتنا الدينية هي أننا تمامًا كمن يستخدم الأجهزة الجوّالة دون التّفكير كيف صُنعت و كيف تَشتغل.
و بالطّبع فهُناك فرق شَاسع بين سفينة تحمل إبرة مغناطيسية تسترشد بها و سفينة لا تحمل إبرة مغناطيسية فتضل و هذا الفرق كالفرق بين مَن يمتلك عقلًا يطلب إلتماس الطريق الصحيح و بين مَن يمتلك عقلًا وظيفته "لُعبة مُعطّلة".



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن