المعرفيون بمواجهة الخوف في غربي كوردستان

ريبر هبون
reber.hebun@gmail.com

2019 / 3 / 2

(المعرفيون بمواجهة الخوف في غربي كوردستان)

المرض، ذلك الرامز للضعف الذي هو طبيعة البشر مذ سلكوا طرقاً مختلفة لعيش الحيز الزمني من حياتهم، لحين يعانقون الموت، وهو بمثابة القناعة المتصلبة عن سلسلة عوائد وتقاليد مجتمعية، تقود المرء لاستعمال لاشعوره، لامتصاص الموروث الاجتماعي، منذ طور الطفولة، لأن الطفل يمص ثدي أمه وإصبعه فيما بعد ولا يكتفي ، بل يمص بحدسه وإحساسه مع تقادم نمو فكره ،عوائد ومعتقدات البيئة وسلوكيات المحيطين به، لهذا نجد الجهد الإبداعي مواكباً لخلجات المرء ومدركاته على حد سواء، لإسباغ القيمة المثلى للمجابهة، وبيان حقيقته المتطلعة لحياة أكثر عدلاً ورفاهية، تأكيداً للطاقة التي تسعى دون تمييز أو هدف والتي تذهب لخدمة السلطة ومآربها، حيث نجد المعنى في رحلة الإنسان المعرفي في رحاب الوجود انطلاقاً من جغرافيته التي يحملها في سيماءه وسلوكه ومواقفه وثقافته، تجعلنا نقف أمام حقيقة التطلعات الحثيثة لإيجاد حياة أفضل خالية من العبودية والتسلط الناتجين عن امتصاص الجهل والخوف، وكذلك جملة التقاليد السلطوية في عبادة الجماهير للرعب القائم في حياتها ومؤسساتها، فبخوضنا لرمزية الخوف ما نلبث أن نقع في فخ التساؤلات المفتوحة على عديد الاحتمالات، التي تؤرخها الأحداث على طاولتي الزمان والمكان المتلاصقتين، ولعل الخوف يمثل أصل التنازع بين البشر وذلك التسلط القائم والذي يؤثر سلباً على الحياة بما يحمله المجتمع من معايير وقيم، فما أن يطغى الخوف على الذهن، حتى يتم تحوير القيم عبر تأثير الرعب المفروض على الذائقة العامة، إذ يمثل الخوف بداية التعلق بالوهم، حيث تشعر المجتمعات المسلوبة من حريتها وعقلها بأن الخوف شيء لابد من وجوده، وإنه مرتبط بوجود إله يجب أن يُعبد ويتم تقريب القرابين البشرية كرمى له، وكذلك فإن طاعة الحاكم من طاعته، وإن كل ما يحدث من بلاء وفساد، هو إرادة ذلك الإله السادي، لهذا نجد الخوف قد بات منظومة ناتجة عن تلاقح رغبات السلطوي، مع ما يفند أسباب بقاءه حاكماً بنص مقدس، يتلقفه البسطاء ببراءة ساذجة، وعنف ممنهج، لقد امتزج الخوف بالمكان والزمان والتربية والمعرفة التي يتلقاها التلاميذ في المدارس، وقد جعلت الحلوق مكتظة بالأنين والكآبة، جراء تقمصها للخوف باحترافية، حتى صارت الثقافة الشعبية والمكتسبة من حقول التربية والتعليم ، وجهاً لطبيعة المجتمع، لهذا ظلت الشجاعة في الخطاب الشرق أوسطي مجرد وسيلة لتقمص ماضي متخم بالأكاذيب والاعتزاز الوهمي الذي لا يمكن الاستنجاد به لبناء شجاعة مستمدة من الواقع الشاحب، أي من هذا الحاضر المحاصر بأغلال السلطة وممارساتها التعسفية تجاه المجتمع والأفراد، فأمام هذا الضغط التاريخي والإرث السلطوي، تجد المجتمعات نفسها في حالة من الاغتراب عن ذواتها، فتمارس عيشها بضرب من الجمود والاتكال والخوف من الغد، ولا يتم ردع الخوف بالسبل الفكرية، لغياب الفكر، والاكتفاء بالتسليم لحقيقة ما يحدث ، فهو قضاء وقدر حسب المفهوم الديني الجاهز لاستقبال الخوف، فالعين التي تبكي من خشية الله، وفق التعبير الديني المرمز، هي ذاتها تلك العين التي تبكي لبطش الحاكم، ورب العائلة وأستاذ المدرسة، فلا يمكن في الحقيقة فصل التراث الديني عن السلطوي في كونهما أداتين عميقتين في سحق التنوير الاجتماعي، لهذا تكتظ جموع الخوف في المسيرات التي تهتف بحياة الرئيس الخالد، ابن الله على الأرض، ذلك الذي أعطاه الإله الملك بقضاءه وقدره وإرادته، لهذا على الناس أبداً المسير هاتفين بحياته، وهم يحملون خوفهم كجينات تدخل أعماقهم وأذهانهم، وهكذا لن يتم بيسر خلع أقفال الخوف، حيث تتحول الشوارع إلى متاهات وسراديب تتنقل عبرها الكتل الآدمية، ولا تبدو الأخلاق الجمعية إلا معايير مقتبسة عن ثنائية الحاكم والمحكوم، على غرار الخالق والمخلوق، لهذا تبدو العقول خاوية سوى من ترهات وأقاويل يتناقلها البسطاء جيلاً تلو جيل، لتزيين نمط حياتهم الأشبه بتلك الفكاهة السوداء، التي تعتبر عنوان حياتهم وسر فظاظتها وتشاؤميتها، لتغدو أحلام الديمقراطية والانفتاح عن المجتمع مجرد قصص لا تكاد تملأ الأرواح الخاوية سوى من أحلام لا تقيها هاجس الضياع والاغتراب المزمن .

إن تشرب الفرد للخوف هو بمثابة ابتعاده عن الذات، واختفاء مظاهر التصالح مع عموم الأشياء التي تخص مزايا الإبداع الفردي في الوجود، لهذا يعمل السلطويون على تشبع المجتمع بالخوف منهم، بغية حصر الحياة الاجتماعية في مظاهر الإمتثال لولي النعمة والقائد الأبد، والهتاف له وفداءه بروحه وماشابهه من شعارات، إذ أن الطفل يتعرض لهذا النوع من الإخصاء الفكري والمعرفي منذ بداية دخوله للمدرسة وحمله لصور رئيسه المفدى ، لقد جعلت النظم الشمولية من الفرد، منافقاً ذليلاً، لا يجب أن يتحول لناقد، بل لمسلِّم لحقيقة واقعه، مرتهناً لكل لحظة خوف، جاعلاً من نفسه مريداً رديئاً بأبسط الأحوال، يقبل على ما وضع على طاولته إثر خوف وقمع وتهويم ممنهج ، ليكون بذلك مجرد مقاول أو عامل في مصنع الخضوع للأوامر والإلتزامات الباهتة المستمدة من عوائد ثيوقراطية دينية تم تحويرها بما يلائم ذهنية الحزب

1
الإيديولوجية، لتتحول إلى دين شامل مكتظ بالخوف والطاعة القسرية، والخوف من الأمن، بدل من الإطمئنان لوجوده، إذ أن جهاز الأمن هو سلاح مسلط على الجماهير بغية إرهابها،والحد من تطلعها لعالم أفضل تسوده ثقافة الاختلاف وحرية التعبير، فحقيقة النزوع للعصيان والتمرد، تدفع بالمرء للتساؤل عن سر ارتياده لجغرافيا الخوف المشتقة عن عوالم تعج بالعصاب والسادية، إذ أنهما يوهنان الذات، يضعفانها على الدوام، حيث لا إرادة حرة في ظل الرهبة، ولا يكاد المرء يدخر شيئاً من سعة الفهم إزاء الإقصاء للحياة الطبيعية، حيث يسهم الخوف في الخمول على الصعيدين الروحي والذهني، حيث ينعدم الإداراك باختفاء الحرية والتعبير عن الرأي، تتعطل مدركات ومواهب المعرفي، إذ يجد نفسه في بوتقة حصار مطبق، حيث تتجسد الأوهام والتقاليد المحبطة في ذوات الأفراد، ينتج الخوف ذلك العنف وجلد الذات، إزاء خيبات وأوجاع متراكمة، يفرز الخوف أيضاً الحرب الأهلية، فالأفراد ينفسون عن خوفهم من السلطة عبر شجارهم واحتقانهم ضد بعضهم البعض، حيث يجوعون ولا يجدون غير العنف وسيلة لإفراغ طاقة الخوف الكامنة في دواخلهم،لنجد أن ذلك كله مدعاة تفكر بحقيقة السلطة التي تعمل ليل نهار لتكبيل مجتمعاتها بأشكال التهويم والإخصاء المعرفي، ثمة علاقة بين الأب العنيف ورجل الأمن العنيف في أنهما يعملان تحت ظل القائد الإله، الذي يلهث خلفه قطيع آدمي خائف، يزيف طبائعه تبعاً لمشيئة منظومة القمع، تلك المنظومة التي بنت امبراطوريتها الإرهابية من النصوص الدينية المقدسة، والتي شرعنت مكوثها ووصايتها على شعوب لا تنفك عن ممارسة خضوعها بضرب من الاتكال والجمود وبصك مقدس لا مجال للشك فيه، حيث للخوف رمزية كبيرة عظيمة التأثير على الحياة الدقيقة للمجتمع وأطوار أفرادها، إنها أساس كل انحلال روحي أو فكري، ولعله أيضاً نافذة مفتوحة لاستكشاف كل من هب ودب من مآسي ونكبات، حيث يولد من بطن الخوف ذلك التملق الذي بات من شعائر أمم القضاء والقدر، إنها مجتمعات استساغت الخضوع وثقافة القطيع، ولعق أحذية القادة والأولياء والمتصوفين أصحاب البركات، وتشربت أدبيات القائد الملهم الذي يفكر بالنيابة عن الغالبية المطأطئة، لهذا بات من الشائك استئصال هذا الورم النفسي الذي تأصل وساعدت النصوص المقدسة على رسوخه وتوطيده عميقاً، إذ للمقدس دوراً نفسياً بالغ الأثر في ذائقة الفرد، والتي عليها ينبني الأساس الحقيقي لقيام السلطة القمعية الفاسدة. إذ حينما تنشغل المعدة مع العقل في البحث عن لقمة العيش كل يوم ، لا يتراءى في ذهن اللاهث نحو الشبع إلا إرضاء من بيده مفاتيح كل شيء وهو على كل شيء قدير ، هذا من ناحية ، ويرادفها على الطرف الآخر، سلطة تحتكر الجهد والعمل وعلى اللاهث إبداء كل مظاهر التملق والصمت حتى يتيسر له الحد الأدنى من الحياة الجيدة، ومن هنا تتشكل أولى لبنات الخوف.
ولعل ميلنا إلى التحليل وإرجاع الأسباب لمسبباتها هو ميلنا لتحسين طرائق توجيه التلقي نحو الأفضل، بغية الكشف عن كل ما يتم إخفاءه تحت مسميات مثالية باطلة، والمقصد من ذلك إسباغ دلالات إيجابية على الخوف والسلطة، أو محاولة الدفاع عن الإله الواحد المرادف للقائد الواحد والذي تنتشر صوره في كل مكان، ويخرج الناس حاملين صوره ليعبروا عن حبهم الشعاراتي له، إن كل من يحاول تحصين هذه التقاليد الشمولية الميثولوجية في أصلها، يعمل على تبرير الخوف والقداسة، وتجميله على نحو مكشوف وباهت، لا يمكن إنشاء فلسفة فوق أنقاض نسق مقدس يعتمد على الخضوع والتسليم بفكر القائد الفيلسوف، إذ يستحيل أن يكون السلطوي فيلسوفاً ناجحاً، أو أن يكون الفيلسوف سلطوياً حقيقياً، مازال ثمة شرخ عميق بين رؤى الفلاسفة وأصحاب السلطة والمنظرين بخصوصها، حيث لم ترقى تنظيراتهم سوى عن كونها مسوغات تحايلية هدفها تجديد ثقافة القطيع، والحد من بروز الإنسان المعرفي المتفوق،حيث نشأ الخوف في كنف الجهل، واعتبر مقوماً حقيقياً من مقومات نشر العنف والقداسة المتشبعة بالدم، ليسطر بسحنته الرمادية البؤس الموغل في الوجود، هكذا خيل للبشري أن الأساطير جزء من حياته، ولابد من أن يوقرها ، كونها جزء من ديانته التي يعتنقها، باتت لزاماً عليه أن يصدقها ويتعامل معها كواجب وحرز للحفاظ على رأسه ولقمته في ظل منظومة تقاسمه كل شيء، مع الخوف ينعدم الاستقرار، تصبح الحاجة للثبات أمراً حتمياً في ظل حياة متزعزعة البنى ، يلهث الأفراد فيها إلى شيء يحقق لهم الطمأنينة، حيث يسخر أنصار الخرافة من مواهب ومدركات المعرفيين، ويتعاظم ذلك الصراع المضطرب فيما بينهما، ليعد امتداداً تاريخياً لمعارك الأمس، ليس لأجل السيطرة على الجغرافيا فحسب، وإنما لأجل تشريع منظومة الأقوى كونه الأجدر بالبقاء، على حساب الأضعف الذي يضمحل ويتلاشى،إننا نميل لإسباغ التعاريف على شتى المفاهيم التي نسلم بها مع كثرة إعادة حفظها وتلقينها في أنفسنا، كون المرء يميل إلى ما هو في سريرته الذهنية والفكرية على نحو رصين، لهذا كان التحديد بمثابة حصار ، وصار هذا الحصار بمثابة لزام يشهد على عبث تلك المصارعة اللغوية بين فريقين ، يزعم أحدهما أنه تفقه المعاني والأفكار عن كثب على عكس المقابل منه، لسنا مع القولبة، والتجمد في متن مجموعة مسلمات، إن ذلك سبب ضراوة في التوحش لدى الإنسان الشرق أوسطي، عبر تصوفه الديني والحزبي الراهن، إنه يمتص ويؤمن بعماء، دون معرفة أن كل رهان على قولبة فكر مسلَّم به ، هو بمثابة مغامرة اعتباطية، ولهذا أدركنا أن المعرفة التي نسعى إليها كمعرفيين ، هو زبدة التنوير والخلاص من قيد الترهل الفكري والتسطح الإيديولوجي،لتدشين معالم ثقة ونهوض ضد أطوار

2
الخوف التي رسختها المنظومة الأبوية بشقيها السلطوي والعائلي،حيث أن كل كتابة منحازة، والإيديولوجية تعريفاً ،هي مجموعة أفكار نتقنع بها تكون إما امتصصناها بالوراثة،أو باللاشعور،لا ننفك عنها،وان ادعينا التحرر منها.فآثارها جلية في الطباع .وإن تطبعنا بأفكار مكتسبة جديدة،فدعوى التحرر من كل شيء نسبي يبقى مجرد رغبة، الا أننا نتفاعل مع كل ما هو باطن فينا أو مكتسب،رغبة منا في إقامة تواشج ما على صعيد الأفكار والتعاليم،اذ سرعان ما تتحول الأفكار لاتجاهات..أما التصوف والتجمد في قيعانها.فتلك هي المعضلة الواقفة حجر عثرة في طريق نهضة المعرفي، حيث يحلينا الخوف إلى تخاطر وجودي حول تساؤلات الإنسان إزاء تجربة الحياة التي يعيشها من طور الصبا إلى طور النضج فالكهولة، لأن الخوف لا ينحصر مداه في العلاقة ما بين السلطة والجماهير، وإنما يتعداه ليشير إلى حياة المرء، وقلقه من المستقبل، وذلك الغموض الذي يلف طبيعة الحياة والسلوكيات، مما تسبب لدى المرء حالة من الحيرة والتأمل في المجهول، فلا يوجد ما وراء العدم، حيث تنقطع فلسفة الأحياء بمجرد أن يموت الحي، ويخرج من سجل الحياة الحركية، ليتعفن ويتفسخ ويعود لاستيطان التراب، ليتحول إلى شيء آخر وينضم للوجود على نحو متلاحم متوحد، بكل ذرات الحياة ومصادرها، إن تأمل الوجود لا بد وأن يمر من بوابة القلق، لماذا يخاف الإنسان في ظل الوجود المتشعب والذاهب به للترهل والفناء؟!، ولماذا يضع البشر العراقيل الجمة في طريق بعضهم البعض، للحيلولة دون التمتع المنصف بمتع ولذائذ الحياة، فإلى جانب العدم الذي هو مصير كل الأحياء، يقف الإنسان في وجه المقابل منه، دون وازع معرفي، وإنما قائم على إلغاء الآخر لتقديم الذات، سفك الدم بمثابة تعجيل قدوم العدم، ليقبض على كل متحرك، ولعل الفوضى الناجمة عن العنف هو ما يخيف أكثر،وسط عالم أباح الموت في كل مناحي حياته، فالقمع وقتل الحب، وهدم العلاقات الطبيعية، وتلويث الطبيعة عبر الحرب، كل ذلك جعل الخوف الأكثر قرباً من الإنسان وبقية الكائنات، حيث يتحلل الجمال المجسد في الإنسان إلى وهم ودخان ناجم عن الخروقات الكبيرة للإنسان الجشع والأناني، وإضفاء مسوغات مقدسة واهية على طبيعة حربه ضد الآخرين، لقد برزت المحن العديدة بوجه المجتمعات الساعية لحريتها، وسط تابوهات كثيرة شلت حركتها، مما تعاظم قلقها تجاه مستقبلها، هو ذا المستقبل قد أفصح عن وجهه، وما لبث أن مر المجتمع بفوضى كبيرة، جراء ذلك العسف والجور المتراكم، والذي أنشأ داخل المقموع ثورة هائلة، ضد ما يشبه العدم والموت،حيث يقول نيكولاس بيردييف (Nicolas Berdiaeff(1 “:إن الموت هو الحقيقة الأعمق والأكثر دلالة في الحياة نفسها، لأنه يأخذ بالإنسان فوق ظواهر حياته اليومية السطحية، إنه الشيء الوحيد الذي يجعلنا نفكر في معنى الحياة ذاتها، والحياة نفسها لا معنى لها إلا في دلالة الموت عينه“. انها بلاد تعيش في دوامة الأحلام والآمال التي لا تنضب، كونها محط مواجهة وإصرار ضد تلك المظلومية التاريخية التي يعيشها الشعب الكوردستاني في أجزاء وطنه المحتلة، لهذا كان هذا الصمود والعناد بمثابة انتصار على مستوى الأفكار والآمال، وبذلك يمثل تجاوزاً على الحياة التي يعيشها الإنسان الكوردستاني على الهامش، حيث الوطن هو معنى الحياة المنتصرة على مفاهيم الموت والتلاشي، دعت حاجة المرء للتمسك بجذوره كنتيجة طبيعية عن شعوره بالغبن والظلم، وكذلك فهذه الحاجة تعد بمثابة البنية القويمة التي ينشدها الإنسان الطبيعي في زمن الحروب والإقصاء المفروض، إن استمرار النظم القمعية في سلوكها إزاء شعوبها، هو بمثابة الموت متعدد الأشكال، والذي يتم ممارسته لمزيد من الاحتقان والتحلل والفوضى المتراكمة، فحينما تتحول الحياة لميدان لممارسة الموت، تتعطل المدارك والمواهب الساعية لتمتين العلائق الطبيعية، تتحول المؤسسات والنظم إلى سلاح ضد الشعوب، حيث يكتظ الحدث الزماني والمكاني بأصناف الإبادات الثقافية والاجتماعية، وتصبح الحياة أشبه بموت طبيعي، هاجس لا ينفك عن تفاصيل عيشنا، وتوترنا ، يرافقه الإعلام الذي يسوق الوجع والعنف والدم، لتتحول الحياة هكذا لمشاهد عن الموت، تتموضع في كل ركن من أركان الحياة لتعبر عن نفسها بمظاهر الديكتاتورية والإقصاء وقمع الأقليات، والحروب الدينية، والتشرذم المجتمعي، فمن المفيد في هذا الصدد معرفة أوجه الموت المقدسة في مفهوم النظم الاستبدادية القمعية، إنهم يفرضون العنف على نحو ممنهج،عدا عن شبح الخوف الوجودي لدى الإنسان ، ثمة خوف سياسي اجتماعي، نفسي يستوطن تفاصيل الحياة، لا يمكن القفز فوقه، أو تجاهله، في ظل ذلك الغبن المفروض، يكمن ذلك التباعد بين الجماعات، والتي تصبح مستعدة لأي تصارع دموي، لنجد الخوف هو العشبة المفضلة لهذه الأنظمة ، والتي يتم استعمالها لإطعام القطيع البشري المتهالك، عبر أطوار حياتها وعيشها، وتقادم أجيالها.
إنه الخوف يبقى ذلك الهاجس الضخم المستوطن العقول والقلوب، والمتحكم في طبائع الناس وعاداتها وتقاليدها، والناظم لسير حياتها ومسيرة أجيالها، لعل الموت استحوذ كافة خياراتها في الحرية والاستقلال، حيث يعد الموت بديلاً عن حياة الخوف، بات الموت أشبه بعرس الحلم، لبلوغ الحياة الأفضل، حيث بات المستقبل قاتماً غامضاً في ظل هذا الخراب الذي يتسع ويتشعب أكثر ، في ظل غياب أشكال التآلف والود الاجتماعي، ذلك العبث الذي تمارسه النظم الاستبدادية متأت من نظرتها الضيقة والمغلفة بالجهل بالتعايش وثمراته الإيجابية، إنها منظومة ترفض المبادئ الإنسانية ، وتتعامل مع الخوف كضرورة لابد منها، لضبط فورة الجماهير وتطلعات أفرادها لحياة الرفاهية والتعددية، الأنظمة التي تزرح بالشر

3
والمظالم، في رقعة الشرق الأوسط، تركيا العثمانية التي خلفها إرث عظيم من التسلط والظلم وإبادة الشعوب وإذابتها في بوتقتها، وإيران الفارسية المغرمة بأمجاد الماضي المتخم بالتسلط والموت، والعراق وسوريا البعثيتين والتي وراءهما عروبة فرضت الإسلام بدموية على شعوب وثقافات، اكتسحتها وغطتها بطابعها العربي الإسلامي، إن هذه النظم المستبدة تقنعت بإرث نشر الخوف والموت ، حتى باتت على ماهي عليه الآن ، كامتداد لعصور وحقب، وما كوردستان المحتلة من قبل هذه النظم، إلا رمز تنويري لاسترداد ثقافة أمة وذاكرة شعب من مخالب الانصهار والإبادة، ورمز مقاومة تعبر عن وجود أمم تحاول نيل حريتها بالدم والحديد، حيث يبدو الخوف في أحد صوره مقروناً بالإجحاف والظلم، جراء سلب ونهب الأراضي الكوردستانية في سوريا باسم الإصلاح الزراعي، والذي اعتبر بمثابة بؤس تم فرضه من دولة قمعية شوفينية، اعتمدت على صهر وإذابة كل المكونات العرقية في بوتقتها العربية، فهذا العبث بالحق، ووضع اليد على الملكية والحياة الاجتماعية، مثل أكبر حالة قهر في غربي كوردستان، حيث تعريب القرى والمدن الكوردية بأسماء عربية، وإجلاء الكورد من مناطقهم، لصالح استيطان العرب فيها، فالمشاريع العنصرية، أربكت لدى الإنسان الشرق أوسطي عموماً كل ثقة بالمؤسسة والدولة والقانون، وجعل الحياة ساحة للسلبية المشحونة بالاحتقان والظلم الممنهج ، الخوف ليس مجرد حدث، إنه دلالة واقعية متصلة في حياتنا وطبيعتها ومجرياتها، حيث بات اللون السائد في حياة المجتمع المقنع بالمنظومة الأبوية، للموت علاقة به، فمبرر الخائف هو خوفه من الفناء، وزوال الأمن، وقلق السلطوي من المطالبين بالحرية، هو خوف من تلاشي السطوة والمكانة، لهذا يسعى الجميع للتصارع لإبعاد شبح الخوف ما أمكن، حيث يعتقد الفيلسوف الألماني هايدجر (2)Heidegge يجب على الموت ألا يكون هاجساً وجودياً يقض مضاجعنا ،إلا أنه هاجس حقيقي يقض مضجع الأفراد المتحكمين بالمجتمع عبر أدوات القمع والترهيب، وهو أيضاً حياة معاشة لدى الغالبية غير القادرة على انتزاع حقوقها الطبيعية وتفعيل القانون المنتهك المعتمد على الإنصاف وبيان قيمة التعددية السياسية والاقتصادية لما لهما من نتائج إيجابية على المجتمعات والدول عموماً، حيث لا تسمح السلطات الديكتاتورية بإشغال عقل أفرادها بأشياء خارج عن أخطاءها وانتهاكاتها، إنما دأب وديدن الإنسان المقموع هو التفكير بذلك القمع والبؤس الذي يعيشه على مدار حياته وأطواره المختلفة، حيث تمسي الأحاديث كلها تحف المآسي الممارسة، والأماني الغائبة عن التحقيق، لنجد مدى تلك العلاقة ما بين الخطاب الديني والسلطوي المشتركين في إخافة الجماهير والحد من انطلاقها للأمام، ذلك الاغتراب الحقيقي الذي جعل الحياة متوقفة، والإنتاج مجرد كدح مجاني يقدم لذوي الجيوب المحدودة ممن يملكون زمام السطوة والتحكم بزمام الحياة ومؤسساتها، فالسلطة القامعة رسخت سلوكياتها في أذهان شعوبها، كي لا تتحرك الأخيرة ضدها، فكان الشعب في غالبه أدوات بيد هذه السلطة تؤلبها على بعضها كيفما تشاء ومتى تشاء، وقد حدث أن هبت الخراف من حظائرها ظناً منها أنها ستتغلب على هذا القمع، فإذ برصاصها ينقلب عليها، وإذ بها تهيئ الأرضية لسلطة أكثر حلكة وظلام، لاشك أننا نعني انتفاضة ما يعرف بالشعب السوري الذي صنع حدوده سايكس الإنكليزي وبيكو الفرنسي،وهو ماضٍ إلى طريق عبَّدتها السلطات في ذهنيتها ولاشعورها، حيث أن السلطة الإقصائية أيقنت أن دوام تناسلها وبقاءها يعتمد على مدى نجاح ترسيخ منظومتها السلطوية في عقول وقلوب شرائح المجتمعات التي تحكمها، وبهذا تضمن أنها ستخرج مجدداً من عباءة الشعب المنكوب عقلياً وروحياً، لتجدد نفسها كما تبدل الأفعى والحرباء جلدها، وما خروج ما يسمى بداعش وما قبله القاعدة والإخوان وتلك التشكيلات السلفية إلا من بين هذه الفئات التي تعرضت لأمية ممنهجة وتخدير تام من رجال الدين والسلطة، إذ جعلوا المجتمع عبارة عن أحزمة ناسفة وألغام متصلة ببعضها البعض، ما إن يحدث الإنفجار حتى يغطي كامل المساحة، هذا يجعلنا نوقن أن السلطة بالتعاون مع رجل الدين واستناداً لنصوص مقدسة ، قد نجحوا تماماً في تعليب الجماهير تبعاً لأجنداتها، ولم تنجح إلا باعتقال المعرفيين، تصفيتهم أو إبعادهم خارج هذا المطبخ، إن تدمير موارد الوجود والحد من ازدهار الحياة والإنسان يتم بالتزامن مع ممارسات القمع وتحديث العبودية بمختلف أشكالها، لأجل حروب جديدة، وشروخ متتالية يدفع ثمنها الأبرياء، حيث أن تعقيد نمط الحياة متأت من شكل وممارسة السلطة وتسلطها كجهاز خوف مركز في أوساط الجماهير الشابة، ولكن العداء السافر بطبيعته يكشف عن وجهه النقاب، ضد كل صوت مؤثر وضع برنامج التغيير والانتفاضة في ذهنه، وجعلها من أولوياته، حيث يواجه المعرفيون الموت والقمع بوجه باسم، يرمز للصمود بوجه قوى التجهيل والقمع، ليعبروا عن التزامهم بماهية الجمال والإنصاف وقيمة الرفاهية في الحياة، إن استخدمت موارد وطاقات الناس بالشكل الذي يخدم تطلعاتها في التحول الديمقراطي، إن نموذج الموت المفروض على هذه المجتمعات ، هو القمع إلى مالانهاية، وترسيخه كمبدأ ديني مقدس مفروض من الله وبوساطة حراسه على الأرض، بات مسألة لا تحتمل الجدل، ولا يذهب ضحيته سوى المستنير الباحث عن سفينة خلاص لبشر يرحلون مع الطوفان، ما يذكرنا بمأساة سقراط(3) حينما ودع الحياة باسماً وهو يقول لتلامذته: „يجب على المرء أن يستقبل الموت بتفاؤل وفرح ولذا عليكم بالهدوء والتوازن" لهذا لم يكن الموت الجسدي هو ما يؤرقه بطبيعة الحال، وإنما قلقه على الأفراد والناس، خشية أن يرتحلوا إلى كهوف السذاجة والخوف من القمع والاحتكار السلطوي لكل شيء جميل، كان قلقه بمستوى ما يحمل من أفكار وتساؤلات، لهذا فقد استمدت منظومة الحكم الشمولي قوتها ،من تصفية المعرفيين والمعارف التي تحرك الأدمغة،وتجعل الجماهير تبحث عن حلول لأزماتها الفكرية على نحو خاص،إذ يجعل الخوف من الثائر ديكتاتوراً، ومن
4
الأديب، مريداً أحمقاً، ومن المجتمع تماثيلاً محطمة، إنه بيان لعداء الحياة الجديدة، أو التحرر من سطوة الخرافة الجالبة للعنف من أوكار البدائية، فما جعل المجتمع يعيش الفوضى هو تعسف السلطة وجورها إزاءه، فالألم والمعاناة والفقد، هما مبدأ المجتمع المنكوب في ظل نظام قمعي، ألغى الإنصاف والعدل، حيث بات المستقبل على ضوء ذلك مجهولاً، إنه الجحيم السماوي المطبق في الواقع، والموت بأسوأ صوره، إن سيطرة العبودية كمنظومة أمنية على مفاصل الحياة، جعل البشر في حالة خوف دائمة، سببته أنانية المحتكرين للموارد، وغياب أشكال الوعي بالتعايش السلمي،إلى جانب سيطرة الفكر الديني على فئات المجتمع وفق مفهوم الإسلام السياسي، الذي نجحت المنظومة القمعية من تحويله فكراً إيديولوجياً، حيث استندت أدبيات حزب البعث الحاكم، على المنظور الاسلامي الديني في الحكم، إذ جعلت من العروبة أساساً للدين والأخلاق،وعليه شرعنت حكمها للمجتمع وقمعها للأقليات خصوصاً الشعب الكوردستاني، الذي يحتمي هو الآخر بحقوقه وخصوصياته القومية كردة فعل على التهميش والإقصاء والقمع الممنهج، حيث يتم الوقوف بضراوة أمام مطلب التغيير والتبدل الذي هما جزء من حركة التاريخ والحياة إجمالاً، فأمام العدم والفناء الذي هو مبدأ كل كائن حي يمر بأطوار مختلفة لغاية الترهل والمرض، تقف مفاهيم الغطرسة والموت لتقوم بتسريع الموت وتغطية الحياة بما يثقل الكاهل، لهذا نجد أن المنظومة القمعية تنحاز للموت أكثر منها للحياة، إذ يلهث السلطويين إلى تحويل الحياة لساحة تعذيب وتصفية، لخوفهم من الشعب، وتقضي الجماهير حياتها في سبات متنقلة من خوف إلى غضب ، سرعان ما تنتج عن ذلك ردة فعل عنيفة مصحوبة برياح الفوضى التي لا تنتهي، حيث تحيا المجتمعات في سجونها الكبيرة على امتداد رقعة بلادها، فتعيش حالة الاغتراب الداخلية، ولا تجد من الهجرة سوى حلاً مريراً تتقبله في النهاية راغمة، لهذا فالموت بين الجغرافيا والفرار، هو ما يمثل الخوف الدائم من مستقبل غامض المعالم، ينبأ بالمزيد من المعاناة والشعور بالكآبة السوداء، حيث تبحث الأنفس عن الطمأنينة المفتقدة، جراء القمع الممنهج الذي تعايشه في ظل الأنظمة الحاكمة والتي لا تدخر أي خطاب وهمي لترويض وامتصاص غضب الجماهير، حيث يتم تقسيم المجتمع إلى فرق وتشكيلات مضادة لبعضها البعض.
التركيبة البعثية مثلاً تقوم على معاداة غير العربي في سوريا أو العراق، باعتبارهم خلايا نائمة قد يستخدمها الأعداء الخارجيون متى أرادوا، لهذا يجب تضييق الخناق عليهم، هذا عدا خوف السلطة من الشعب بعمومه، فالسجان يخاف مسجونيه، وإن كانوا في السجن، حيث يتم الاستمرار في زرع الحواجز عرقياً بين قومية وأخرى، دينياً بين مذهب وآخر، طبقياً بين شريحة مرتهنة لنظام الحكم ، وأخرى مناهضة لها ،فالصراع ما بين إرادة التغيير والخوف منه، بات وعاء يحوي قيم ومفاهيم الشرق الأوسط المتمخضة أصلاً عن ذلك التنازع، وفهمنا له يعتمد على مرورنا بطبيعة علاقة الوافد الخارجي بجغرافيا هذه المنطقة واحتفاءه بمظاهر الهوس بالسلطة والاستبداد لصالح البقاء، وقد تمت ممارسة الاستعمار بواسطة الخوف والقمع، إذ عبرهما ألغيت أدوار المبدع الحر، وحلت مكانه لعبة السلطة في تعليب وتشويه كل طبيعي وحالة قائمة تحاول بناء شيء ما بمقدوره إزالة هذا الهدم المتلاحق للعلاقات الاجتماعية، من خلال زرع بذور الاحتقان، الذي بطبيعته يقيد حركة المجتمع والفرد، ويعطل من إمكانية بروز الحركة التنويرية الهادفة لإزالة الألغام السلطوية المحيطة بالعقل، فتعطيل حركة المجتمع هي إحدى وظائف السلطة القمعية ، لمواجهة الحقوق والتملص للواجبات تجاه الشعب،لا يبقى الخوف رابضاً لأمد طويل ، إذ سرعان ما يتبعثر ويتلاشى في انتفاضة تقتلع كل رهبة، كما حدث حين هبت المدن الكوردستانية في سوريا لتجديد العهد مع أرضها ودماء شهدائها وأهلها الآمنين في قامشلو، وهكذا نجد الخوف زائلاً بمحض الغضب ووجود الإرادة، لهذا ظل الخيار أمام مجموع الشعب المنهك هو الصمود بوجه ذلك اليأس والإحباط، نحو بعث يقظة الإنسان، وحربه لأجل الحرية والعدالة، حيث تجاهل الشعب المنكوب حينها ذلك الهراء الزائف المسمى بالمواطنة في ظل حكومة لا تراعي لهم عهداً ولا ذمة، فكانت تلك الهبة الشعبية، تعبيراً عن اتحاد الشعب الكوردستاني في كل مدنه وأريافه، ومحاولة لوأد الخوف للأبد، على الرغم من جبروت الطغاة وأساليب قمعهم، إلا أن لإرادة الشعوب رهبة بإمكانها زعزعتهم، فالخوف يعتبر رصيد السلطوي الذي يعتمده للبقاء في الحكم وزيادة الربح والنفوذ، وهو بالتالي خبز المجتمعات المتدينة، والمحتقنة سياسياً، فالأنظمة الاستبدادية تعتاش على مبدأ الخوف، كأسلوب ضامن لهيمنتها، كما أن رجال الدين المتواطئين تاريخياً مع السلطة،أسسوا منظومة الخوف انطلاقاً من مبدأ الوعيد بالجحيم، كنتيجة عن عصيان الله والتعاليم الواردة في النصوص المقدسة، ذلك أنتج نوعاً من التلاقح الخبيث بين الدين والسلطة كمركب فعال للقضاء على منابع الثورة الذهنية القائمة على تطوير الجدل الفكري، قد تم منع الجدل في السياسة والدين والجنس، كما تم تحويلهما كأفيون يتم تعاطيه خلف الكواليس، لإشغال الشباب به، وتنويمهم من خلاله أطول أمد، وبث البطالة والمنهاج الدراسي الجاف الخالي من التعليم الجوهري، سوى من التجهيل، وإشغال الشباب الجامعي على التفكير بالتخرج والتوظيف، إذ يمثلان أقصى طموحات الشباب في ظل عزلة اقتصادية خانقة، وفساد مدقع وشامل، وتحلل يتم ممارسته وراء الكواليس، وتمجيد للمادة التي تتيح للمرء تلك الحياة القائمة على التكاسل والنهب، كل ذلك قاد إلى نتيجة واحدة وهو التدهور الأخلاقي، والتردي النفسي الذاتي، وسحق منافع الناس،حيث تعمل الأنظمة الاستبدادية على زرع الشك والالتباس بين

5
فئات المجتمع وشرائحه، لتنعدم الثقة بين الناس ، وتصبح الفوضى هي القالب الجامع لكل التناقضات العنفية التي من شأنها أن تقوض أركان المؤسسات كافة، إن هذا الصراع الشرس ما بين أنصار التغيير المعرفي والعنف السلطوي قديم قدم التاريخ، قدم العلاقة المشوهة ما بين الحاكم والجماهير، بين رجل الدين والجماهير، بين الأب وأبناءه، لهذا يطرح على الدوام تساؤلات وإشكالات شتى،إ لهذا يتم الانسلاخ في لحظة الغضب عن كل ما تم ترسيخه في حياة اعتمدت على القسر والإجبار، فهذه الانتفاضة لوحت بمراحل قادمة يسودها رأي الشعب وكلمته فوق نظام القسر والاعتباط، ليتم الوضع لهذا العبث الذي أودى بالأرواح البريئة وجعل المجتمع متفسخاً يسكنه شرخ يزداد وهوة عميقة، لهذا نجد أن السلطة القامعة مستفيدة أيضاً من ابتعاد الناس عن الوعي التنويري والفلسفة من خلال تدويلها لما تريده من أفكار وخرافات عبر أجهزة إعلامها وكذلك من خلال المنهاج الديني، ناهيك عن بث أفكار القومية الواحدة وترسيخ الإندماج القسري
لهذا جرى تداول هذا الصراع بين الأعراق، العرق الأقوى المتسلح بلغة الدين وإليه تعود السلطة والهيمنة على ثقافات وحضارات حمت خصوصيتها وصارعت أمام محاولات الطمس والإبادة الثقافية، حيث مثل البعث بإيديولوجيته السوداء الإبادة الثقافية خير تمثيل، وما مراميها لتعريب المنطقة الكوردستانية الواقعة في شمال سوريا إلا تعبير عن العنف الثقافي وتغييب الهوية لشعوب المنطقة بغية ترسيخ الإقصاء واللا استقرار لكافة المكونات بما فيها تلك القومية الحاكمة التي يعاني شعبها في ذات الوقت من طغيان وفساد تلك السلطة التي لم تدخر وسيلة إلا واستخدمته ضد منافعها وأمنها وحريتها، حيث اعتقدت انها من خلال نظرية المؤامرة والعدو الخارجي قد تستطيع إعطاء التبرير لبقائها أمينة على أحلام
قومية واهنة تدور في أروقة الوهم والخداع الواضح للجماهير، بغية إبعادها عن طبيعة الحاضر وسعي الأمم للدمقرطة
والتغيير الجوهري للسلطة ونظام الحكم، حيث أن تلهية أذهانها نحو ما يسمى محاربة العدو الخارجي، جعلها ترضخ
للعبث والانتهاكات التي تتم ضدها، وجعلت المنطقة برمتها تعج بالصراعات الظاهرة والكامنة، وهكذا يمكن القول أنها نجحت في تهيئة الفوضى إلى أمد بعيد، إن ثقافة الإقصاء هو نتاج الأخطاء السلطوية وجعل المجتمعات في حالة صراع شاملة لا تنتهي، معتقدة أنها بذلك تحمي أماكن تواجدها وتحكمها بالموارد، حيث يتم ربط كل فوضى بالأجندات الخارجية، لشرعنة بقاءها، حيث اعتمدت الثقافة الواحدة بالقوة على صهر المكونات الأخرى في بوتقتها كحاجة سلطوية تدعمها إيديولوجية تاريخية من الغطرسة والعنف، لتحول دون الإبداع والتآلف الاجتماعي الحضاري، ولتدفع البشرية برمتها أثمان فساد السلطة وانحرافها، كل ذلك جعل الحياة تدور في فلك الضياع والتفسخ الروحي والفكري وأعطى للإرتهان الفسحة الرحبة لإسقاط كل فكر حر، أو نهضة واعدة، حيث أن أدوات فرض الثقافة والتقاليد نابعة من الدين في كيفية جعل الناس تتأثر به بالترغيب والترهيب على حد سواء، فهي طريقة مثلى لطمس معالم الألوان الاجتماعية، وإلباسها لوناً واحداً، ثقافة واحدة، ولغة واحدة، ومن ثم أرضاً جغرافية يسودها نظام حكم واحد، استمد سطوته من هيمنة الدين الإسلامي، والطريقة التي اعتمدها دعاة نشره في غزو كل البقاع الأخرى وفرضها قسراً على شعوب وثقافات بغية صهرها وتذويبها في بوتقة اللغة العربية، فالبديل المطروح كما في هذه التساؤلات المشرعة والمفتوحة هو تقديم البديل المتجسد في التمسك بالجذور والثقافة واللغة منعاً من انقراضها وزوالها، حيث زوال هذه الهجمة الثقافية السياسية هو بمثابة بداية للتعايش بين الشعوب بانتفاء مسمى الأقلية والأكثرية، لحياة أكثر تنوعاً وانسجاماً،ولعل الغزو الثقافي ضد الهويات والثقافات الأخرى، جعلت الفوضى لسان حالها، وكذلك فاقت المركزيات الدينية والعرقية غطرسة وجوراً على فئات ذاقت مرارة الصراع الذي ركز على إخراج شخصية دونية تتمتع بخصائص الكراهية لسيادة وسلطة الأقوى الممارس جوره تحت يافطة المقدس الإيديولوجي أو الديني، حيث مارس الأوروبيون على الأفارقة، تلك النظرة الإقصائية ، لطمس معالم الحضارات الإنسانية لشعوب أفريقيا، كما مارس العرب عبر الدين الإسلامي ذلك بحجة عالمية الدين مضفيين على اللغة العربية بعداً دينياً مقدساً، كما فعل الاتحاد السوفيتي في محاولته فرض الروسية على بقية الشعوب التي هيمنت عليها، لهذا باتت اللغات المنتشرة بالقتل والاستعمار وصهر الشعوب أكثر تداولاً محل تلك اللغات الأصلية التي هجرتها شعوبها فما الاعتقال والتعذيب والتنكيل بالجماهير إلا شكل متمم للإبادة الثقافية، إذ يعمل القمع السياسي جنباً إلى جنب مع آليات الصهر والتذويب، والتي رسخت فيما بعد لمعارك الصراع الأهلي،وقد كان الدين مطية تاريخية ورئيسة على أساسه تتم ممارسة الإذابة في البوتقة العرقية الحاكمة، كما جدلية الإسلام والعروبة، فمن خلالها استطاعت الديكتاتوريات القومية محاربة الشعوب الأصلية داخل أراضيها، ولعل ذلك تشعب فيما بعد ليتم تتويجه بفكر القاعدة والإخوان المسلمين الذي استقى آليات حربه من التاريخ والغزوات الاسلامية، حيث حاول الانكليز والفرنسيين والروس والأتراك العثمانيين والإيرانيين والمغول تقليد تلك التجارب في توسيع رقعة نفوذهم وهيمنتهم تارة بشعائر دينية أو شيوعية أو مسيحية ،لشرعنة الأطماع وتبريرها بمسميات أخلاقية مثالية، لهذا نجد أن الحروب السلطوية راحت تنسف كل القواسم المشتركة بين الشعوب، وأخذت تقوض وتهدم كل ركن حضاري تحقق على يد الإنسان المعرفي منذ القدم مما يذكرنا بما قاله اسحق نيوتن(4)ت 1727م ( نحن نبني الكثير من الجدران ولكن لانبني ما يكفي من جسور ) . فهذا التدمير الممنهج لأواصر التعايش والتآلف بين الشعوب ، جعل الخوف الإله الحاكم على الأرض والمتجسد في شخص القادة والتماثيل التي تنصب
لهم في كل ركن.“

6
حيث أن تجسيد إرادة الثقافة الخامة التي تأبى العيش على الهامش، وترفض الانصهار والانطماس جلية في ردع الخوف المتمثل بالتمثال، ومقاومة الإبادة الممنهجة ، التي تشمل الحياة الاجتماعية والسياسية، حيث ينظر لتلك الشعوب المتمكسة بهويتها، كخطر يعيق توسعها وهيمنتها على مفاصل الدولة بمؤسساتها على نحو شامل، حيث يرمز تدمير
التمثال إلى كسر رهبة الخوف والقمع السلطوي، ومتابعة هذا الصراع لما تتضمنه من قيم تتلخص في تشبث الأحرار بالحياة
ضد قوى تعتاش على تدمير كل بناء أو مكتسب، حيث تركزت وظيفتها على الهدم ونشر الرهبة بين النفوس، لقد برزت
المعرفة كحالة تنويرية تلجم مخاطر وسوءات سلوكيات السلطة القامعة لما تمارسه من ضرر على مستقبل الشعوب وتعايشها فيما بينها، وكذلك عكست على نحو سلبي على جودة تفكيرها ولهذا دعت الحاجة لمناهضتها انطلاقاً من ترسيخ مفهوم الانتفاضة الجماهيرية والتي تمثل ناقوس نهاية لتلك السلطة وزبانيتها ، فما ارتكبته السلطة من فك للروابط الطبيعية بين المجتمعات المقموعة من خلال زرع الخوف كأفيون، هيئته تلك القوة المضادة التي من مبدأها العمل على جمع الناس وتوعيتها، حتماً لا نعني بالقوة المضادة تلك الساعية لتنوب عن السلطة ، إنما نعني به النخبة الشابة القادرة على إضفاء حياة جديدة وتستطيع أن تنهض لمناهضة هذا الانتهاك وفضحه، بوسائل متعددة، لعل آخرها هو العمل المسلح، الذي يسبقه وعي جماهيري بالحياة التنظيمية القائمة على التشاركية لا الإقصاء، فقد ساهمت المركزية القومية الدينية في هيئتها السلطوية على عزلة المجتمع وإبعاده عن كل متنفس يشي بظهور أفكار إيجابية تتوالد من فعل إبداعي يحتوي كل المدركات والمواهب التي تمثل روح المجتمع وجماله في الوجود، حيث انشغال الشعوب المقموعة ومثالاً الشعب الكوردستاني في الحفاظ على هويته وفي استمراره بالصراع لأجل حماية ذاته، أعاق تفكيره بشيء آخر يتعلق بالإبداع والابتكار، حيث في ظل القمع لا يمكن التفكير في شيء مختلف وجديد، حيث تتفسخ بنى السلطة القمعية الشمولية عبر الزمن، ومن الداخل ، إذ تتنافس الأيدي الجشعة على أيها يحوز أكثر على مفاصل الهيمنة والحكم، حتى تتصادم وتتنافر لتحدث شغباً حقيقياً يودي بها وبالمجتمع إلى الهاوية ،حيث تمثل الذهنية الشمولية في آليتها الفئوية في الحكم خطراً على الوجود الإنساني والسلم الطبيعي ـ كما يمثل أيضاً مرتكزاً لحروب قادمة تدمر الطبيعة بدورها، إذ حينما تعم الكراهية ، ينتشر الاحتقان بين المجتمع ، فإنه ما يلبث أن تتحطم شخصية الفرد ، وينشأ ذلك التصارع والتنازع الذي هدفه القضاء على كل نهضة عقلية تنشأ عن اتحاد المعرفيين وأصحاب المواهب الرامين بدورهم إلى توافق حول مستقبل الشعوب ودمقرطتها/ وجعلتها أكثر أمناً وأماناً ورفاهية، إن بطالة الشباب والتضييق عليهم وكذلك الحد من المواهب والإدراكات الخصبة لتلك الشعوب المسحوقة من قبل ديكتاتورياتها، كشف عن حياة أكثر قلقاً، تتضاعف من خلاله حدة الحروب والأزمات التي تحصد الأخضر واليابس، فالتقسيم المرعب لشعوب الشرق الأوسط عرقياً ودينياً وطائفياً ، كشف الستار عن مجموعة حروب متوالية تخدم قوى النفوذ والربح، حيث ضياع الهوية ومحاربة الإنسان في انتماءه أو لغته واعتقاده، مثّل ذلك الخوف ، الإله على الأرض،
حيث إن إرث الأديان هو إرث فن التحكم بالجماهير، بمعنى أن الدين هو خطاب السلطة للناس، ولعل من ساهم في إنشاء خليط العادات والتقاليد التي تم تمقصها فيما بعد من قبل الناس بمختلف شرائحها، هم السلطويون بالتحالف مع رجال الدين، لقد أنشأوا مع تقادم الزمن منظومة الخوف المقدس، وهذه المنظومة تتعامل مع الجديد من الأفكار والرؤى على نحو حذر، إذ أنها على تنافر وتصادم معها باستثناء ما يتعلق بتطوير هذه المنظومة وترسيخ الخوف كحالة واجبة ، ويجب عيشها والتماهي معها، وهي بالتالي تمثل ظل السلطة المستنير على الأرض كون الدين طريقة حياة ، وهو وعاء يحتوي قيم وتقاليد السلطة وكذلك التراث الشعبي والميثولوجي على نحو متكامل، حيث تحولت القناعات المتكلسة إلى وثن يرمز للرهبة، وكسر إرادة الجماهير من خلال محاربة الأفكار النهضوية ، ولعل تحويل حياة الشباب إلى نمط خاوٍ يرتكز على الفراغ، جعلت السلطة تتغول أكثر من
نافذة البطالة نمى لهذا الخوف أيدي ومخالب حادة، وكذلك تولدت عنه منظومة التقنع بالقدر، وبأن الملك لله يؤتيه من يشاء، هكذا تواطأ الخطاب الديني مع رجل السلطة، فكانت الأفرع المخابراتية على غرار المحفل الملائكي، إذ أن وظيفة كل ملاك مختلفة عن الأخرى، فمن قابض للأرواح إلى نافخ في البوق، إلى محدث للموتى في القبور وعلى نمطه تشكلت فروع الخوف في بلاد لا تقدس سوى الكبت والعنف، في تعاليمها ونصوصها المقدسة، حيث تمارس السلطة تقاليدها القائمة على الاعتقال والاغتيال، لتحقيق هدفها في تعميم الخوف، فكل من يطالب بحقوقه يتم تصفيته، بخاصة تلك الشخصيات التي لها صفة اعتبارية بين الناس ، حيث يكون الاغتيال من شرارات النقمة على الخوف، والذي يجند الجماهير عنوة للقيام بانتفاضتها، وهي ليست كما قال(6) توماس مور أداة من
. أدوات فن الحكم ، ووسيلة لتجنيب المواطنين العاديين مشاق الحرب التي كان قادتهم مسؤولين عنها
بل يعد الاغتيال وسيلة تحدي موج القوة الجماهيرية ، والتي ما تلبث أن تشعر بالاستعداء من خلال قتل السلطة لرمزها ومتنويرها، إذ تعد ناقوس نهاية لتلك السلطة مع الوقت، إذ يؤسس الاغتيال السياسي للفوضى النفسية لدى الناس، يعمل بطريقة ما على بروز تلك القوة المضادة والهادفة لتنوب عن السلطة القائمة، حيث لطالما كان الاغتيال بمثابة انتقال لمرحلة خطرة يسودها اللا استقرار والحرب، وهي بمثابة مؤشر للانتقال السلطوي، إذ أنها تغير وجه المرحلة كلياً، حيث

7
يعتبر الاغتيال ظاهرة وحشية تؤدي لاستقطاب أمواج الغضب والنقمة، والتي بدورها تضع السلطة القائمة على أبواب حدث مفصلي، حيث يسرع الاغتيال لتحويل الحقد إلى مذهب وإيديولوجية بين الناس والشباب خاصة، ويتجسد لنا بذلك حجم الخراب الروحي الذي تتشارك به قوى الاغتيالات في تدمير الروابط المؤسساتية، وترسيخ الخوف والغضب كعاملين مؤديين للفوضى الشاملة، لقد دأبت السلطة القومية على ترويج هذا الخيلاء والتهويم، بأحلام العروبة والتوحد والهيمنة وكذلك على تأصيل الإسلام السياسي وشرعنة الاغتيال والاعتقال، على تحويله لديانة سلطوية ذات إرث تاريخي، وحقيقة ، إذ جعلت المجتمعات تتماهى به مع الوقت، على حساب اهتمامها بالآداب والفنون والمواهب، على العكس تماماً، فقد شنت حرباً ضروساً على ميادين الجمال والفكر والفن، مستغنية عنه ومستبدلة إياها بعقل الاستخبارات المقوضة لإرادة الجماهير ، بغية تشتيتها وإخصاء دور معرفييها، لتجعلهم إما غائبين في الزنازين أو متعاونين،
إن عرض هذا النسق المعرفي من السرد لهو بمثابة دلالة واضحة على صعوبة الحدث وتعايشه، فالشعب لا يمكن أن يكون أجيراً لدى فئة سلطوية متحكمة فيه، إذا لم يكن الحاكم أجيراً لدى الشعب، ولهذا فإن الخوف يكون بمثابة الأفيون القائم ما بين الحاكم والمحكوم ، إذ يتعاطاه الكل إلى حد تتفسخ فيه المنظومة بفعل تكالب الخوف والعنف وكثرة المظالم والمفاسد إلى أن تنهار هي وتلك البنية الجماهيرية أيضاً ، إذ تؤدي الفوضى إلى تدمير كل ما هو جميل ، فقاعدة بقاء الديكتاتورية على مزعم أنها مبعث أمان وأمن، جعل الفئات
. المسحوقة تلجم غيظها إلى حين، فهي لم تك تدري أن ذلك اللجام لن يجدي أمام قدوم العاصفة الكبرى
فهنا تكمن حقيقة التصارع السلطوي على حساب الإنسان المسالم في بيئته ومن خلال طبيعة انتماءه، وطريقة فهمه لما يحدث في واقعه من انتهاكات وتجاوزات تمارس
ضده، وهو بالتالي محتوم عليه أن يعيش هذا الصراع في ظل نظام شمولي قومي لا يقر بوجودية مجتمع متنوع المكونات والحضارات، لهذا يجد في القمع والاغتيال وسيلة لضمان سطوته، إن خلق مجتمع العنف هو من ضروارات بقاء السلطة القومي اسلامية، كما هو في الآن ذاته مؤشر لسقوطها أيضاً، حيث اتخاذ الهوية العرفية أساساً لتقويض الانتماءات هو ما يمثل الولوج لمتاهة فوضى لا تنتهي، تطال الدولة وجوارها أيضاً ، ولعل الوضع السوري منذ 2011م أبرز انفجاراً فئوياً من داخل تلك السلطة ، أنتجت سلطة مضادة مشوهة تسمى بالمعارضة، لوحت بالأسلمة، والإرتزاق لأبعد مستوى، واستطاعت أن تمثل السلطة في شكلها المشوه، عملت على مخاطبة مريديها وجماهيرها من فوهة الخطاب الطائفي، محافظة على عقلية السلطة القائمة في حربها على الأعراق والأقليات التي تأبى المكوث في عباءتها العروبية، وقد تسلحت هذه المعارضة بتأييد اقليمي، يشرعن وجودها كبديل عن تلك السلطة القائمة، هنا نجد الصراع سلطوياً ، مع اتفاق مشترك بينهما وهو تحديث الذهنية القومية المغلفة بطابع إسلامي ظلامي يحمل فكراً حاقداً على المسيحية الأوروبية، إنهم باسم الحروب التاريخية وامتداداً لها يقتلون وينهبون ويقومون بتفتيت المجتمع إذعاناً لأهوائهم وغاياتهم في السلطة والنفوذ وشرعنة الإرهاب والفوضى، لهذا نجد ممارسة التعذيب في المعتقلات والاستجوابات ظاهرة سلطوية في تخريب النفسية الاجتماعية وجرها للفوضى والاستنزاف، كذلك جعل الخوف خبز المجتمعات المقموعة ، عبر التصارع الفئوي الذي كشف عن سوءاته وعلله بين شرائح المجتمع ، من خلال اللعب على وتر الطائفية أو القومية، كل ذلك أسهم في انهدام أسس التعايش السلمي بين المجتمعات وأفقدتها الحيوية مع تقادم الزمن ، أسس لسلطة زائفة تفتقد للمسؤولية والحكمة في إدارة مناحي الحياة، حيث تم وخز الفرد بالشعارات والأحلام الكبيرة الفارغة سوى بحلم المساواة بين الطبقات وكذلك وحدة الوطن الكبير، اعتبار كل من يغرد خارج النشيد القومي والانتماء الحزبي عميلاً يجب القضاء عليه ، والتفنن بالاغتيال وتبديد الخصائص الحضارية وإذابتها في بوتقة الصهر العرقي ، جعل الأفراد في حالة من الاغتراب والبؤس ، قادت الجماهير إلى ترديد شعارات الخواء ، وكذلك تكرست ظاهرة قطيعة المجتمع عن الحاضر وكذلك عن التمنية والتطوير ، حيث برزت السلطة الإيديولوجية القومية كامتداد لإرث الغزوات وابتلاع الأراضي وممارسة الإبادة الثقافية والسياسية، من خلال تعطيل فعالية العقل عبر وضع الخطوط والموانع وكذلك تخدير الجماهير بأحلام الوحدة واعتبار الأقليات مرض يستشري داخل السلطة ويشكل عائق يحول دون تحقيق الحلم، وكذلك فإن الوقوف بوجه التطوير الجذري للخطاب الإسلامي ، جعل التطرف هو المادة الأكثر عنفاً ورهبة والذي يتم توظيفه ليكون بديلاً عن عصر السلطة القومية ، هكذا أوجدوا ذريعة لبقاءهم وولادة ذرية أكثر شناعة تستبد بهم جهاراً نهاراً من خلال الدين المتطرف إن قداسة النص الديني من قداسة المسعى السلطوي في هيمنته على روح الجماهير وذائقتها ، لذا يصعب التغلب على ذلك الإرث من العلاقة التوأمية بين الدين والسلطة ، لهذا وجب البحث عن بديل عن ذلك الإستئصال، من خلل التحول الديمقراطي الحقيقي القائم على النهضة المعرفية، وإنعاش الأفراد ذهنياً من خلال فصل المعتقد عن الدولة والمؤسسات ، والإبقاء عليه في حدود الذات، لقد مشت الإيديولوجية القومية الشمولية على خطى السلف الحاملين عصي الدين والنص المقدس ليسفكوا من خلال دماء الأبرياء، فقد تم تفتيت الأوطان وحرمان الشعب الكوردستاني من حقوقه في الأرض واللغة والخصوصية المتمثلة بالدولة، لهذا نجد هذا الجوع والحرمان من القومية كونها وسيلة دفاعية ضد سلطات اتخذت القومية كحالة هجومية توسعية اجتثاثية ، غايتها طمس الجذور والمعالم التي تميز
شعباً عن آخر ولغة عن أخرى ،وهنا لا بد لنا من أن نتساءل ما أثر الأزمات العالمية والسياسية على طبيعة المجتمع،

8
أفكاره، قناعاته، تحولاته ، وكذلك أثر هذا النزاع على منظومته الفكرية والعقائدية، إن أجواء العسف والجور تنتج صنوف القهر والقمع الذي ينتج فيما بعد انتفاضات متعددة ، تتمحور حول طرق تحصيل الحق، إن معركة الحق تدعمها خلفية تاريخية تقوم الإيديولوجيات المعاصرة بتجميلها وتقويمها وإعادة انتاجها، بمعنى آخر تفصح الأزمات الاقليمية والدولية عن وجه جديد للجغرافيا غير المتجانسة ضمن شعوب خرجت لتوها من ربقة الخضوع للسلطة المركزية الشمولية ، لهذا كشفت معركة الحق عن بطلان هذا المفهوم وووهميته مع الوقت ، إذ تبين أنه وسيلة لإضفاء الهيمنة السلطوية شرعية أخلاقية وقيمية، تقوم على أساس تهويم الجماهير وخداعها عبر الشعارات التي تقودها القوى السلطوية التي اعتاشت ونمت وتجذرت بناء على أسس الدعاية النفسية من خلال التاريخ المستند على تجارب الحروب القائمة على التوسع على حساب انسحار وتمدد الطرف المقابل وانكماشه ، برز فيما بعد الانتماء لهذا التجييش الذي بطبيعته ضمان الاستمراية الحروب القائمة على الإبادة على مبدأ احتكار الجغرافيا والثقافة والمستقبل، تحول المؤمنون بهذا إلى وقود لحروب تغطي الوجه الأعظم للعالم، وكشفت عن شعوب هاربة بلا وطن ، تلاحقها فلول وجماعات الانتماء للوطن الكبير، مثالاً عن ذلك الوطن العربي، الفارسي، التركي ، الروسي، الانكليزي وغيرها عبر التاريخ، لهذا نجد أن ثمة صراعين حقيقيين ووطيدين منذ أوج التاريخ ، بين ثقافات الدم والهيمنة وبين قوى حضارية اندماجية استطاعت أن تدمج إرث المعرفيين في أنحاء الوجود في ظل عولمة ثقافية تراكمية تستمد حقيقتها من مفهوم التعايش والتآلف وتبادل المعارف، لهذا فإنه من المعقول أن نتنبأ بغلبة التعايش التشاركي المنصف بين الشعوب وفق أسس المواطنة الجوهرية على حساب انحسار العقلية الإقصائية ، والسبب أن الأخيرة لقنت ممتهنيها وضحاياها دروساً قاسية ومؤلمة تتمثل بعصور الحروب الدينية المقدسة والحربين العالميتين في أوروبا، وآخرها الحرب الكونية الثالثة المسماة بثورات الربيع العربي إن صحت التسمية فكان أن حدثت تلك الفوضى لتعيد الأبنية المقوضة ولتدك في الآن ذاته أبنية تمت لتكون بمثابة سلخ الإنسان عن حاضره ، فصل الكوردستاني عن لغته وثقافته وهي ترسيخ تجزأة وطنه عبر صهره بالعروبة والطورانية والفارسية، نتحدث هنا عن هوية تجد نفسها الأكثر قدرة في ظل فوضى السلطة على تجديد انتماءها لوطنها، وكذلك إعادة الحياة إلى نصابها المفترض والصحيح، فعلى الرغم من أن التساوي في الحقوق والواجبات قد يصبح مستبعداً في ظل لهث السلطويين الجدد (المعارضة) على تقاسم تركة السلطة المهددة بالسقوط، تسعى تلك الأخيرة لأن تكون وصية على منظومة الإقصاء والعسف، لتؤسس لواقع شعاره الفوضى, والانقسام، فغياب التنوع الثقافي وتهميش أدوار الفئات والشرائح وتمايزها عن بعضها البعض، هو بمثابة إعلان حرب عبثية على المجتمع الشرق أوسطي ككل، حرب تستنزف الإرادات ، وتحرّف بمسار التعددية ، لهذا فإن هدف كل هبة شعبية أو انتفاضة جماهيرية هو خلق مجتمع الرفاهية، وقوام تلك الرفاهية يستند إلى تحرر الإرادات من أشكال الرق الناعمة ، والتي فرضتها السلطة القامعة عبر الإعلام والتربية والتعليم، ناهيك عن تعدد الأفرع الأمنية واستخدامها لتكميم الأفواه وملاحقة أصحاب الرأي،
كيف يتم تخطي هذه العقدة والتي تراها المنظومة السلطوية ضمانة لتربعها على عرش السلطة وتدشينها لأبنية الفساد والاستبداد وتكميم الأفواه، إذ أنها دون القائد الرمز وألوهيته ، مهددة بالتلاشي، لماذا نجح العالم المتمدن في إسقاط من تسببوا بإيذائها عبر ديكتاتورية القائد الأوحد ، إذ أن أوروبا ذاقت الأمرين من موسوليني وفرانكو وهتلر ومن جاؤوا وهيمنوا على الحريات والرفاهية وسحقوا كل من واجه ذلك بالحديد والنار، إلا أنها في الشرق الأوسط تفصح عن وجهها الكريه بطرائق وأشكال شتى ، ولا يفعل الجماهير إزاءها سوى التصفيق إلى درجة مجنونة، يواكبون حركات وسكنات القائد، كامتداد ثيوقراطي عن نظرية الإنسان الإله أو النبي المتوج بالمعجزات، ومنه تأتي البركات، ويأتي النصر، لماذا جرى تهويم الجماهير من خلال عبادة القائد الرمز، واعتماده وثناً يدين له ضعاف العقول والمدركات بالولاء، لأنه يمثل السطوة ، والذريعة الأفضل لبقاء تلك الفئة المهيمنة والتي تتخذ من ذلك الخطاب الديماغوجي المخادع وسيلة ارتكازية للبقاء والاستيطان أكثر في عقول تقبلت الخضوع بسبب هيمنة القوة والخوف عليها،ما أبعدنا عن الديمقراطية وقبول الآخر ونحن أكثر المتحدثين عنها، إذ أن الأرتهان صناعة شرق أوسطية تطورت عبر كم هائل من التعاليم الدينية التراثية على هيئة الخضوع للأقوى الباطش، الذي تدين له النخبة الجائعة والمصابة بالتسطح والشلل الذهني ، إزاء عجزها عن فهم طبيعة الواقع ومتغيراته،إذ تذهب لأبعد من تكوين منظومة شمولية جديدة تستطيع أن تغازل وتمتص غضب الذين خرجوا لمناهضتها، نحو تشكيل جسم ثقافي مدافع عنها وعن ذهنيتها، وهذا هو البديل المقترح في واقع تلك الثورات المخصية في الشرق الأوسط ، فنحن أمام تغييرات نسبية يمكنها أن تحقق إنعاشاً جديداً في مسيرة الشعوب وسير سلطاتها الجاد وراء التعيير المفترض أن يكون وطيداً في ذهن هذه الشعوب قبل أن تتجسد في ملامح منظومتها الحاكمة، إن لعبة الانتماء حاصلة وجارية على قدم وساق، تأليب الناس على بعضها باسم الأمجاد القومية التاريخية أو الدينية ، هو تأصيل للقائد الرمز، الذي يعتبر الوثن المعاصر الذي يربط الجماهير بماضيها الأرعن، ذلك الماضي المبتدع لأغراض سلطوية بحتة ، وهو شل حركة المجتمع، وتفكيكه، ليسهل العبث فيه وبخيراته وموارده، بقي القائد الرمز بمثابة الكابوس الذي يصعب الخروج عن منظومته المحكمة والقادرة على زج الملايين في المعتقلات، وجعلهم إما نازحين أو ميتين تحت القصف، لم يدخروا طريقة لترهيب الشعوب، وجعلها قطيعاً ، لهذا نجد ذلك الوجع الغائر ، حيث استندت تقاليد النظام الشمولي في


9
الحكم على جملة من تقاليد دينية المنشأ في الحكم، تعد وظيفية للسيطرة على الجماهير وطريقة مخاطبته، تعتمد على زرع الرهبة والخوف من الحاكم الذي بيده مقادير كل شيء وهو على كل شيء قدير، تمت أنسنة السور الدينية المقدسة
لتجري بانسيابية في خدمة الحاكم القائم بأمر الله، هكذا جرى تطوير هذه الذهنية مع توالي العصور، لهذا فإن أشد ما يوغر صدر القائد الرمز هو انتقاد الآخرين لأدائه وتصرفاته المريضة، ولعل ذلك مهد لترسيخ استبداد ممنهج عانت منه مجتمعات الشرق الأوسط، إذ أن تمجيد القائد الرمز مثل ذلك الخطر الماثل الذي يصعب مواجهته، كونه يخفي في طياته حقداً غريباً على المتنورين وحملة القضية ، ممن يشيعون الرغبة في التغيير والإصلاح، لهذا بات مفهوم القائد الرمز الذي يقحم نفسه في الشاردة والواردة في كل مجال وميادين المؤسسات بمثابة تلك اللعبة السياسية البائسة لتعليب كل شيء وتحويله إلى قيمة بليدة.، وما سياسة القطيع إلا شكل من أشكال ترسيخ العبودية والفوضى وكذلك تسهيل للفساد والعنف، حتى بإمكاننا أن نسميه تحريفاً لمفهوم القيادة التي تعتمد على الدراية والتشاور ، لهذا فعندما توضع مقادير الأمور كلها بيد شخص واحد ، فبمجرد اختفاءه أو سقوطه، يسقط كل منجز ويتقوض كل بناء، بسبب ذلك الاحتكار السلطوي الذي هو تلاعب بإرادة الجماهير، وتهويم لها، لقد انبثق الطاغية من صفوف الجماهير التي اعتادت امتصاص كل خطاب ، دون التحكم به ، نظراً لانعدام قدرتها على إدارة نفسها بنفسها واعتمادها على الشكل الهرمي المركزي في إدارة حياتها، لهذا فمن الطبيعي أن يولد الطاغية المصاب بأشكال الجنون والعته فيتصرف كإله على شعب هو مكلف أصلاً في خدمته وليس العكس، لهذا فتجاوز تأليه القائد بات ضرباً من الهراء ، في الشرق الأوسط، نظراً للهالة الدينية التي تقف وراءه، فكما تم تقديس الأنبياء والأولياء، يتم تقديس الشيوخ والقادة، ويستسلم الشعب للخطاب العاطفي المتشنج هاتفين بأعلى صوتهم ، لاعتقادهم بأن القائد هو بمثابة الرمز السري لغاياتهم وأهدافهم ، في حين هو ترسيخ لأبوية ومركزية الحكم داخل كل دولة أو حزب،فأن يتحول القائد إلى وطن، فمعناه حقاً هو تغييب الوطن وإظهار القائد، لأنه فعلياً بات أهم من الوطن، تلك الآفة التي نشرتها الذهنية الشمولية بين مريديها وقطيعها البائس، حيث تعلق الجماهير بالأشخاص والتصوف لهم هو بمثابة إفلاس حقيقي لقيم الحياة الحاضرة وبعد عنها، حيث يعيش الجماهير بؤس الشعار والمنطلق، ورادءة الفهم لمنهجية القيادة، إذ لا تعني تمجيد القائد الإله، بقدر ما تعني إلزامه بالخدمة أو إقالته إن تجاوز، حيث لا تستطيع الجماهير تخطي هذه الآفة بسهولة، لأنها متأصلة بمفهوم ارتباط القائد بالوطن، والذي بدونه تسود الفوضى ويبدأ التقسيم، إن تربية الجماهير على مبدأ الطاعة والخضوع لتعاليم القائد المقدسة، هو ترسيخ لاغترابها وتفتتها المعرفي، لهذا
لن يكون بمقدور هذه الشعوب أن تنتقل إلى طور الديمقراطية والرفاهية، كونها محاصرة بالتابوهات المتعددة، والتي تنشد
سباتها العميق، فمن الطبيعي أن يعم الاستبداد والفساد الممارس تحت يافطة القائد الرمز، رب البيت، ووصاياه تعاليم لا يجوز خرقها ومع ذلك يتم خرقها بطرائق متعددة، إن ممارسة التذلل والنفاق السياسي هو من عمل هذه الفئة المتسلطة والتي لا تدخر خطاباً إلا وتصبه باتجاه الجماهير المكبلة بأغلال الشعارات والفقر والأمجاد الواهنة، لهذا تتشبث هذه الفئات المسحوقة بنظرية المؤامرة والأمن والأمان، حتى يعيش السلطان، في كل زمان ومكان، حيث تحولت نظريات الإستبداد كبديل عن ثيوقراطية الحكم الديني، وإن بدا لنا في شكله العلماني اليساري، أو الليبرالي، فثمة تقاليد قديمة لم تمس وتتجدد باستمرار لأجل تقويض روح التنوير والتغيير الجوهري لدى الشرائح الشابة، هذا الخوف لا يملك أسناناً لتهشم وتكسر العظام وتبتلع، لأن الشعوب بمقدورها تجاوزه، بمعنى أنه يحتاج لشجاعة ووعي كافيين لإزالته ،
حالة العجز التي يرافقها شعور الانتفاضة من واقع هابط بكل المقاييس ناهيك عن توسع الاغتراب وحالات الهروب من ذلك الوطن المتقمص تمثال القائد الرمز، والذي يضفي على الحياة طابعاً معتماً ضيق الأفق، لهذا نجد ذلك التوجه باتجاه الانتفاضة الجماهيرية كحالة اضطرارية أو بين فعل التفكير بالهجرة والابتعاد عن ذلك الوطن، تفادياً من الاعتقال أو
. الاغتيال الممنهج بحق النخب التنويرية العاملة في ميدان التغيير
حيث بقاء المجتمع في حالة خوف ورهبة مثّل ذلك الوجه المبشر باندثار قيمها ومن ثم زوالها ، الأمر الذي يسهل تفككها وانحلالها ويسهم أيضاً إلى نزوحها عبر موجات الحروب التي تنهال عليها فيما بعد ، نتيجة عجز منظومتها الحاكمة عن استيعاب حركتها واحتياجاتها، لهذا فإن أهم غايات السلطات هو استنزاف مجتمعاتها ، الأمر الذي يسهل التحكم بها ، مما ينتج عن ذلك زوالها بطريقة ما، وهو أيضاً هدف الثقافة الوافدة أو الدخيلة في امتصاص قيم المجتمع واستبدالها بقيم أخرى تساعد في إزالتها مع مرور الزمن، أن السلطة بكل قواها وأحاييلها لن تستطيع تماماً أن تسد كافة الثغرات التي تؤدي إلى مطلب التغيير والانفتاح على الحاضر بتغيراته المستمرة والفجائية، حيث يعرف المجتمع بكونه الحاضنة الرحبة لكافة الأفكار والمتناقضات والتي بدورها ألوان تتآلف نحو مطلب الرفاهية وتغيير السلطة ، وتتنافر عندما تتدخل الأخيرة في سبل حياتها وذلك حينما تدس أفكار الإقصاء وطمس الهويات القومية للأقليات كما فعلت السلطات البعثية في كل من سوريا والعراق، وسبقتها في ذلك الأنظمة الطورانية والإيرانية في إحكام قبضتها على مفاصل الحياة في كوردستان بأجزاءها المحتلة من قبل هذه الأنظمة، حيث غياب هذا التعاقد الطوعي ما بين الجماهير والسلطة ما يمثل حقيقة الخطر المحدق ليس على الإنسان وقيم المجتمع فحسب بل على الطبيعة برمتها، إنها ذرائع تاريخية للحروب الجديدة والتي تتصف بسرعة تفاقم الأزمة وعدم انحصارها في رقعة جغرافية محددة، لتتعداها لمناطق آمنة ، ولابد من الإشارة هنا إلى معيارية التفكير الذي يقودنا بطبيعة الحال إلى حقائق تتجلى بالتواصل مع الأشياء والاستدلال من خلالها إلى طرائق عيش البشر ونظراتهم

10
انعكاساً للمنظومة السياسية التي تتحكم بهم وبردات فعلهم،
هل نحن أمام وهم المجتمع،هل بإمكاننا القول أن المجتمع هو وهم يتربع في عقولنا، هل له وجودية، نجد المعالم الفردية تطفح بالكثير من الأشياء التي يقف المرء على خلاف نقيض معها، وإن رأينا المجتمع كقوة نجده من خلال الإنسان الفرد،يستحيل أن نجده مجسماً على هيئة أفراد مختلفي الأعمار أو الإتجاهات، في خضم صراعات تتوالد ولا تتوقف، لهذا نجد أن الخيوط المتشابكة والمتنافرة في الحياة، هي التي لا يمكن قولبتها في إطار إيديولوجية محددة ، كونها تدخل في إطار بث المزاعم وإخفاء النوايا، لأن غاية الصراعات ومبدأ المجتمع مؤسس على فكرة الاستحواذ والهيمنة التي تقوم بها السلطة المتنفذة لإبعاد خصومها، ما المجتمع إلا إفراز لما نسميه بالسلطة، وما تذمر المنبوذين إلا مسعى غير مباشر لسلطة مضادة، حيث يتجسد المجتمع كونه مضخة انتاج الأزمات والسلطات حسب مدى وعيه وتجاربه وقدرته على الاندماج بالجوار ، بدل من أن يظل وقوداً تاريخية لحروب وجشع المتنفذين،حيث تضمحل قيم المجتمع وثقافته بفعل عوامل الإبادة وممارسة إلغاء أدوار أفراده المعرفيين القادرين على إخراج المجتمع من طور الأزمات إلى طور الإنعاش والاندماج النهضوي بثقافات الجوار وكذلك من خلال الإعلام والتبادل المعرفي يمكن القضاء على الاحتكار الربحي الذي يحاول دوماً جعل المجتمع مضخة تجند الأفراد لصالح نوايا المتحكمين فوقياً بكل شيء، هل يمكننا أن نقول أن ثمة مجتمعين يتصارعان ضد بعضهما على الدوام وهما مجتمع السلطة والذي يمثل الخلية الصغرى المتحكمة بالمجتمع الأكبر وهو الأفراد والفئات التي تعيش وتتعايش كما أنها تتنافر وتتنابذ وفق تأثيرات المجتمع الفوقي السلطوي على تقاليد وسير الفئات الإجتماعية بشكل ممنهج، هل يصح تسمية الفئة الحاكمة بالمجتمع الصغير والذي يتصف بتأثيراته المتجلية في سطوته ويده الطولى المتحكمة اليوم بالإعلام والجيش، والاستخبارات ،افتراضاً إن صح ذلك فهذا يعني أن التصارع يمثل
. حقيقة الوجود، ولا جمال في حقيقة هذا الصراع سوى كونه استنزاف لطاقات الإنسان والوجود معاً
نجد أن تبدل النفس هو تعبير عن تقلبات الحياة وأوجاعها في ظل المجتمعات المسحوقة والتي تعاني من الاستبداد والفساد على حد سواء، لربما ثمة علاقة ما بين طبقة المسحوقة وأخرى تعيش في القاع ولا تهب سوى لذة الجسد كوسيلة لتناسي الوجع القائم والذي لا يتم تخديره بل سرعان ما يطفو على السطح ليتعانق مع وجع الخارج ولهذا نجد ذلك الغموض في الحديث عنه حيث البكاء أولاً ومن ثم الرغبة ، وما بينهما عالم من الأشلاء المتحركة ،لطالما كان الخوف هاجساً لحياتنا، يغزو كافة احتمالات بقاءنا وتعرضنا للفناء والاندثار، وكذلك ضياع الهويات، يمثل الهاجس الأكثر تضخماً لدى شعوب اعتادت على الصهر والإبادة والقمع على مر ظروفها التاريخية، وتحولاتها الاجتماعية، وكذلك يعتبر التسليم بالخوف والإيمان ببروزه في حياة المرء هو نوع ناعم من الكارثة الإنسانية والمأساة التي ينفرد الإنسان بعيشها في خضم كون متشعب وشاحب، وكون منجز الإنسان المعرفي غير قابل للإندثار كونه يصبح جزء من جمال الوجود الآسر ككل، فإن الخوف يمثل تلك الكبوة التي تواجهه عند كل عمل يقوم به، ولعل الخوف يجلب في طياته الشعور بالقلق وكذلك يدفع المرء لمزيد من الحذر المفرط ، ليصبح أقرب للجبن، والجبن هنا يحتوي في قيمته على العهر والإسفاف بقدر الموجودات وقيمتها في حياة المرء، فإن ما يدفع الجماعات البشرية إلى التفتت والانقسام هو عامل الخوف الذي من شأنه أن يودي بأي عمل أو حتى انتفاضة نحو محرقة الهلاك، ما يشي عن علائق مضطربة ما بين الإنسان الكوردستاني وقدره ارتباطاً بحقبة التقسيم تلك والتي جرت عام 1916م-
لعل هاجس سايكس بيكو لم يغب في أذهان الكورد ، إذ أنه ومن خلاله تم تقسيم كوردستان إلى أربع أجزاء ، لتكون الوحدة ضرباً من المحال، حيث يعتبر الاعتداد بالخصوصية والأرض واللغة، عماد الحركة الحضارية لكل شعب عبر التاريخ، للحيلولة دون الزوال والتلاشي، لهذا نجد المعركة هي ضد رهبة الخوف والموت معاً على حد سواء لهذا فإن الانتصار على الرهبة يمثل وعياً جامحاً لا تستطيع أن تتصدى له عنجهية صناع الموت بأدواتهم الرنانة تاريخياً وفنون تعذيبهم واعتقالهم، والإصرار الأكبر من الفئة المعرفية المستنيرة يكمن في التصدي للتشاؤم والاغتراب الذي تمخض عن العبودية والتحكم بالجماهير، والتأثير على نمط تفكيرها وذائقتها، ما هو واضح فإن أعمال السلطة القامعة وتحايلها على الجماهير هو انتصار للموت على الحياة، وكذلك هو تسليم بالخوف ، إذ يخاف السجان والمسجون معاً، يشتركان في حالة عدم الثقة والكراهية المتبادلة، لهذا نجد نجاح ذهنية الموت الواقف بالمرصاد لتطلعات وطموحات المعرفيين في نشدان الحياة الأفضل، يستمد هذا النجاح مصداقيته من جملة الأطماع والمفاسد التي تنحاز للأنانية السوداء الطامحة لغزو العقول والجغرافيا، وكذلك تدمير روح الانتماء للأرض، ناهيك عن الكوراث التي تفرزها من تلوث بيئي وتشوهات في بنية الوجود والموجودات ، ولكننا نجد أن الموت عدا عن كونه نشدان وتطلع سلطوي للإبادة والهيمنة ، أنه معنى فلسفي منحصر في علاقة الإنسان بالمجهول، إذ يستدعي الإنسان الخوف من أشياء قد تسلبه الطاقة والإرادة والحيوية، لهذا نجد أن الموت والخوف لصيقين بالإنسان أيما التصاق، فحينما يسيطر الخوف على مناحي الحياة ، فإنه يسلب من المرء إرادة البقاء والحركة، وهذا ديدن السلطويين في التفنن بأساليب بثهم للرهبة، إذن فبتجاوز الخوف يتم تجاوز الموت والشعور به أثناء الحياة، حيث يتم التعبير عن المقاومة لكونها رفض لطقوس السلطويين في صناعة الموت ، ولعل ذلك يمثل أحد تطلعات الأدب والفن والفكر ، بوصفه ثالوث مضاد للجهل والعبودية والهيمنة، إذ بتسلطينا لثنائية الخوف والموت عبر نقدنا للسلطة القامعة، يمكننا معرفة مسوغات أدلجته بغية تجنيد الجماهير

11
وتحويلها لأدوات لتمجيد السلطة وتمويه نواياها، كذلك فإن لتهويمها من خلال إثارة أحلامها ودغدغة مشاعرها أثر في ترسيخ الخوف والموت، إن تحول الجماهير عن مهمتها الطبيعية وهو نقد السلطة إلى مهمة تمجيد السلطة، هي أولى المهام التي نجحت السلطات الوليدة عما سبقتها في تحقيقه، حيث سقط الموت عن كونه حدث ينتهي بموت شخص، وإنما لهذا الموت الذي نتحدث عنه ظاهرة تتعلق بسبات الناس، وسرقة أحلامها وتطلعاتها للرفاهية وتحقيق عالم أفضل ومجتمع معرفي، حيث كانت لمعاهدة سايكس بيكو أثراً أبلغ سلبية على الشعب الكوردستاني، إذ ساهمت في إيجاد الأرضية
المناسبة لسلطات ليس في قاموسها سوى الحرب وطمس الجذور وفعل الإبادات، وكذلك استخدام الموت والخوف كوسيلتين لتأصيل بقاءها على حساب دمار المجتمع وتشتيت أفراده وتصفيتهم، إن أثر الاتفاقيات الدولية التي تمخضت عن فترة الحربين العالميتين، ساهمتا إلى حد كبير بالحروب الأهلية التي تعيشها مجتمعات الشرق الأوسط، لهذا فإن إعادة تهيئة المجتمعات لأجواء أكثر وعياً واستنارة، تحتاج لوقت وزمن غير منظور لإعادة ترتيب العلاقات وتنميتها بسبل صحيحة، ولكن ذلك بات ضرباً من المحال، إثر تأصل إرث وتقاليد السلطة في ذائقة الجماهير ووعيها الجمعي، إن توالد الخوف والموت في تلك الذهنية، هما الأسوأ على صعيد الحياة المشتركة المرتكزة على ثقافة التسامح والاختلاف وقبول الآخر، حيث يرمز الخوف لأخطار محدقة قادمة ويستحيل تفاديها إن تأخر وقت تداركها والتصدي المبكر لها قبل اندلاعها الفجائي والمدمر، حيث تقوم إرادة الإنسان أمام سيل الفوضى القادمة ، لتجعل حالة الصراع أكثر استدلالاً بماهية تلك الحرب التي تشن لتدمير جمال الوجود ومنجزات الإنسان المعرفي الذي يبدع وينتج أمام محاولات الذين يقوضون مناحي الحياة عبر حروبهم العبثية، ويقف جوع الإنسان وحرمانه حائلاً دون بلوغ الكماليات جوع الشرقي إلى الأمان وإلى الجسد، وكذلك جوعه للحب ، كل ذلك جعله بموضع الإنسان الهائج الذي يبحث عن أشياء تداري وجعه وحرمانه، وصف أبيقور(8) المعرفة بعلاج للنفس ،لنتأمل لأي حد مجتمعاتنا الشرق أوسطية تحتاج لهذا النوع من العلاج، هذا الخوف الذي بات مع تقادم الزمن إيديولوجية موت وسحق لذات الفرد واغترابه عن الحاضر ، إذ يجد (9)فرويد أن هيمنة الرجل المستبد على الإناث على نحو جنسي أدى ذلك إلى قيام أبناء الإناث بقتل هذا الأب المستبد وأكله ومن ثم بدأوا يشعرون بتأنيب الضمير إزاء ذلك فحرموا عن أنفسهم إناث الجماعة التي كن السبب المباشر في قتل الأب، هذه الأسطورة الطوطمية باتت راسخة في صميم الحياة وفي تقاليد بيت السلطة، على نحو ثقافي واجتماعي جعل المجتمعات تتأثر بدواعي العنف ومسبباته، هذا الطابع التخييلي لنمط علاقة المجتمع بالسلطة الأعلى يعد بداية لفرضيات مشابهة تجسدت في الآداب والفنون، ناهيك عن كونها محرك ومقود صراعات السلطة في إحكام قبضتها على الناس وكذلك ردات فعلها الذي أسهم فيما بعد في إحداث تغييرات جمة في نمط التفكير والأسلوب والذهنية، فهل ننظر للخوف باعتباره غريزة طبيعية كما ننظر للهيمنة، وبذلك نشرعن لهذا الصراع المدمر والذي يقف على طرف نقيض من الإبتكار والرفاه،؟!،فالرافضين للتنوع الثقافي والتعايش السلمي، هم العثرة الصلبة بوجه التغيير الاجتماعي، إن غياب التطلع والطموح يعني نجاح السلطة في تحقيق بقاءها، هذا ما تشير إليه الأنظمة الشرق أوسطية والتي تسطيع المراوحة في مكانها في ظل اختفاء طموح الجماهير في استبدالها وتغييرها أو إصلاحها، إن ما يقف أمام التطلع والطموح هو الخوف في أشكاله الباردة والتي تشبه الموت، حيث يذهب أبيقور في القول :”حينما نذهب إلى القول بأن اللذة هي الغاية،فإننا لا نعني ملاذ المتهتكين واللذات الحسية، كما يفترض البعض ممن يتصفون بالجهل،أو يخالفوننا الرأي أو لا يفقهون ، إنما
" نعني التحرر من الألم في الجسد أو الاضطراب في الذهن
لهذا نجد هذا الشرخ قد تم إحياءه فما نراه من خلال هجرة الشرقيين إلى الغرب هو بروز خوف غربي ناتج عن هذه الهجرة، خوف مشروع على الثقافة والتربية الأوروبية، من ثقافة متردية مضطربة جعلت التطرف خبزها ومادتها الخام ، حيث ثمة واقع عصي على التجاوز يتجلى بطبيعة النظم الشرقية الاستبدادية، والتي جعلت الخوف عماد كل تربية يتلقاها الإنسان المقهور، فلا يبدو الإنسان الشرق أوسطي سوى كائناً خائفاً حالماً، يعيش في برجه العالي الخانق ،فلا إرث ملموس يفخر به، سوى ماض لم يتعرف عليه وفق رؤية واقعية، يمكن معرفة الخوف من خلال التقديس الذي يحيط الفرد منذ طفولته، إذ يتلقى تربية قائمة على الولاء التبعي للماضي وقيمه ، دون أن تتمحور الذات باتجاه رفض حقيقة قائمة قد تحمل معها أوبئة ،فيكون المقدس مدنساً، وغير قابل للحب أو الحياة، مع ذلك فإن نمط الفكرالقطيعي وتلك البرمجة الميكانيكية للجماهير جعلت من عقولها أكثر قابلية للامتصاص منها إلى التفكير والتدبر، فهي تتقبل كل خطاب مهما كان طالما نابع من الجهة التي يتم تقديسها وفرعنتها، لهذا نجد ذلك الشرخ حقيقياً وليس مجرد ورم يتم استئصاله، فطبيعة الموروث الثقافي لدى الإنسان الشرق أوسطي قائم على الخوف والتطرف، فلا يمكن إزاءه أن يفعل التمرد فعله في الانتصار على إرث سلبي قائم على تلقف المواعظ والتعاليم والأفكار، وحمايتها، دون النظر إلى محتواها ونتائجها على الحياة المعاصرة، إنها العزلة الاجتماعية بأقسى مظاهرها، ولعلها تتنقل بالفرد إلى كل مكان، فالإنسان النازح إلى مجتمعات الأمم الحرة ما يبدأ في بدايات مكوثه أن يعيش ذلك الصراع البغيض بين نفسه التي تعيش في معاناة الأمس ومرارة اليوم، فلا يجيد الاستمتاع بحاله الراهنة، هكذا يحمل المهاجر الشرق أوسطي روح بيئته معه أينما حل، حيث مرد تلك العزلة إلى تلك الذات التي عانت الكثير، وعاشت الخيبات المتوالية، ولم تتداركه بعد في البلاد الجديدة التي يلتجأ إليها، مما لا شك فيه أن ظاهرة الهجرة هو بمثابة هروب من الخوف والموت في آن ، لهذا فإن له نتائج على البلد المستقبل، إذ أنه يحمل في داخله
12
تساؤلات حول تلك الفئات الهاربة ، هل ستندمج وتكون سبباً من أسباب الانتعاش الاقتصادي والتنوع، أم ستكون عبئاً عليها، ولاشك أن ظاهرة النزوح قديمة قدم الحروب والإبادات التاريخية، ومن خلاله تنشأ المجتمعات وتتحول، إذ مع الوقت يتحول الوافدون إلى سكان أصليين ، ويشكلون جزء من هذه الهوية المتحولة من مكان لآخر، لقد غطى الموروث الديني الذائقة الشرق أوسطية وجعلت حياة الفرد مهددة بطرائق شتى، وسيطر الخطاب القوموي الإستعلائي إلى الجانب الخطاب الطائفي على نمط أنظمة الحكم فيها، والتي قادت البلاد برمتها إلى نفق مظلم، إن طبيعة النظام السياسي الأمني جعل المجتمعات متفككة لا يجمعها سوى رباط الرهبة والخشية من الاعتقال أو الاغتيال، فتلك العلاقة ما بين الفرد وحاضره، ظلت لعقود تتأرجح ما بين الاضطراب والتمرد الشاذ، إذ سرعان ما أجهض هذا التمرد عبر التلاعب به وزجه في أتون أجندات إقليمية ودولية، لعبت أدواراً شتى في إبقاء طغمة الفساد والظلم على ما هي عليه، فالخوف بات لزاماً على الفرد، لأن في دينه نصوصاً تحضه على الخوف والخشية، ليأتي خطباء الجوامع ليسهلوا من عملية الخضوع تلك بأن يكون تقوى الحاكم من تقوى الإله، وكذلك فإن الإخلاص للأنبياء والصحابةوالأولياء والشيوخ والزعامات الدينية السياسية، واجباً بل طريقاً إلى الجنة، يتم التلاعب بالإنسان وبكرامته والاستخفاف بعقله في حين يتم العناية والاهتمام بالحيوان في الغرب بل وفي إعطاءه هوية خاصة به، حيث هناك شعوب تجاوزت عقلية الإقصاء والتخلف إلى جانب شعوب نازحة تحمل كل التخلف والإقصاء لتمارسه فيما بعد وتنقله لأبناءها، وهنا مكمن خوف الغرب من الهجرات القادمة من أماكن الحروب في أفريقيا والشرق الأوسط وأفغانستان، إذاً لماذا يعتبر في عرف العربي أو التركي أو الإيراني أن تقرير المصير لكوردستان، أو النظام الفيدرالي لها قد يهدد وحدة أراضيها ويعرضها للسقوط في حين تقوم الحكومة
. البريطانية التي تعتني بالثقافات بإنفاق ما يعادل 250 مليون جنيه،كي لا تزول لغة كلغة الغال، فما ماهية هذا الخوف الذي يجعل المنطقة كلها في اضطراب وبؤس، نتيجة هذا القمع والاقصاء، فخوف الغرب على شعوبها هو دعامة للحياة والازدهار، أما الخوف في الشرق الأوسط فيمثل ناقوس العاصفة الكبرى، التي تختزل في طياتها نماذج عن العنف والجنون البشري الذي مر على البشرية في الحقبة المعاصرة والمتمثلة بالحربين العالميتين، لهذا نجد أن الرؤية المعرفية في تحليل هذا الحدث الذي يشغل الفراغ اليوم، هو نتيجة احتباس هذا الذهن واستقباله لكل أدوات تفعيل التأجيج بصبغتيه المذهبية والقوموية، ولعل ذلك مثل الانتكاسة الأخلاقية التي تعانيها هكذا نظم ، وتسيرها أجندات دولية، تتحكم بأقدار هذه الشعوب، حيث تتفتت الدول وتنقسم العصبيات المحلية، وتتجلى الأزمات المتصلة بالفساد والاستبداد كبديل عما سبقتها من نظم وهكذا يعم العنف الذي لا يحقق نقيضه كما تدعي جدلية الصراع الماركسي حينما تخوض في العنف وتراه شكلاً من أشكال الخير السلبي، إذ يتوالد العنف إثر طبيعة لهث ذوي المصالح للربح والتحكم بالمقدرات، نتيجة ذلك تتشرذم طاقات الشباب، ليتم تجنيدها كوقود لمعارك عبثية، حيث تشهد الدول لوقتنا الراهن بسباقات تسلح استعداداً لخوض معارك لا يحكمها منطق تنويري، سوى عن كونها تبريراً لرغبتهم في السيطرة والاحتكار والربح، دون تحمل أعباء مسؤوليات أخلاقية أو ماشابه، لعل الأزمات اليوم برمتها تتفق على شل اقتصادات الدول، تأزيمها، وفرض الوصاية عليها
تأجيج الأكثرية على الأقلية من خلال معاهدات قسمت مجتمعات وسلمتها لرحمة أنظمة لا تجيد سوى القمع والإرهاب، ليتم تأجيج الأقلية ضد الأكثرية، لبناء نظام التفتيت الجديد، والذي يعاني أيضاً من مشاكل ومعضلات تتفاقم مع الوقت، حيث أن ثالوث العنف والإرهاب والسلطة ، يتم استخدامه بوصفه قالباً متجدداً في ربوع العالم المهمل حيث يتم من خلالها إعادة ترسيم الحدود بما يتلاءم وحاجات الدول الباطشة
حدوث ذلك الاغتراب مهد لضياع مختلف في مجتمعات تتصف بالمدنية، فحاجة النازح اليوم هو الحصول على فرصة الأمان ، الضائعة في أوطان تنعدم فيها الطمأنينة ويسودها العنف والذي بات خبز هذه المجتمعات، حيث أن العلاقة ما بين العنف والسلطة، هو ما مهد لقيام كيان الخوف على طول رقعة الشرق الأوسط،والذي . أعطى دليلاً واضحاً عن طبيعة الحياة القائمة على الضياع والانحلال والفوضى
حيث أن مشكلة الموت في هذه الرقعة لا تنحصر على كون سماء وأرض هذه المنطقة حقل تجارب لمختلف أنواع الأسلحة فحسب، بل لكون الموت قد فاق حجمه الطبيعي، وبدأ يستوطن الوجدان الجمعي وإدراكاته، فهاهم المريدون ومتصوفوا الأحزاب ، يؤلهون القادة والزعامات جنباً إلى جنب مع مريدي الطرق الدينية وشيوخ التكفير، وهنا تكمن وحشية الموت وقدرته الفتاكة على نشر الخوف بطرق معاصرة تجعل العقل في حالة تنويم دائمة فلا تتماشى الفلسفة مع رغبات السلطوي في التحكم بعقول الجماهير، ولا تتماشى المعرفة المتمردة مع التعاليم المحنطة، ولا تستقيم مع القناعات المؤدلجة التي هدفها الهيمنة على النخب الشابة واستعداء الطفولة واستثمارها بشكل فظيع في حالات الحروب، بالرغم من تلك المحاولات الحمقاء للتلاعب بالمصطلحات وإلباسها مبررات تتعلق بالفضيلة، فمعرفة المشكلة تكمن في السعي لقراءة بداياتها، ولعل توظيف العلل البشرية واستثمار التهويم هو ما يجعل التوحش آفة الإنسان الحالي، فلا خيار
13
سوى الحروب من جهة والنزوح من جهة أخرى بمباركة الفساد والاستبداد، وما ذلك سوى تجسيد أبله للضعف البشري، وعجزه عن المسير بخطا ثابتة لحياة أفضل لا تسودها النزاعات المدمرة، لعل الهروب هو بمثابة آلية دفاعية ضد الموت وقسوة الحياة، اعتماده يعد بمثابة اللعبة المتداولة ضد تلك الوقائع البائسة تلك التي تعد بمثابة حقائق عن الوجود ، الممتلأ بالعثرات والنقائض، حيث اننا نفقد مع الوقت قيمة اللحظة التي نعيشها بمجرد مرورها، الماضي لا يبرح ذاكرة النازح الذي اختار المنفى كتعبير عن عظم الهموم لديه، لهذا فالخوض في إشكالية الهجرة والتنقل لابد وأن يقودنا لمسارات فلسفية تعيدنا لموضوعنا الذي نتحلق حوله وهو الخوف والموت ، الذي يعتبران حدثاً واحداً يقودان المرء إلى المزيد من التأمل في أوجاع النفس ومآلاتها مع الزمن، إن ذلك يسهل من عملية البحث عن الإنسان الكوردستاني في متاهة القمع والخوف إلى قدرة على اختراقه، وكذلك فإن المنفى يعتبر الجانب الآخر من حياته ، إذ يعيش في داومة مختلفة عن التي داخل البلد، هنا لا تفارق الذكريات والمواقف الماضية نفسية من هاجر ويعيش بقايا ما علق في ذاكرته، لطالما كان الخوف من الموت أو الانصهار أو التلاشي ببروز هيمنة الثقافة الواحدة على مجموع ثقافات وكذلك محاولة قوة سياسية معينة على إبادة مجموعة بشرية هاجساً كبيراً لدى الأفراد والنخبة المدركة منها على وجه الخصوص، لهذا بات خطراً قائماً يجب التفكير به أينما حل المرء ، إن في الوطن أو خارجه، ولعل ذلك مثّل نوعاً من التحدي المخالف لتقاليد
الهجوميين في طمس الآخرين بغية اجتثاثهم، لهذا نجد أن الفرد في ظل منظومة الإقصاء ، ينقاد إلى ما يجعله يتهرب من
حقيقة حياته القائمة على القلق والخوف، ولعله لا ينفك عن ذلك حتى في لحظات عيشه في المنفى، فلا يمكن أن يتنصل سريعاً من كل ما عاناه، لربما يعيش هناك على أنقاض حلمه المنتهك في شرقه البائس،حيث لطالما ثمة تناقض بين الفردية والاستبداد، فإنه يدعونا لأخد موقف من استبداد الحدث على النفسية والسلوك، وهذا الصراع العنيف بين الأفكار يدعو المرء للإنسلاخ والتمرد عن واقعه ، وذلك باستبداله بواقع عيش آخر، حيث أن الفردية تبدو وكأنها عبء على الذات، حينما تستقل من فلك الجماعة وانتماءها فرغم حيز الحرية والتعبير والتفرد، نجد تلك الرتابة وتلك الحيرة المستوطنة الأعماق، فهذا التكامل في الذات نجده متشظياً لا يقوم باستيعاب كل شيء واحتواء أي شيء، فهذا الامتثال للرابطة الاجتماعية أكثر تنظيماً ومنهجية مقارنة بواقعها الصدأ في بلادنا، حيث يعيش المرء في حالة من مواجهة الفوضى والتي ترتكز في نشوءها على معاداة قيم النهضة الجوهرية، والانتعاش الحقيقي لمجتمعات تتعرض للسحق والإبادة بمختلف الأشكال، هنا لا وجود أصلاً لتلك الفردانية التي تمجدها دول العالم المتمدن، فلا يسلم مجتمع من مآزقه وأزماته على صعيد العلاقة بين الرجل والمرأة، حيث تشبث المرء بفرديته وأنانيته، أولى بالطفل الذي يعيش دون والديه، في حين يتم تطبيق القانون الذي أعطى دوراً لقيم الفردانية، فكانت الرعاية واجباً دولتياً، لتغدو قيم الفرد المركز بالنسبة لطبيعة الحياة برمتها، تلك الطبيعة القائمة على أفعال المجتمع وتصرفات أفراده، في حين يغدو القانون بمثابة العصا الناعمة والتي تردع هذا وذاك وتبيح لهذا وذاك ممارسة سلطة معينة ترتبط أكثر بأشياءه وعلاقاته مع المحيط والمؤسسات، فعلى الرغم أن الفردية كانت بمثابة ثورة في أوروبا ينعم من خلالها الكل بثمرات الحريات والحقوق والواجبات وحق الاعتقاد، إلا أنها لا تخلو من إفراط بها لدرجة الأنانية والتعاسة الجوهرية، رغم تحررها من خليط الأفكار الشمولية التي تمادت هي الأخرى في التشبث بالضمير الجمعي للمجتمع لدرجة التطرف، فالخروج عن الجماعة والتمرد عليها سيفتح الباب على التغيير الجوهري، وذلك استناداً على جدة الأفكار وحيويتها، وعدم استسغاتها للتصوف والتقديس والتمجيد وما على شاكلة ذلك من مظاهر الولاء ، هذا التمجيد للأنا دافعه تلك الرغبة العميقة في خرق الرتابة التي تجعل المرء آلة خارجة عن وعيها الإنساني بالأشياء، حيث لا يمكن للمجتمع الشرق أوسطي أن يحذو حذو الأوروبيين في السير نحو الفردانية على نحو تقليدي، حيث يلزم ذلك ،هذا الرفد الثقافي والذهني لأجل اكتمال هذا المسعى، فالتحولات تستلزم جوهراً فذاً قابلاً للتغيير ومسلماً بأهميته، وذلك سيتحقق بصعوبة أقله في تلك الرقعة المنكوبة والتي هي هدف استراتيجي قديم للطامعين بموارده ، فتلك المواهب والمدركات إن بقيت حبيسة أقفاص الطاعة والولاء، فإنها تتحول لشر مطلق، لهذا كان من الضرورة أن تتجه هذه المجتمعات لعقيدة المساواة، والتي يلزمها الشعور بأهمية المعرفة والحياة الحرة، المتكافئة، حيث يعتمد المعرفيون خياراً أفضلاً في قدرتهم على التحلي بتلك الفردانية الرادعة للأنانية السلبية، وذلك بإيمانهم بمبدأ العائلة

14
السعيدة التي عمادها الحب والوعي، للحفاظ على راحة النفس والتي تعد مصدر بهجة الإنسان ورفعته، حيث يقول عالم
الاقتصاد النمساوي (10)فريدريك فون هايك(1899-1992) في كتابه (الطريق إلى العبودية) :” من أجل بناء عالم أفضل، علينا أن نمتلك الشجاعة للقيام ببداية جديدة، علينا أن نزيل العقبات التي ملأت بها حماقة البشر طريقنا مؤخرًا، وعلينا أيضًا إطلاق الطاقات الخلاقة لدى الأفراد، إن المبدأ التوجيهي في كل محاولة لخلق
" عالم من الرجال الأحرار لا بد أن يكون التالي: سياسة حرية الفرد هي السياسة التقدمية الحقيقية الوحيدة
لا يمكننا أن نسلم من حقيقة هذا التصارع الفكري الذي يقود بالتالي إلى بروز الأنا وذهابها باتجاه تلك الاستقلالية التي تعتبر في حالتها طريقاً إلى العزلة والشعور بالحرمان من عاطفة الرجل والمرأة متحدين على الأولاد، الفرد يحتاج إلى توافق العائلة، لأنها مرتكز لبناء كينونته في عائلة يجهد في البحث عنها ومن ثم تكوينها عبر الفهم والإيمان بأن السعادة قائمة على التآلف بالضرورة، فالمعرفة بأهمية اتحاد البشر ورقيهم في التواصل، هو سبيل لفهم الوجود المستمد قوته وطاقاته من ائتلاف البشر لا تنافرهم وتصارعهم، فحري بنا مواجهة الخوف والموت في كونهما يستوطنان ذواتنا في لحظات العزلة والمواقف الصادمة، حيث سعي الفرد للتوحد مع نقيضه في الجنس ، هو سعي إلى القوة والسعادة، وتجاوز شعور الفناء والرهبة من تلك العزلة، التي تسبب ذلك الاغتراب، حيث بيَن فون هايك أنه لأجل تعزيز الحياة الأفضل يجب إزالة تلك الحواجز التي تم بناؤها لإعاقة الحياة، وكبح جماح الطاقات التي تعمل لتنمية الحياة ، إن التعريف بالمزايا والمواهب يمثل الحاجة القصوى للموجودات والوجود ،لهذا كانت رؤيتنا للخوف بمثابة تجسيدنا لحقيقة آلالام البشر وتجاربهم المحبطة، والتي أسبغت عليهم شكل الموت وهيكله، ولم يعينينا الموت الجسدي الذي يعتمد على انتقال البشر من صورة إلى أخرى، بقدر ما عنينا به تلك المرارة التي يعيشها الناس وهم في حضرة أحلامهم وكوابيسهم، والأحداث المسببة للكآبة والقنوط، ما جعلتهم أشباه موتى،لهذا نجد أن الفردية بوصفها قوة معنوية روحية تقضي على اليأس والكآبة، لا تتحقق بمعزل عن تلك الحميمية التي يهبها المحبون والأهل لنا، ولا يتحقق هذا التآلف الوجداني إلا إذا تماهينا بالحب والمعرفة
على حد سواء، إذ يمر المرء بالخوف عبر مراحل تتطور لنصفها فيما بعد بتلك التحولات التي تسهم تحولاً إيجابياً بمقدار تنصل الآخر منها عبر وعيه، ضيق قنوات الحوار مع الآخر يسهم مع الوقت لتجذر سطوة الخوف وتمكنه من العقل والوجدان معاً، بينما نجد أن تبادل مصادر الوجع والعلل، تمثل البداية للخلاص، لأن ثمة عقلان متحدان لأجل النيل من سطوة الخوف وكسره، وانتشاله من جذوره، حيث ثمة معنى من هذه الإرادة التي هدفها تحقيق التصالح الذاتي، حيث أن الخلود للاسترخاء أو الموسيقا هو بمثابة الرجوع للذات في أرقى صورها، ليس ثمة ما هو أخطر من الموت المجسم بهيئة الخوف، إذ يحتاج إرادة معنوية واعية لقهره، فهو ليس أي موت ولاسيما أنه يتحكم بالأفكار وصيرورة الحياة وكذلك طبيعة التصرفات وردات الفعل التي تتحكم بالسلوك البشري ككل، حينما يكون الموت إيديولوجية أو دين، وتقف السلطة وراءه بل تستميت لتدافع عنه، تنشب مخالبها في عقول وأعناق مجتمعاتها عبر الخوف، وتقوم بتنجيد الشبان بطرائق متعددة لزجهم في أتون صراعات لا تنتهي، هدفها الإبقاء على هذه السلطة المقدسة قداسة الدين والإيديولوجية،وعلى الجانب الآخر من الخوف يكمن هذا التساؤل، لماذا أعيش، هذا يحيلنا إلى تفسير الخواء الذي يحصد جماليات الحياة في الأذهان، ويجعل الحياة برمتها عبارة عن خداع،حيث أن الصراع المتعدد الأشكال يدخل البشر في غمار ميادين لا حصر لها، تتعلق بولع الإنسان في إرباك الآخر ، وكذلك لا يدخر الآخر وسيلة لتعميق هذا الاضطراب، أيعد هذا دليلاً على طلب الإنسان للموت عبر ترويجه من خلال الخوف، وكذلك فإن ما يفرزه الخلاف والتصادم كفيل بإحداث شروخ وحروب، لا يسلم منها كائن أو جماد، فلا نجد أن ثمة رابط بين تلك الثقافةالشرقية المتوطدة مع الوثاق الأبوي وبين ثقافة فردية لا تلقي بالاً على طبيعة العلاقة وتتعايش كيفما اتفق، حيث نستغرق في الحديث المطول عن آفة الدين والقومية وهذا الارتباط الأعمى مع الأولياء والشيوخ والزعامات السياسية، في حين لا نجد هذا قائماً في أوروبا، والحديث عنه يعد ضرباً من استذكار التاريخ القديم،فتلك الروحانية تقف أمامها تلك الاستقلالية، وهذا التطرف والخوف من الحديث عن ما يسمى بثالوث الدين والجنس والسياسة،متداول بيسر في المجتمع المتمدن
وهذا يحيلنا لفهم الخوف من أبعاده الفلسفية التأملية والتي تختزل في طياتها رحلة الإنسان في شعاب الحياة، وخفاياها وما
15
غمض منها، فالخوف وعاء الذاكرة المترامية الغائرة في الوجع القديم، وهو بالتالي مسيرة حياة متحولة تنتقل للأطوار المتعددة من حياة الإنسانية ورحلتها العسيرة عبر مسالك المرارة وانسداد آفاق الحل حيناً، أو عبر ابتكار أمل ما واتخاذه هدفاً بحد ذاته، إن مشكلة الخوف قديمة قدم علاقة الإنسان بالسلطة، والقلق الوجودي من الموت، وكذلك صلة الإنسان بذاته وأهدافه وذاكرته وكوابيسه، فإن كان الموت وفق تعبير شوبنهور (11)هو العبقرية الحقة وهو ملهم الفلسفة، فإن الخوف يعتبر السجال الرئيسي لعلاقة الفيلسوف به، وهو بالتالي محرك القلق الأصل في الاسترسال والتفكير حول حقائق النفس وخفاياها، فكانت كل المتناقضات والأمزجة البشرية تدور في فلك العداء، الجحود، الكراهية، التملق، الفرح، الوهم، وما يدور في الباطن والظاهر، من أشياء تكشف باستمرار عن معادلة الوهم الطاغية على التفكير وكذلك الخيارات التي تفتح أبواب الشك من كل شيء يدور في أروقة التساؤل،حيث يبدأ هذا التسابق الأعمى ما بين الثابت والمتحول، إرضاء لمنطق الإنسان في الاسترسال وخوض الارتقاء الفكري والربحي ويواكب بذلك أطوار ذهابه باتجاه الترهل والفناء، وهو يعلم عبثية هذا التحول السريع، لكنه لا يهدأ ، كونه يجد في التحول ضالته، وفي الارتقاء الذهني كمسعى معرفي تحرري، في حين يذهب الروحانيون نحو المزيد من الخشوع وعيش الطقوس لبلوغ درجات الإيمان العليا، والتي تعني في عرفهم الطمأنينة، وكذلك نجد في الخوف ملامحاً تتقلد المشاعر والأفكار والتعاليم ، وكذلك أنظمة الحكم، وهواجس الحكام في البقاء، واستماتتهم في الحفاظ على الامتيازات ولو على حساب دمار البلد، وفناء الشعب، فعلى الرغم من كثرة ما قيل عن الخوف وتأثيره على أطوار عيش الإنسان، إلا أنه لم يتم درء مخاطره وآثاره الطويلة الأمد على الذات، فقد دخل الخوف مدارك الإنسان ومفاهيمه، وتشربها مع الوقت لتغدو منظومة لا يمكن التنصل منها، فإن العائق الأكبر والذي يقف بمواجهة سعادة الإنسان وطموحه، يتجسد بالخوف الذي يتجلى بصور مختلفة فهو التردد واليأس، والهاجس الذي يضع المرء أمام صراعات نفسية قاسية تسلب منه الجهد والفكر والشعور بالعطاء أو التفوق، وكذلك يصبح عائقاً أمام الحياة اليومية، إلا أنها باتت واقعاً إعلامياً، إذ تتناقل القنوات الإعلامية مهيجات الخوف والرهبة ضد بعضها البعض بالتزامن مع ممارسات العنف الميدانية اليومية، فعلى الرغم من مزاعم الفلسفة أنها تؤسس لحياة خالية من الخوف، إلا أن الاتجاه الفلسفي مهما تماهى مع العقلانية والموضوعية، إلا أنه لا يستطيع النجاح بالضرورة من أن يكون بديلاً وقائياً عن الخوف،لهذا نجد أن للخوف أنياباً ومخالب، ولعل الطمأنينة باتت بمثابة الفكر المتحلق حول نفسه في خضم أوجاع وقلق النفس في بث نوزاعها وكوامنها في حضرة وجود متحول متغير، حيث ثمة نزوع دائم إلى الصراع وكسر الإرادت لصالح بروز إرادات فظة استعلائية، وهذا من شأنه أن يضاعف شعور الخوف لدى الفئات المضطهدة والتي تعيش في اغتراب مزمن وقلق حقيقي، فما تسعى له السلطات الأمنية الشمولية بالتزامن مع رجال الدين الطائفيين خصوصاً ممن يستخدمون النص الديني كوسيلة لبث الخوف عبر بوق الوعيد الإلهي والترغيب بالجنة لمن يقوم بسفك دم الخارجين عن الدين، في الآن ذاته فإنهم يعطون مسوغات عديدة لبطش الحاكم وأفعاله الكارثية دون خجل، حيث برروا ذلك البطش وبث الخوف عبر زعمهم أنهم يحافظون على أمن وطمأنينة المواطن في حين يقول(12) بنيامين فرانكلن الذي قال: (أولئك الذين يتخلون عن حرية أساسية من أجل أمن مؤقت لا يستحقون الحرية ولا الأمن)، حيث يتم ترويج الخوف إعلامياً ليصبح مقدساً فيما بعد، ومما لا ريب فيه أن الخوف هو بداية الخيانات والأخطاء وما نسميه بالعهر هو ردة فعل متمخضة عن خوف من مواجهة الذات والسير بها نحو الحقائق المجردة، لهذا قال فرانكلين دي روزفلت: (الشيء الوحيد الذي علينا أن نخافه هو الخوف نفسه)لما له من قدرة على القمع واللجم، والتأثير فمن له سطوة إخافة البشر، قادر ببساطة على تفخيخهم وتفجيرهم متى أراد، وكذلك يتم خداع العامة من الناس من خلال تهديدهم والمبالغة في تجسيد تلك السطوة وجعل الناس يشعرون أن هذا الخوف البشري هو جزء لا يتجزأ من طريقة الله في معاقبة البشر،
هنا لا بد وأن نسبر في أغوار هذا الألم لنتعرف عليه من خلال عين هذه الشخصية التي لا تكل ولا تمل من الدموع والتحديق بما يجري حولها وكذلك بما يحدث في داخلها المشبع بالأماني والحسرات على حياة باتت مسرحاً للآلام والتذكر وأخرى محطة للهروب من واقع مكلل بالفجيعة، فإن كان العالم كما قال شوبنهاور مجرد فكرة حسب الفهم الموضوعي لها من خلال المعرفة،ندرك جلياً كم هو شائك ذلك الألم،ولعل الألم هنا مفتاح لسبر حقيقة انتماء الإنسان للوجود،

16
وحقيقة ذلك التمزق المجتمعي الذي تسببت به السلطة القامعة طيلة فترة مكوثها وممارساتها السلبية على الأفراد وخنق
تطلعاتهم لرؤية حياة أفضل، حيث تميل الإرادة رغم تغنيها بالألم والكآبة، إلى الأمل، وكل الصراع هو لغاية إبراز تلك الإرادة في صمودها وتوثبها للأمام، فالحديث عن طبائع النفس الإنسانية وأثرها على الأفراد منذ نشأتهم لابد وأن يفضي بالتدريج على الانتفاضة ضد تلك الطبائع الشاحبة والدعوة لحياة أفضل ، إما بمزيد من الصمود بوجه النكبات، أو الانتقال لمجتمع أفضل يحفظ للمرء المعرفي صفاءه المتبقي، ولا يخلو هذا الانتقال من اضطرابات نفسية يعيشها المهاجر برفقة آلامه وأحلامه المنتهكة في بلاده، بلاد الخوف والكآبة، فالهروب في حد ذاته نوع من المواجهة الاضطرارية لواقع قائم داخل واقع جديد مفترض، حيث نصفه بالخيار المرّ الذي نضطر لاستساغته مع انعدام بوادر الحل، يمكننا أن نصف الطبيعة الإنسانية بإنها صدى للطبيعة الكونية ، وانعكاس لها، فكما أن الأشجار الأعتى والضاربة الجذور في عمق الأرض هي الأقدر والأجدر في البقاء صامدة بوجه الريح والأعاصير والزمن، فإن الإنسان الأكثر تحملاً وقدرة على احتواء الحدث هو الأجدر والأقدر والأصلح للبقاء والهيمنة فيما بعد على بقية العناصر الإنسانية الأقل صموداً ، فهذا الواقع البيئي هو ذاته يتجلى في حقيقة الصراع الأولية بين البشر ، فلطالما كانت هجرة الإنسان قديماً وانتقاله من وطنه الأصلي للوطن الجديد هو بمثابة محاولة لاسترداد الذات المسلوبة، وإضفاء مسحة من الحياة والهدوء عليها، فتأكيدنا أننا جزء من الوجود أينما عشنا وتنقلنا أو متنا، فإننا نعود لهذا الرحم الواسع الذي يشكل الحياة، وكذلك فإن معاناتنا تمثل جوهرها،وهي بالتالي إعادة تمثيل للطبيعة في تحولاتها وتبدلاتها، فهل تفنى الإرادة رغم مشقة المصاعب وتوالي المصائب؟!، يحيلنا هذا التساؤل إلى تأمل الموت كونه انتقال فردي وليس فناء جمعي ، وكذلك لتأمل الخوف، كونه العثرة الأساس بوجه التحولات، إلا أنه يتم كسره في كل وقت ومرحلة، ولا يعني كسره نهايته، فالمخاوف جزء من صيرورة الموجود في نزاعه على الوجود، فما سيادة عنصر ما على عناصر إلا تجسيداً لهذا الصراع الطبيعي على البقاء بزاول العناصر الأكثر هشاشة وضعفاً، فكل هذا الهروب هو لأجل الانتصار لتلك الإرادة الفردية الخاضعة للتهميش والرقابة والقمع بواسطة تلك السلطات الأمنية التي بدل من أن تحقق رفاهية الإنسان وتضمن له حقوقه وتنظم له واجباته، باتت قلقاً نفسياً لا يزول بمحض المطالبة بزواله، وإنما ظلت وسيلة إقصاء وحجب عن الحياة القائمة على المساواة وتنظيم الاحتياجات ، فكما يرى(14) فويرباخ في كتابه تأملات في الموت أن كل الأعمال الإنسانية يمكن أن تشتق من الحب، فإننا نرى بأن الفناء الحقيقي لتلك العاطفة يكمن في خوف الإنسان من ما يعادي صيرورة حياته الطبيعية، والمتمثلة في تقديس الغيبيات، وتقديم طقوس الولاء الخائف للسلطات المستبدة، بل وكذلك الارتهان لها، وهكذا تتعطل ماهية الإبداعات لدى المرء، وتصبح الحياة أشبه بكابوس طويل الأمد، فما مقاومة الإنسان وعزمه للوصول لحياة أفضل إلا جزء من إيمانه بالحب والأمل، إذ نجد أن الفلسفة الخالدة والتي يكون لها تأثير فعال هي التي لا تقف حياداً أمام تساؤلات المرء تجاه إشكالية الخوف، والتي تجعله في طور الجمود، ما يلبث أن يسيطر عليه ذلك المارد الذي لا يفصح عن نفسه سوى في هيئة ذلك الموت الذي يمثل نهاية العالم بشكله المألوف لدى الإنسان، فالفلسفة القادرة على التمرد ضد طقوس وفروض الموت وصنّاعه، تتمثل في ذلك الارتباط الحقيقي بين الحب والمعرفة، والذي يجعل من مهمة السبر لدى المعرفي يسيرة في رحاب الوجود،
إن أكثر أشكال الموت سوءاً، هو بلوغ حد أعلى من الخوف بمواجهة الحياة والمستقبل، وقد آل حال شعوب الربيع الدموي إلى نزوح وتخبط، نتيجة فترات العبودية التي طبقت بحذافيرها على شعوب امتصت موروث السلطة القامعة بيسر، فإذ هي قامعة لبعضها بعضاً، لهذا فإن الموت في منظورنا هو زوال الجرأة، واستتباب الخوف في كافة جوانب الحياة، الأمر الذي جعل الفئات تتجه نحو التجنيد لتكون وقوداً لمعارك وحروب عبثية تأخذ صفة المقدس وهي ليست من القداسة في شيء، سوى تقديس العته والحمق وما نحو ذلك من نعوت باتت حال المجتمع الأمي، فهو يسمي الفيدرالية تقسيماً، والشراكة تآمراً، والديمقراطية مؤامرة أوروبية، والاستبداد فرضاً سماوياً دينياً، هذا التمويه نجح في جعل المجتمعات المحقونة بأمجاد القومية الدينية ، تنظر للأقليات نظرة العبيد المسخرين لتحقيق حلم الوحدة العربية أو إعادة مجد الإمبراطورية العثمانية أو الفارسية، وكل ذلك على حساب شعب عريق عراقة الشرق وهو الشعب الكوردستاني، الذي يمثل تلك الصخرة الواقفة بوجه التهميش والاقصاء والصهر، رغم توالي الإبادات والمجازر عليه،

17
فالدعوة لكسر لجام الخوف هو بمثابة كسر للموت، كمفهوم يدعو للخمود والجمود واللا حركة، إن ذلك المنطق المرعب
الذي أفضى لإبادات ثقافية وسياسية، ضاعف من وتيرة القلق لدى الأفراد في الوصول لحياة آمنة ومجتمع معرفي، فواضعوا الخرائط والحدود اعتمدوا على إراقة الدماء وزج المجتمعات في صدام مزمن وعسير وسيلة لتحقيق الانتفاع المادي، فما الإيديولوجيات الدموية إلا تعبير في حقيقتها عن الجشع والصلف ورغبة في الهيمنة على المقدرات والموارد،حيث يرى (15)كيركجور أن العدم والقلق مرتبطين ببعضهما البعض، تأثير العدم هو إفراز للقلق، وما تعرض الإنسان للإخفاقة إلا كونه قد تعرض بشدة لمواقف عصيبة تستدعي منه شم رائحة الفناء راغماً، فالأحلام والمشاعر والآمال الخيالية كلها من تحفيزات العيش في الحياة، على فرضية تحققها، وما الفرضيات إلا مذهب جمالي يساعد المرء على تمثل رؤى أفضل عن عالم أكثر متانة ويحتوي الجميع، حيث مسيرة الإنسان مع القلق لا تتوقف في أي بقعة يتجه إليها من أنحاء المعمورة، فواقع البؤس ملازم لتلك الشخصية التي يمتص البؤس منها قوتها وطاقتها الشابة، فبين ذلك المجتمع المحقون بالخوف عداء مستتر، لكونها لا تمتلك رصيداً من الحب الكافي، والوعي بطبيعة وجمالية حقيقة الاختلاف لما فيه من أبعاد عميقة الكنه تدخل في سياق التعايش السلمي بين الشعوب، فالخزي الذي يتعرض له الإنسان الشرق أوسطي مستمد من تلك الطاقة السلبية التي يموت من خلالها كل لحظة، إنه يقتات الخوف كقات، ويستسيغ طعمه، لديه دوماً ما يخضع لأجله، سواء شيوخ يتتلمذ تحت أيديهم، أو قادة يخرج لهتافهم ، سواء كان ذلك عن حب يصل حد التصوف والعمى، أو عن خوف يصل حد المازوشية الشاذة، والتي هي مبالغة بالخوف والتظاهر بما هو عكسه، لحماية ذلك الكبرياء الزائف، كما أن ما قاله جان بول سارتر كان صحيحاً من أن الوجود يعلن أن الإنسان يحيا في قلق ويكابد القلق، لهذا نجد الخوف هو النسيج الملتف حول حركة الإنسان وبات ملازماً ضروريا لصيرورته، فتلك الشعوب التي تقطن جغرافيا الخوف نجدها تعيش في ظل عواصف لا تنقضي وحروب لا تنتهي، يصدرها له طبيعة العقل المستقيل عن وظيفته التي هو كائن لأجلها، ولعل تلك الأفكار الطائفية والعنصريات الشائعة هي من طبيعة ذلك العقل المتخم بالسبات والتكاسل، فثمة جهل بالحياة وطريقة العيش عدا عن ذلك العدم الذي يلتف حول الكائنات برمتها، وإيمان الإنسان بعقول السادة السلطويين، واستغناءه عن استقلالية فكره وأسلوبه ونسق حياته هو الذي سرع من وتيرة إحساسه بالفناء في دقائق وتفاصيل بقاءه عبر أطواره المتعددة، حيث القلق هو بداية التساؤل ومقدمته وهو المحفز الأولي للسؤال عن المكامن الداخلية لدى المرء المعرفي، وذلك الاغتراب ناجم عن التحول والانتقال من طور إلى آخر، وهو الذي يغذي لدى الآخر رغبة الولوج لعالم الفن حيث الارتقاء عن الهوامش والسطحية في التفكير والانغماس في الضعف لما لا نهاية، ولعل الموت هو الخوف الأكبر لدى الإنسان لهذا تتمحور فلسفة هيدغر في إعطاء ذلك الموت هالته المسيطرة على المرء، حيث أن كل تشاؤم وراءه واقع سياسي فاسد، وكل فلسفة تتصل بتعريف العدم أو الاغتراب أو القلق، تمثل انعكاساً لذائقة تم إحباطها من خلال فساد النخبة الحاكمة والتي لعبت دوراً هاماً في تحوير الفكر والفن والأدب، لهذا بات من الضرورة دراسة الأدب وفقاً لحياة الأديب وهكذا مع المفكر والفيلسوف والفنان ، ان معرفة مسببات العمل بهذه الفكرة أو ذاك هو من دوافع الضغط المادي الاقتصادي وذلك التفجر المتموضع داخل المرء إثر القمع والكبح،ففي خضم تلك المأساة التي ترافق حال الشخصية التي تجتر البؤس الكامن في التقاليد الأبوية نجد تلك السوداوية تلاحقها كمظهر يجسد زيف هذا الانتماء بين الفرد والمجتمع في ظل الخوف الذي يفتح بدوره ثغرات
عديدة في ميادين الحياة كافة، وهو بالتالي تعبير عن ذلك البون الشاسع بين الفرد وحقيقة واقعه المشبع بالمعاناة والفقر، إضافة لكونه يعيشه ذاته السليبة حتى في المجتمعات التي يفد إليها، وهذا ما يعزز أكثر هذا التساؤل الخارج من أعماق متألمة ومكتظة بالاغتراب، ما الحرية؟!، لطالما كان الصراع مستبداً بالمرء، لدرجة أن ترتسم الهالة دون توقف في الملامح والأعين أمام حلبات الدم المستمرة عبر التاريخ، كل ذلك لتعزيز الخوف وتقديسه، وللتأكيد على أن بديهة الإنسان ظلت تنشغل لفترات طويلة على السيطرة وإبراز القوة العسكرية والاستيلاء على الجغرافيا ومحو ثقافات لصالح طغيان العنصر المهيمن فقط، حيث يتسارع القلق لدى المجتمعات البشرية وأخصها تجمعات القرى من خطر التلوث الناجم عن آلة الحرب، فأي حرية يدخرها السلطوي في مواجهة خصمه الآخر، بل والاتفاق معه في أحايين كثيرة على تقاسم الكعكة، والتي يخرج إثر نتيجتها تلك الشعوب عن ملكها وحقها الطبيعي في الاستفادة مما تحوزه، وهكذا نجد أن مفهوم الحيازة مرتبط
18
بالقوة، ولعل ذلك أوعز للفئات المتسلطة استخدام الخوف والترهيب في نزاعاتها الدموية، إذ تخرج تلك الجماعات إثر أشواط الحروب منهزمة منكسرة نازحة، حيث لا نجد إمكانية للعيش بهدوء في ظل جوع السلطوي واشتهاءه للتنازع فكيف يتم انتشال الخوف؟!، واجتثاثه بصورته القائمة، حيث يبدو أنه قدر المجتمعات والشعوب الباحثة عن هويتها وخصائصها في ظل محيط يزرح بالحروب الداخلية والاتفاقيات الخارجية، فهذا الوجود القائم بذاته رحب بما فيه الكفاية ويضيق بحفنة الشعوب المتمسكة بثقافاتها منعاً من الصهر ، لهذا لا يغدو التعايش شيئاً سهلاً وممكناً في ظل سطوة الخوف المقدس، لا يتم هذا الفتك بالخوف بمعزل عن إرادة العقل وجلاء المنطق، لهذا فإن المعركة تظل مفتوحة الأبواب على مصراعيها، فالحق يبقى فكرة تلتف حولها تلك الفئات المعنية باسترداده، إزاء فئات تتصارع لإيمان بحق ما يبرر لها وقوفها بوجه مقابلها، وهكذا ما تلبث الجهتين أن تخوض حرباً مصيرية ضد بعضهما البعض، إنها حرب الفناء ، لهذا يبدو أن مبررات التصارع والتنازع بين الفئات ناتجة عن مظلومية من جهة وشهوة في التحكم والهيمنة من ناحية أخرى، ولكن النصر يتحقق في النهاية لأصحاب الإمكانات اللوجستية على حساب طاقة الحق والإيمان به، هنا نجد أن هذه الظواهر البائسة هي التي طورت من مفهوم العدم والخوف المقدس لتجعله الورم الأشد فتكاً للعقول والقلوب معاً، فما الحروب والمجاعات التي تمخضت عنه إلا دليلاً على تأصل ثقافة الموت مقرونة بالتطرف لتكون بمثابة خبز هذه المجتمعات التي باتت مشاريعاً ووقوداً لحرب لا تبقي ولا تذر، تهدد البشر والحجر ، إلا أن الإيمان بالهدف والعمل لأجل تحقيقه وجعله واقعاً ظل تطلعاً صلباً يعكس إرادة واعية لا تتقهقر بل تزداد صموداً بوجه المصاعب والمؤامرات التي تحيكها تلك الدول التي اقتطعت أجزاء من هذا الوطن المكتظ بالخوف والصمود، وعن هذا الغضب الذي لم ينجح الغاضبون في إبرازه وجعله وسيلة خلاص من الخوف ، إذ يعتبر ذلك الحاجز ما بين الإنسان والخلاص، فمع بقاء التحرر منه فكرة ، إلا أن منظومة الخوف استطاعت التماهي مع الفن والأدب، ووضعت بصماتها بجدارة على جوانب من حياة الإنسان الشرق أوسطي، حيث ظلت فكرة التحرر غائبة عن معناه الجوهري، ولم يستطع المؤمنون بها تسخيرها كقوة ودافع للخلاص، بسبب عدم وجود قوة تعمل في الخارج على تهيئة الداخل، ولعل وجع الإنسان ناتج عن قيم السلطة المتهالكة ببروز تلك الطاقة الهائجة للدخول في إطار معركة مصيرية للخلاص من عهود البغي والقمع الذي مارسته السلطات طيلة عقود، ولهذا فإن الإعداد لخطة النجاة تقف على طبيعة الظروف ومدى قدرة المقهورين على تخطي قهرهم وذلك باستغلال تلك الظروف الاستثنائية، وهكذا نجد أن المجتمع في ظل السلطة القمعية يصل لأرذل درجات الدنو والانحطاط وهو في الحقيقة بمثابة ناقوس يأذن بانفجار الوضع وانهيار تلك الدولة أو المنظومة التي هي مؤشر عن حرب الإبادة المجتمعية التي يتحول فيه المجتمعات عن طور التراكم إلى طور الانفجار والتوحش حد البدائية التقليدية، لهذا فقد نجح الاستبداد بتفريق المتفرقات أكثر وتقسيم المقسّم حسب الاتفاقات والبنود الاستعمارية، حيث أنشأ ما يعرف بسوريا والعراق ولبنان والأردن وألصق كل جزء من كردستان بأربع دول وهي العراق وإيران وتركيا وسوريا، لتوضع خرائط لشعوب لم تخرج بتاتاً من وصاية الخارج ولا عن وصاية النظم القمعية التي أقيمت بمباركة الخارج وتبدل بتلك الأيدي، وهكذا باتت مفاهيم الاستبداد والغطرسة والتمذهب بتقاليده التاريخية داخلة الصميم ، عميقاً في اللاشعور الجمعي، فأين المفر ، ألسنا بحاجة ماسة لثورات ذهنية تضع خلاص المجتمعات فكرياً أساساً لغايتها ومنطلقها ومبدأها، وأهم جوهر نهوضها هو كسر التابو المتجسد بسيطرة التطرف الديني المقدس والذي هو خزان كل آفة ومستودع كل رذيلة ونفاق، إذ لعلنا أمام هذه الغاية في سباق طويل مع الزمن للوصول بالحياة المعاصرة لبر أمان عبر التخلص من أسر واستعباد قيم الماضوية الهشة، وذلك لا
... يتم بسهولة أو بمعزل عن أسبقية الحوار المتبادل بين الشعوب لا بين الساسة المسترقين والأرقاء في آن معاً أعداء كل نهضة تنويرية، لقد كان وجودهم في مراكز الحكم مقرونة بمهمة حراستهم لنفوذ الدول المهيمنة المتسابقة على الربح ، فهم المسؤولون عن تضخم الخوف والقمع في البلاد كونهم رعاة المذهبية والطائفية والعرقية، وقد جعلوا معاناة الفرد لا تنحصر عن سلوكهم في البطش والقمع والإقصاء، وإنما في سرقة المجتمع عبر تدشين الفساد والبطالة، التي أدت لفراغ داخلي ونفاذ في الطاقات سريعاً، وهذا إن دل فإنه يجسد لنا حالة الضياع التي أدت لفقدان البوصلة والشعور بضعف


19
الانتماء تجاه الذات والجماعة، يصبح الهروب من كل شيء مطلباً حقيقياً وعسيراً،لقد كان الرد العنيف على الخوف بمثابة
تجسيد لمرحلة الانفجار إثر تراكم وضغط هائل ، جعل الشعوب تتجه بتصاعد نحو بيان إرادتها وعزمها على تغيير نظمها،
ولو تم ذلك على نحو عسير، إلا أن طريق الانتفاضة لا يتم إرجاعها للخلف حينما تبدأ، فإن قدرها أن تزداد حدة وجلاء، وتتسع لتتشعب أزمات ومشاكل عميقة ، حيث لاشك فيه أن حراك الجماهير مقرون بحاجات منظمي الخرائط إلى التغيير أيضاً بما يتناسب مع الحاجات إلى الموارد والكفاءات الجديدة وكذلك فإن التركيز حول حالة الغضب الجماهيري هو إيذان لزوال عصر الخوف والصمت الأسود، والذي دفع بالعديد إلى التغلب على الخوف، وهكذا يتم التحول للطور الثاني الأهم للمجتمع ويتم وفق الانتفاضة تغيير السلطة رغم صعوبة التحول المرضي للعقول والطموحات الوثابة،
فأثر العنف في المجتمع ينشأ مع الطفولة واحتكاك الصبيان بعالم الكبار وتقاليدهم حيث العوائد العنيفة تتدخل في صناعة الذهن عند الصغار فتنحرف بهم التربية العنيفة صوب العنف، عملاً بأهداف وغايات صناع الموت والحرب، حيث يفتقد المجتمع أهليته للتعايش بترسيخ مفهوم التعالي ، معادلة السيد والعبد، وكذلك فإن سيطرة الخرافة جعلت من أبواب العنف مشرعة أمام من يريد أن يضيف للحياة ألوان التجهيل ونشر الاضطراب، حيث ينشأ امتصاص الطفل لكل ما هو خارجي عن طريق التلقي الذي يفرض من قبل فلسفة الكبار وحكمتهم، والذي يجسد حجم الألم الذي تحدثه أنماط التربية الخاطئة ، فبمرورنا لمراحل الطفولة الشاقة في ظل منظومة المجتمع الذكوري لابد وأن نعلم ماهية القمع وكبح جماح الإبداع لدى الطفل منذ ولادته، فالمعتقدات تتدخل في صناعة الفرد نفسياً وتسهم لدرجة ما في تحديد مصيره المتجلي في سعادته أو تعاسته، لهذا نجد الانغلاق أكثر يسراً في دخوله نفوس المجتمع ويتلاعب بمفاهيمها، فالمظلومية ليست شعوراً فحسب، وإنما ممارسة وحياة تتخللها مواقف تشبه الأسر والقطيعة عن الحاضر والمستقبل معاً وتوفرها عوامل ممارسة الاضطهاد من قبل النظم المركزية الشمولية،
فهذه النظم وجدت في إعاقة وصول المجتمع لوعي مطلوب سبيلاً لبثها للخوف والقمع وزرع الرهبة وقد وجدت أنه من
مصلحتها التحكم بالإنسان وزرع الرهبة في داخله منذ طفولته لهذا فمن الضرورة عقد ذلك الترابط والإشارة إليه بين طقوس المجتمع وعوائده وبين السلطة ، كونهما معطيان متكاملان وليدان ثقافة تاريخية عمادها العنف والجهل ، لهذا تلعب التقاليد دوراً في تأهيل الفرد على امتصاص الخوف بطرق غريبة، تسهم في تهيئته لاستقبال المزيد من الصدمات التي
تفرزها طبيعة المجتمع ، فمع غياب المؤسسات الحقيقية التي تنظم حياة المجتمعات وتقف على احتياجاتها، يتصرف الأفراد على نحو ساذج ليبدأوا في النبش عن كل ما هو غير صالح فكرياً، وتقديمه للمجتمع بوصفه دواء ربّاني، وهذا ما أدى لتضخم العلل النفسية لدى الفرد منذ طفولته، ومعالجة بعض وعكات بأساليب تثير الغرابة، لعلها بمثابة واقع مفروض بطريقة ما، لقد تم تهويم الجماهير وخداعها عبر إلزامها بالجهل، لهذا نجد أن أساليب المجتمع في استئصالهم للمشكلة الصحية تعكس طبيعة المنظومة السياسية المتخلفة، فهذه الأبوية الحاكمة رسخت الجهل، وعملت على إخصابه والعناية به، إلى جانب وجود الفئة المرتهنة والتي وظيفتها تجميل الخطاب الأبوي السياسي بقدر تجميلها للمعتقدات الدونية الزائفة التي هي وراء تخلف المجتمع وعنف الأفراد،إذ لابد من معاينة جذور الخوف المرتبطة بالمعتقد بشكل مباشر، وهكذا يتم سبر الإشكال الفكري الذي قاد إلى الإستبداد عبر مراحل تطورية عسيرة، رافقتها حالات مخاض متعددة باعدت بين الإنسان وقيم العقلانية ، بمجاورة المرء المتدين للخرافة وجعلها مقدسة، هكذا استمد الباطش من تعنت الجهل لدى الفئات الخاضعة لعنف المقدس قوته، وبذلك يمكننا معرفة أولى بدايات تواطؤ السلطوي مع رجال الدين في التآمر على المجتمعات الشرق أوسطية، وجعل المطالبة بالحرية تآمراً على وحدة البلاد، وهكذا فإن هذا الصراع بات يكشف عورات التجهيل التي عاثت فساداً في كامل هذه الجغرافيا المحكومة بلعنة تاريخية، فالصراع بين أنصار الحرية والمسيطرين بات حقيقة في ظل واقع مثقل بالصدامات التي قادت إلى تفجر الوضع كما هو في مرحلة الربيع العربي تلك، والتي باتت ربيعاً كردياً، حيث نجد طقوس العنف التي لها امتدادات قديمة تعود لحقب الخرافة التي استحوذت على الفئات المعزولة عن منجزات المعرفيين في البلاد الاستراتيجية والتي من مزاياها التواصل بين المجتمعات عن طريق التجارة والمناخ الذي يسهم

20
في التحول الإيجابي للأفضل، فلا يمكن أن نتجاهل الغزو الهمجي للأقوام الصحراوية والسهوب الباردة التي وفدت إلى
الأماكن الخصبة وأقامت ممالكها بالدم والحديد ، وقد استقدمت جهلها وسذاجتها معها ،وجعلت الحياة تتصدع أكثر فأكثر، هذه الهجمات جعلت المجتمعات تتفكك روابطها فيما بينها، لتعود وتتحد بغية مواجهة الخطر المشترك، فما نعنيه إذاً بأن العنف تم استيراده من مفاهيم وافدة على الثقافة الحرة ، والتي استقت من بيئتها الهدوء والصفاء والاتسام بالابتكار والتجرد، فما سبب عودة المجتمعات إلى التشبث بالعرف والخرافة، دون التطلع للعلم والمعرفة، إذن فثمة تجييش سياسي يقف وراء ذلك ،لهذا بات لزاماً على المفكر الفطن معاينة نفسية الجماهير التي باتت تشكو داء الإحباط النفسي من أن تتحول إلى حياة الحيوانات التي يقسو عليها العابثون، ولهذا نجد هذا التحوير المؤلم لحياة البشر وتسويقهم كحيوانات ، حيث لا حقوق ولا كرامة بل اعتداء عليها من قبل نظم تعتاش على إهانة الإنسان ومسه في كرامته، فالعنف الذي يمارسه الأطفال في تعاملهم مع الحمير ، وقطع ذيلها هو محاولة للوصول إلى فكرة أن السلطة القامعة تنظر لشعوبها كذلك، بل وتمارس سياسة تحويلها لحيوانات تلهث وراء لقمتها كل يوم دون التفكير بالغد، في إشارة إلى منطق التجويع والتجييش الطائفي والعرقي الذي بات يهدد الشرق الأوسط على طول رقعته، وذلك العنف يصدر إلى الجوار بكونه وسيلة لضخ الأزمات واستهداف العيش في محتواه وجوهره، حيث النظر للشعوب أنهم عبارة عن قطيع هو ما مثل في حقيقته ذلك العار الجوهري على مسرح القيم فقبل ذلك حذر غوستاف لوبون من هذا اللهث الجماهيري اللاعقلاني على حد وصفه ، من أن تتحول نداءات التغيير لمجرد شعارات يعوزها التنظيم والتوعية، حيث أن المجتمعات حينها تستقطب أجواء العنف ومراميزه المتجسدة في عملية الخوف الممنهجة والتي تقودها السلطات الشمولية بلا هوادة كحرب استراتيجية غير مسبوقة، تؤدي إلى حدوث موجة من الاغتراب العنيفة، فالإشارة لبطلان العملية التربوية التي تخلق جيلاً من العقد والاضطرابات التي لا حد لها والتي تسهم في تكوين العقل الكلي للمجتمع المقهور، هذا العقل الداهية الذي صنع قطيعاً سهل أن يتم قيادته واللعب على أوتار عواطفه وتجييشه وأدلجته حسبما تتفق مع المخططات التي يقودها الحكام بالتواطؤ مع القوى الساعية أبداً لتأصيل هيمنتها وتغيير خرائطها ومعادلاتها حسب ما تقتضيه الظروف، ولعل تهميش المجتمع وقمعه يسهم في تنفيذ كل المخططات ، ولعل الحكام والأنظمة الراعية لذهنية القطيع هم أجراء لدى القوى المهيمنة، وبالتالي فلا خيار أمام الجماهير إلا بكسرها لذلك الخوف وتمردها على كل ما من شأنه مس كرامة أفرادها، حيث يرى المنظر الاشتراكي الألماني كارل كاوتسكي(17) ما يلي:“ لقد أصبح واضحاً وضوح النهار أن الصراعات السياسية والاقتصادية في زمننا قد أصبحت بدرجات" متزايدة من فعل الجماهير
فالجماهير هي من تتأثر بكل مخططات المتحكمين بها وبصناعة الرأي العام، لهذا لم يعد خافياً أنها بالتأكيد الوقود الطبيعي لما يفرض عليها من أجندات تلامس طبيعة واقعها، وعصب حياتها المعاشة، إذ يفرض على نخبها التنويرية السعي نحو خلاصها لا تهويمها، بمخلفات الذهنية المرتهنة لكل خطاب سلطوي هدفه زيادة الخضوع والتدجين، حيث نجد الجماهير عبارة عن أسماع مفتوحة لاستقبال كل رأي وعليه تمارس أدوارها المختلفة، وبالمقابل من هذه الحقيقة أخذت السلطات الفاشية إن في الغرب أو في الشرق بمحاولة ابتداع نظريات تعمل على إخضاع فئة على حساب انتصار الفئة الأكثر معرفة
بطبيعة هذا التفاوت بين المجتمعات، حسب درجات فهمها للحياة والأدوات، ولاشك أن الخروج من ربقة التحكم بات
عسيراً في ظل تكالب الأقنية الإعلامية في صناعة المناخ المناسب للحرب والتنازع تحت أشكال ومسميات مختلفة، ولهذا فإن الإشارة لذلك بات واجباً معرفياً يتطلع المعرفيون غير المرتهنين للخوض فيه وبيانه، أمام ضغط هائل وحرب ضروس يتوجه به المتحكمون بالسياسة والاقتصاد، لإرباك قيم الحياة الطبيعية مقابل تأصيل العنف لدى الجماهير وإلزامها بالحرب، فما نقل الوقائع على نحو بائس وموجع سوى صورة حقيقية عن فوضى ستكون القائمة لحين تستخلص الجماهير عبراً عبرها، تخص علاقتها الجديدة مع المنظومة الحاكمة، والتي لابد من خلالها أن يتحدد شكل النظام الهزيل بعد فوضى أ حرقت الأخضر واليابس، حيث نجد تلك الجماهير التي تمتص الخطاب السلطوي على نحو غريب ويبعث على الدهشةوالتي تتصرف بمظهر راعية السلطة الحكيمة في انقضاضها على العملاء حسب زعمها ، تجدها مسعورة في الانقضاض على الفئة الأخرى ، ومثال ذلك يتجسد الاقتتال الذي دار في انتفاضة قامشلو والذي جسد ذلك الزرع الذي
21
حصدته السلطة من إذكاء روح التعالي والغطرسة في نفوس جماهيرها على نحو إيديولوجي يعكس روح الحقد والانتقام لدى فئاتها التي تماشت مع خطابها على نحو سريع ، وهكذا نجد التطرف خبزاً عفناً لمجتمعات أخذت مذهب سلطة الاستبداد في تماشيها مع قهرها بمازوشية وسادية تبعث على الخوف والذهول، حيث تتطبع الجماهير بسلوكية حكّامها، ولا شك أن من يحملون الشوفينية والغطرسة التاريخية على شعوب مجاورة أو يتعايشون فيما بينهم ، يصعب أن يكونوا مرابطين في جبهات التغيير الجوهري، كونهم دفعوا دفعاً ليكونوا وقوداً في شرك السلطة القامعة التي تتخذ الجماهير أعداء لبعضهم بعضاً، لهذا نجد أن المخاض العسير لايزال قائماً أمام مسيرة المعرفيين في الذود عن عقول النشء وتغذيتها بمعاني التفكر الإبداعي والنقد الصارم، لانشغال هذا العديد الضخم بمعارك متوطنة في نفسية وذائقة معتنقي علل السلطة الاستبدادية المتخذة للطائفية والقومية لبوساً مقدساً، لهذا تدمن الأكثرية العربية ذلك الخطاب القومي بوصفها غير العرب خلايا تضعف من الدولة وتكون عائقاً أمام الأحلام التاريخية الشهية في التوحد واستمرار الهيمنة، وهكذا نجد الأتراك القوميين والفرس يستخدمون المذهبية حيناً والقومية حيناً آخر لتغطية الفشل السياسي والأخلاقي، ولاستخدام الأقليات أو الإقصاء التعسفي ونشره جيلاً بعد جيل، ولاشك أن ذلك يزيد من الصراع واتساع رقعته مع الزمن ، إذ يخرج الكل خاسراً من ميدان الهزائم المتوالية، هذه اللعبة الخطرة التي يتم الاستمرار بها دون وازع، أفضى لنزاعات وتخبطات نفسية شتى، هذا التنويم السلطوي للجماهير قاد التاريخ إلى زمن المرواحة في المكان، فالجماهير التي رافقت فريق الفتوة لملعب قامشلو، وراحت تتنازع وتقاتل الفئة المقابل منها، وكأنها أشبه بدمى بيد الأيدي الخفية، هي ذاتها التي خرجت ضد مسترقيها للتنديد بشعارات جوفاء تنادي بإسقاط المنظومة القامعة التي عبدتها بالأمس، هكذا نجد أن المتحكمين بالجماهير يتشابهون نظراً لغاياتهم المتشابهة في تهويم المجتمعات وترسيخ تجهيلها، وكذلك فإن التصارع الأهوج بين الجماهير في ملعب قامشلو وما رافقتها من انتفاضة كبرى، قد بينت حجم الهوة بين الشعوب السورية، وتعميق الهوة فيما بينها، لأجل دوام السلطة وبقاءها، فالجماهير باتت سهلة الانقياد لحبائل السلطة ومفاهيمها العنفية،لكنها قوبلت بعنف مضاد من الجماهير على الطرف الآخر، بردة فعل أعنف، وبالتالي فإن عموم الفئات المغبونة هي من تتولى زمام التغييرات والتحولات السياسية، وهي المشكِّلة ذلك العامل الكامن وراء الغليان المتصاعد والذي كشف عن نفسه في سياق ما يسمى بالثورة ،
فلا يمكن تجاهل هذه المنظومة الأبوية المتوطنة في العقول والتي رعتها الأديان واستحدثها مشرعوا السلطة وقاموا برعايتها لتبقى مترسخة في الأذهان، عصية على الزوال، إذ تشرّب الأفراد لها ، عبر التربية والتعليم، إذ لهذه المنظومة علاقة بالدولة المركزية، والتي تتخذ من سيادة العنصر العرقي على بقية الأعراق، والعنصر الطائفي على بقية الطوائف أساساً لوجودها وحكمها، وكذلك نجد أن الثورات المضادة سرعان ما تبدو وليدة عنها، مالم تتخذ في برامجها الأولى تغليب المنهج الديمقراطي على الخطاب الأبوي الاستعلائي، وتصبح الأزمة في حقيقتها فكرية مستوطنة ذهنية التعامل وأسلوب التعاطي مع النظم التقليدية، على نحو تقليدي، لا يستوعب المعرفة التي تعني محاربة التجهيل، والوقوف بوجه مصدريه ومستورديه، الأمر الذي يدفع بهم إلى الاغتراب والانطواء، وكذلك يعطي ذلك صورة عن واقع الأزمة التي تعيشها النظم المركزية في تجفيف مصادر الحوار ومنابعه بين الجماهير بمؤسساته وشرائحة المختلفة،حيث تربية الأطفال على طاعة الحاكم هو شرط أساس للبقاء على قيد الحياة في ظل سيطرة الرعب والقمع في مناحي الحياة المختلفة،ولاشك أن عوائد السلطة في خوفها من الجماهير وتقييدها، وكذلك تجزئتها عبر زرع الاحتقان والكراهية في أوساطها مشتق من جملة التقاليد والعادات التاريخية لطبيعة المجتمعات، التي تبحث عن ما يزيدها عزلة وانقساماً جراء تفشي الخوف وانعدام الثقة بالذات، ففي ظل زعزعة الإيمان الفردي بالذات في ظل جماهير مغلوبة على أمرها تتلقى أي خطاب تحريضي كأنه من السماء، يسهل الإيقاع فيما بينه وبالتالي يسهل التحكم فيه وإجهاض أي محاولة لتماسكه وتوحده، وهكذا لا يجد الفرد المبدع في بيئات الشرق الأوسط ملاذاً للتفكير الحر أو الإبتكار، فينطوي ويسير في أزقة التهميش والغبن، إنه بذلك يغترب عن ذاته ويقوده التشاؤم إلى الانتحار أو الهروب ، ولعل ظاهرة النزوح التي ارتبطت بالحروب الداخلية الشرق أوسطية خير دليل على هذا الإحباط والتشرذم الذي دفع ثمنه المعرفيون الذين تشردوا في البقاع المتمدنة يبحثون عن لملمة ما تبعثر فيهم، حيث نلحظ الجمهور منفعلاً ، ورواد أحزابه نزقون ، مختالون، حمقى يتهافتون على فتات المؤائد، مولعين بتقسيم المقسم، وتقزيم المنجز المعرفي، وتحييد دور المثقف وكذلك التخاذل المفرط والذي حول الفئات الجماهيرية إلى غبار ،
22
لهذا بدا لنا الجمهور نسخة من ذهنية الديكتاتور، وبدأ دور السلطات القمعية يتعاظم بمزيد من الطأطأة والخنوع، وبدأ الخطاب العنيف يسري في أوساط الجماهير ليجعلها كارهة للتعايش وكذلك للحياة المنصفة، وتحول دورها لخدمة أرباب السلطة والنفوذ، وهكذا ينقادون لكل ما من شأنه أن يؤدي لتسعير الصراعات قدماً نحو التصعيد الدائم، فالدين بمثابة الناقل الرديئ للصراعات الدموية ، كما جسد الإنسان والكهرباء، وتحوله لأفيون يستنزف الضعاف هو التجسيد الأبسط لمدى قدرة النخبة المتحكمة على إدارة التغييرات السيكولوجية للجماهير،فحينما يفتح الفرد ذراعيه للخوف، فإنه يلجم العقل بسيل ضارٍ من الغرائز والهيجانات التي تتحكم بحياته على طول المواقف التي تمر عليه، حيث تسهم تلك الرهبة في صناعة الفرد وتهيئته لاستقبال الحياة والشخوص، بل ولعلها تحرك الآراء والمواقف وكذلك تلك السجالات العاصفة بالذاكرة على مدار الاحتكاك بالجماعة، إن ذلك يعد تجسيداً لمناخ الفوضى المسيطر على الإدراكات والتي تحول دون أن تتنبه من هول الخطر المحدق، هكذا تجد الجماهير نفسها معصوبة العينين، لا تكاد تهدأ من شدة التقلب على جمر المفاجآت، إذ أنها تعوّل على خطط الأجندات الخارجية كي تنتصر على الخوف، وتضطر أحياناً لانتظار الفرصة المؤاتية للنيل من الخوف ومنظومته التاريخية، لكنها بهذا التذلل تفصح عن وجهها الغائر بالنكبات والهزائم، وتصبح مقيدة أسيرة لأحلام الحرية والاستقلال، أمام كم هائل من الكوابيس والأوهام المتشربة للخوف، إن الإسهاب في إفصاح الغور عن الرموز التي تتخلل السرد، هو بمثابة دخول من بحث لآخر ، في مدار التعريف برحلة الإنسان الشرق أوسطي في رحاب منظومة العسف والجور، وانهيار المنظومة المعرفية والأخلاقية في حياة المجتمع، عكس خللاً كبيراً في بنية الحياة اليومية وتعامل البشر مع بعضهم بعضاً، حيث يشكل العنف أو التعنيف اللفظي الخبز الأساسي لحياة المجتمع ، وعلاقته مع السلطة هي علاقة استرضاء يشوبها الخوف، والغد غامض غير معلوم، تسوده مشاعر النقمة والاستياء على تصرفات النخبة الحاكمة وانشغالها في دفع المجتمعات لأتون ضياع يؤشر لحدوث صراعات لا تتوقف ، يتحمل المجتمع تبعات نشوبها ونفقتها بينما تعزز السلطة بدورها مناعتها من خلال قدرتها على زج الجماهير في حروب مذهبيةوعرقية تكون هي فيه الرابح الأول،وهكذا نستطيع القول أن السلطة القامعة نجحت في جر الشعوب إلى مستنقع ثقافتها العنفية، وكذلك بحقنها بكل ما يعزز تصادمها وتنازعها إلى أمد غير منظور، فلكي نقمع الاستبداد ، علينا بإزالته من الدماغ، وهذه أحد العمليات الصعبة التي تحتاج لمناخ إيجابي مستقر ، تستطيع فيه النخب المعرفية أن تجتمع وتتفق وتطرح برامج تنموية تساعد المجتمعات على التخلص من ثقافة السلطة الاستبدادية في بواطن عقلها
فالتنظيمات المعارضة للسلطة استخدمت ذات الأدوات في التأثير على أتباعها وجماهيرها المؤيدة، فما أن تستلم السلطة حتى تمارس ذات الفعل لذات الغاية وهي البقاء مهما كلف الأمر من ثمن ودماء وبطش، ولعل ذلك الوعي الماثل في مسيرة المعرفيين ما يكشف عن حضارات لاكتها عضلات المتسلطين ومآربهم في السعي لاحتكار الفضيلة والحرية وما يتصل بهما ، ولعل الخوف والأسطورة في صورة حضورها شبه اليومي في داخل الناس هو بمثابة استنطاق للتاريخ القائم على السلب والنهب وطمس الثقافات لصالح بروز الوحشية السلطوية، وليس الواقع على ضوء هذا ما عبّر عنه ديكارت بوصفه عبارة عن مفاهيم شديدة الوضوح في ذاتها، إذما نظرنا لها من مبدأ تعدد أغراض الساعين لزج الإنسان في أسر المفاهيم الضبابية بغية أسر العقل وجعله وقوداً لمعارك الحق والفضيلة ، حيث لا تنتهي التساؤلات المتحلقة حول تحديد الواقع كونه سلة أو وعاء كبير يحوي المتناقضات على شتى المجالات والأصعدة والرؤى، لهذا بتنا منساقين عفوياً للدخول في سجالات معرفية تهدف لتسليط الضوء حول أكثر القضايا تجلياً في ساحة الإنسان أمام محاولاته في التصدي للذين يقفون بوجه التغيير الديمقراطي الجوهري في الشرق الأوسط، إذ يدخل مزعم التغيير أحياناً في فخاخ السلطة التي تلهث في سبيل انتزاع لقب البطولة أمام أعين جماهير لا ترى من هذا الشعار سوى بريقه اللامع والذي سرعان ما يخبو وتجد الجماهير ذاتها أمام مفترق خوف آخر، لهذا نجد أن فرضية التغيير والمسعى الأفضل في إرساء دعائم السلم البشري يتقوض في ظل تهافت النخبة للنفوذ وعجز الجماهير على التفكر في طبيعة ما يفرض عليها من أجندات هنا وهناك، حيث ميل الإنسان إلى عبادة القوي اتقاء لشره هو مظهر من مظاهر العجز البنيوية لطبيعة مجتمع مغلف بالخوف، حيث بزرع الرهبة والانقياد الأعمى لمؤثرات الخطاب الديني هو من جعلت السلطات الشمولية تنتصر في ظل خمود الذهن وخواء البطن، حيث إشغال العقل منذ الطفولة بحكايات الرعب والخوف هو بمثابة إدخاله لعالم محشو بغلالات الفزع واليأس، وهما بطبيعة


23
الحال يجعلان الفرد في حالة خشية دائمة، مما يفيدنا حول التطرق للتربية وتخلفها في مجتمعات اتخذت من تجنب
الحديث عن السياسة أساساً لنشوءها، واتقاء لبطش القوى التي تعمل لكبح جماح الفرد، ومطالبته بالتغيير والرفاهية، فالشعوب الحاملة لموروث السلطات القامعة تعيش في الماضي ولا تقدر على تجاوزه مالم تتمكن أولاً بالخروج من قوقعتها، لهذا نجد أن المنظومة الجمعية ارتهنت لخطاب السلطات الفاسدة وباتت نسخة هزيلة عنها، بحكم اتصالها مع قنوات السلطة تلك بشقها المؤيد والمعارض على حد سواء، وتمكن الخوف من أن يعقد قرانه بسهولة في فرائص ووجدان الجماهير الشرق أوسطية ،فالحصار الذي صنعته السلطات الشمولية ثيوقراطية الجذور هو ما مهد لبروز تلك الفوضى كنتيجة عن هذا القمع والكبح المتواصل والممارس ضد عقول وقوى عقدت العزم على وضع الحد لهذه الخروقات الكارثية التي تهز وجدان وحياة الجماهير، فالمجتمع الساذج بطبيعته مجتمع قطيع تبعي منحاز لكل ما يدغدغ مشاعره ويعمل على إثارتها، هذا الإخصاء المعرفي هو مصدر كل فساد أو تقهقر روحي أو سياسي، فما تفسير تعلق هذه
الجماهير بالأضرحة والمزارات والقادة الرموز والأقطاب الدينية والشخصيات الحزبية، إن ذلك وليد هذه العزلة التي
مارستها السلطات وخلاياها الصغرى "الأحزاب، الجمعيات المتصلة بها، أجهزة الاعلام" لتغذي روح الخواء والكسل الذهني في أوساط مريديها الذين لا يقرأون ولا يفهمون، ويتماشون من أي خطاب يأتي من فوق، حتى أن النظام المؤسساتي يكاد يكون غريباً عن مناخاتهم حيث بتعاظم ازدياد المؤولين والمفسرين تتزايد نسب ذوي العلات على نحو مرعب ومخيف، يشي بالمعضلة الحقة والتي تكشف عن لعب السلطوي أشد أدواره خبثاً ودهاء ويتجسد في تقلده أو تسيده عرش الفلسفة والإصلاح والتغيير وما شابه من دعوات في عصرنا الراهن ، عصر الثورات المضادة، والقائمة على المزيد من احتواء الخلل وتحديث الآفة بل وباصطناع الحلول دون معرفة اتجاه البوصلة أو تجاهلها، وهذا يستدلنا على دور صناع الأزمات في تحويل المجتمعات إلى فتات، حيث نعلم مدى تأثير الخطب البلاغية على عاطفة ووجدانيات الناس في كونهم يهرعون وراء العاطفة من وراء أي خطاب فعال التأثير دون النظر إلى خلفيات ذلك، فإن ذلك بحد ذاته يعكس مدى اغترابها عن صناعة الفعل المضاد بمعنى آخر الفعل، الذي يساعدها على التمييز ومحاسبة الجالسين في الأعلى، حيث تجسيد تأثير الحكايا الشعبية على نفسية الأطفال هو تسليط الضوء على الخوف منذ بداية إيغاله في النفوس، وجعل المرء المتلقي يوغل في ماهية الخوف وأثره على شخصية الإنسان والتحكم في أطوار تطوره ونشأته وتأثير البيئة عليه ومن ثم علاقته بالآخر، ومدى قدرته على تجاوز شعوره بالفزع أو الإحباط،جعل التخيلات والأوهام بمثابة عقاقير فاسدة يتم تعاطيها لتثبيت أركان الخوف حيث تسيدت الخرافة المشهد الحي للجماهير التي تقبل لخطابات السلطة وتوابعها الدينية والشعبية لتكون الحقنة الأساسية لدوام ذهنية القطيع والتحلق حول السيد الواحد، لهذا نجد أن التبعية تتغذى من خلال فعل التسيد على مجموعة بشرية من خلال جعل أذهانها مهيأة لاستقبال الخوف منذ الطفولة ، وتصبح تلك العملية من خلال الزمن، الطريقة الناجعة لتعليب المجتمع واستخدامه كوسيلة لتحديث السلطة القامعة وتأصيلها عبر التربية والقص الحكائي الذي تتبعه الأمهات أو الجدات في محاكاتهم لخيال الأطفال، من ثم جاءت الآلة الإعلامية- التلفاز- لتؤدي تلك الوظيفة على أكمل وجه، إذ يتم إخصاء رغبة الجماهير بالانعتاق وبوجود سلطة متزنة تحكمها الشعوب لا فئة معينة تمارس وصايتها واحتكارها لمفهوم الوطنية واسترداد الحق، حيث نتج عن هضم الحقوق ووضع الحدود بروز السلطات الحزبية التي تمثل تلك البنى السرطانية ، الهادفة للوصول إلى السلطة واللعب على وتر المطالبة بالحرية أو صون الأرض، ولكن غايتها الأولى هو شرعنة بقاءها في السلطة إلى مالانهاية، فالاختبار الذي تواجهه الجماهير هنا هو الوصول لمجتمع ديمقراطي وسلطة حقيقية يتشارك في بناءها وممارستها الجميع دون اسثناء، أما ممارسة دور الوصاية السلطوية على مفهوم القومية أو الطائفية لغايات سلطوية فئوية فهو بمثابة الاستمرار بخداع الجماهير وتغييب حقوقها الجوهرية المتمثلة في سن قوانين تكفل مواطنتها ورفاهيتها وممارسة حرياتها، فأمام مشاهد الخيبة واليأس، نجد الذات تنكمش في كوامنها ولا تتعدى أفعالها متاهة الحرب الداخلية، حيث المجتمعات أكثر ما تكون اغتراباً عن حقيقتها وكذلك فإن مجموع الأخطاء والتقاسمات حالت دون حدوث الإندماج الطوعي فيما بين هذه الشعوب، حيث أنظمتها تحول دون أن يكون ثمة اندماج قائم على الرضا والتشاركية، حيث فساد النظام يعني انهيار المجتمع، حيث اللعب على وتر الأعراق هو ماشكل ومهد ضمنياً لحدوث الحرب الأهلية التي مزقت بنشوبها ما تبقى من خريطة الوطن المرقع، والخوف يستقر في أوساط
24
المجتمعات التي تفتقر لقانون ضامن لحياتها ، نظراً أن التعاليم الإيديولوجية بطابعها القومي قد غطت عيوب وأخطاء القائمين على الإدارة، وقد خلقوا بدوام وجودهم هذا التزعزع المجتمعي، ووفروا الأرضية الملائمة لحدوث اضطرابات متعددة، فالسلطة عمدت على تأسيس جماهير تعمل في خدمتها وتقتل الجماهير الأخرى على الطرف المقابل إن أرادت وأعلنت الحرب، حيث ببروز الجماهير المحافظة على سلطاتها وإن كان عددها متدنياً فهي تكفل حدوث اضطرابات وفوضى وحروب أكثر سوء إن عمدت السلطة لذلك، لهذا نجد الرهبة بتعدد أساليبها قادرة على إنشاء سلسلة تصادمات بإمكانها أن تشتت وتعمل على التفتيت على نحو يجعل المجتمع ساحة حرب مستمرة، فالخوف يهدد على الدوام بظهور أجيال غير منضبطة، ومن الممكن أن تكون ألعوبة دائمة بيد تلك القوى المجاورة التي تجد من التداخلات الإقليمية لمنطقة الشرق الأوسط وسيلة لبسط النفوذ، ناهيك عن قرارات ومحاولات الدول ذوي القوة والإمكانية في استثمار ما نتج عن غياب النظام المؤسساتي لرسم المنطقة بما ينسجم مع مصالحها، وهكذا يتولد الاغتراب ويتضخم أكثر فأكثر بين
الأفراد، نتيجة التبصر بحقيقة الواقع وعدم المقدرة على التأثير وإحداث شيء،
إن الصراعات الاجتماعية من عمل السلطات الشمولية، حيث جعلت من قوانينها أشبه بكوابيس لا تزول، وتبقى لها آثار على وعي الأفراد وتحولاتهم، وحتى على اتجاهاتهم مع الوقت، لهذا لا يمكن أن نعي حقيقة الإنقسام بين الجماهير إثر ارتباطها بمنظومة سلطوية عملت تلك الأخيرة باستماتة على تشتيت القدرات وبعثرة الجهود المعرفية، فأن تمارس الدولة القومية ذلك النهب والسلب فهو باعث حتمي على نشوب الفوضى اللا منتهية، والتي لها مآلات ونتائج سلبية على تلك الحالة التعايشية التي لا بد وبظهورها أن يعم السلام والتسامح بين المكونات، ولكن هل من تخلّص حقيقي وجذري لسموم وآفات ما نقلته السلطة القامعة من أروقتها إلى تلك الفئات التي أسماها غوستاف لوبن بالمجرمة،إن السلطة تلجأ إلى إحباط أحلام وآمال جماهيرها بالتحرر والتحول الديمقراطي، عندما تبدأ بتأليب بعضها ضد بعض، فواقع شعوب الشرق الأوسط والعالم العربي يحتاج لمزيد من التأمل والبحث حول ظاهرة التأليب الجماهيري لما له من نتائج كارثية على الأمم، وتباين الخطاب الديني "المذهبي"عن القومي رغم تقاطعه في العديد من الأهداف التي تتصل في تهويم الجماهير والقفز على مطالبها الجوهرية المتجسدة في الدمقرطة وحقوق الإنسان وسيادة القانون المدني.فألاعيب السلطة لا تتوقف على حساب تعاسة الجماهير وقلة حيلتها وانعدام وجود إرادة جماهيرية واعية، يجعلها تحترب فيما بينها ، ليس لصالح السلطة فحسب بل لصالح أجندات دول إقليمية تخاف من انتقال أي هبة جماهيرية إليها، إن التنسيق الحتمي والاضطراري بين منظومة دول الشرق الأوسط وأخصها المتقاسمة لكوردستان تعمل على تناقض مصالحها في الحفاظ على العقلية الأبوية الشمولية وحماية مكتسباتها الفئوية مهما كلفها ذلك من التجاء للدول ذات الأهمية الاستراتيجية للعمل المشترك على تهويم الجماهير وترويضها بما يتلاءم مع الحاجات والمصالح المشتركة ، فبقاء العقل الجماهيري في غيبوبة عن الفعل الحضاري المعرفي وعدم قدرتها عن التخلي عن تلك العقلية الإقصائية والتفكير الديني بمعناه السياسي التقليدي ، يحول دون انتقالها لمرحلة السلم الديمقراطي بمعناه
. الجوهري لا الشكلي
إن هيمنة الفكر القومي العروبي على مكونات شعوب العالم العربي عموماً وشعوب سوريا والعراق خصوصاً محاولة منها
لإلغاء حقيقة التنوع هو بمثابة إعلان حرب حامية الوطيس على المنجز الحضاري المشترك وزج الجماهير في صدامات لا
حصر لها،
إن استجابة الجماهير الوارثة لعقلية السلطة الشمولية لنداء التخريب والفوضى الكامنة في غرائزها ولا وعيها جعل الخوف بمثابة الهاجس الماثل في الأذهان والأعين، حيث أن طباع الجماهير وضحالة وعيها بمفاهيم التعايش السلمي ، جعلها تسير لمنحى ما تريد السلطة تصديره من أوهام وأحلام واهنة يمكن من خلاله أن تتحول تلك الجماهير إلى وقود ملتهبة لمعارك الداخل والخارج على حد سواء، حيث نجح رجال الدين باستثمار المذاهب والطوائف كما نجح السلطويون والذين يتزعمون النظرية الثورية بوضع الجماهير بخنادق متقابلة راحت تزجهم في صراعات لا تكاد تنتهي، فما أشد انقياد القطيع

25
لتحقيق غايات ومآرب القادة إثر خطاباتهم الرنانة ، وقد نجحوا في إيجاد جماهير تتقبل أفعالهم وتسلطهم وتمارس ذات تصرفاتهم وتحمل ذات أفكارهم وإيديولوجياتهم ، فإن تم فرضاً إسقاط أي نظام ديكتاتوري أو طاغية فهل يتم إسقاط الفكر الذي تشربته هذه الجماهير؟! وتقنعت به ، حيث باتت مسلكاً يعد بأجيال رئاسية تحمل ذات العلة، حيث باتت دعوات إسقاط الأنظمة البراقة بمثابة تبديل للملابس الداخلية، إذ أن إسقاط الفكر الشمولي ومحو سذاجة العوام وإزالة روح القطيع هو ما يجب إسقاطه وذلك
.. ببعث ثورة ذهنية شاملة لا تحتمل أدنى لبس أو مواربة
تجسيد الانتقاضة تعبير عن ردة فعل متراكمة زمنياً، تعبِّر عن ظلم ماثل جراء تعسف وبطش السلطة التي استعبدت الجماهير ، جعلتها ميدان اقتتال وتنازع، مبعدة إياها عن التنوير والوعي، جاعلة كل المؤسسات والمرافق هدفاً لغضب الجماهير إبان الانتفاضة الكوردستانية في التي انطلقت شرارتها من مدينة قامشلو،
حيث أن النظام القومي الفئوي اتخذ من نفسه مرجعاً وأساساً، والمناهضين للنظام لا يقلون عنه أنانية وتخبطاً، في ظل حالة الفوضى والنقمة الرديئة لا يمكن الإتيان بأي حركة ناجعة، فالحصار الأعمق هو ضحالة التفكير وسوء المواجهة، ما من خيار سوى الألم والهروب، حيث شمرت القيادات والأحزاب والسلطات عن
زنودها وتسابقت لفرض أجنداتها المختلفة لحكم الجماهير وتوجيهها تحت مسميات ومزاعم مختلفة ، تخفي غاياتها الجوهرية المتمثلة بحيازة السلطة والواقع، وبقاء الوعي الجماهيري مغيباً في ظل النزوح الكبير لذوي الإمكانات والطاقات
. الشابة إلى الخارج
ففي ظل زيادة المرتهنين المأجورين من قبل السلطة وانعدام الأصوات التنويرية والتي تتقصى وتنظر لمراقبة الحياة عن كثب، يبقى السبيل إلى الفوضى الكارثية مفتوحاً، حيث الخطر الأكبر المحدق على أمن المجتمع وسلامته الفكرية هو إلزام الشموليين كافة الشرائح على اعتناق فكر واحد مصدره شخص تم تنصيبه كروح إله على الأرض، إن هذا الخطر يمهد لاحتقان بطيئ وخطير في آن، كونه يقصي على نحو أرعن كل رأي مختلف أو متمايز، ويصبح ثمة حاجة ماسة مع الوقت للجوء إلى القوة المضادة، والتي بدورها لن تتخلى عن أقنعتها وأجنداتها في أن تكون البديل الهش عن ذاك النمط القائم، يمثل الاغتراب عن الذات والرغبة الأكيدة في التوحد شكلاً أقصى من أشكال الحاجة، وانعدام ذلك يؤدي إلى الاكتئاب العنيف الذي يأخذ عدة أطر ومستويات تتصاعد في حدتها، فالهاجس السياسي والعاطفي معاً يمثل في شكله تحدياً هائلاً إلى جانب الهروب للخارج والذي يضاعف من المأساة ويجسدها على نحو أقوى، فالأفراد الذين يتركون حصيلة تجاربهم وذكرياتهم خلفهم ويمضون نحو حياة مختلفة وجديدة سرعان ما يخوضون سجالات هائلة مع النفس ، تحتدم وتضطرم كجذوة النار ، حيث انقياد الأفراد إلى الجنون والغضب هو بمثابة إعلان الحرب على الخوف واجتثاثه من العقل من كونه منظومة تم تأصيلها بعناية بمختلف السبل في الذائقة الجمعية، وقد أضحت بمثابة سلوك يصعب تجاوزه حتى أن الفن يتجسد في مجتمعات الخوف بكونه تجسيداً لا أكثر عن عمق الهوة بين الإنسان والوجود والعالم، ليغدو الغد بمثابة قلق يصعب تجاوزه نظراً لانعدام وجود وعي قادر على الإتيان بمفاهيم عيش جديدة وقادرة على إنجاح الصراع لصالح المواجهة المعرفية لقوى التجهيل، وتعاني مفاهيم الوعي الأولية اضطراباً وخللاً يصعب تداركه في ظل انعدام الثقة بين المجتمع،فبغياب الثقة تلك تغدو مواجهة منظومة العسف صعبة، ولا يستطيع المعرفيون بمفردهم مواجهة تركة العبودية والبطش التي قامت السلطات الشمولية في تمثيلها في حياة الناس عبر بوابة الدين والعادات والتقاليد، والحكايات الشعبية ،مما يتحتم على ذلك ازدياد نسبة العاهات والاضطرابات النفسية التي تعكس في أصلها الاضطراب السياسي وضياع الحريات وتفشي ذلك الورم السرطاني المتجسد في تأليه القادة والشخصيات وإسباغ القداسة عليهم والتغني بصناعة الموت عبر استثمار ظاهرة الاستشهاد لأغراض تتعلق بتحقيق الارتباط العاطفي الأعمى بين الجماهير وتلك المنظومة، هذا ما يفقد الناس الفكر المجرد، ليقودهم كقطيع خائر القوى إلى ميدان التهويم والألم، فالخوف هو عقدة من لا يفكر ، وهاجس من يلوذ بالفرار دون أن يخرج نفسه من هذا الخوف الذي يمثل ذلك التحدي لمجتمعات الشرق

26
الأوسط المحاصرة بأغلال ناجمة عن الفساد والتطرف والتمذهب، ناهيك عن تلك المركزية في تداول الحكم وعن إعجاب
الجماهير بمستبديهم تارة والكراهية لهم تارة أخرى كما في حالة حب بعض معارضي الحكم في سوريا للديكتاتور العراقي السابق صدام حسين ، والعكس، لهذا لا نجد لدى الجماهير ذهنية متقدة ترفض الاستبداد وتتعامل معه بشكل واضح وواعي، إنما نجد تذبذباً في خطابها ونظرتها بما يتوافق مع ألاعيب القادة في تلميع صورتهم خارج الحدود متجاهلين تلك الصورة في الداخل، ولعل الجماهير في نزعتها الغريزية للتبعية والانقياد باتت وقوداً لمعارك السلطة والخارج على حد سواء، فالأحداث التي رافقت انتفاضة قامشلو سنة 2004 من رفع شعارات العنصرية والكراهية ضد الكورد هو دليل على نجاح المنظومة القمعية في تفكيك المجتمع وتجزأته ونشر الكراهية في أوساطه إلى أمد بعيد، ،حيث قام الإسلام السياسي بتقوية أركان هذه السلطات الاستبدادية إلى حد كبير، ولعل انعدام وعي المجتمعات بالتاريخ المجرد وكذلك قلة التنظير والجدل والتحليل، جعل القدرات والطاقات الإبداعية تصاب بعجز ودونية أيضاً، الأمر الذي رسخ فيها ذلك الانفصام بين حاضرها وماضيها، وأحيا فيها الدونية والنقص، حيث يمكننا فهم الواقع كتجلي عن فشل المنظومة في احتواء التطلعات الجماهيرية وجعلت من الخوف خبزاً وماء لأفراد من المفترض أن يكونوا أعمدة لبناء الأوطان ، لا أن تكون تلك الأوطان بمثابة كابوس لا يصدقون متى يجلون عنها ، لأوطان غريبة، توسمهم بوشم الاغتراب الفظيع، لهذا نجد الخوف متنقلاً عبر الحدود، لا يفارق سحنات المهاجرين إلى القارة العجوز ، لينصب لهم كمائناً من الوجع الدفين الذي استند على تركة الماضي لما يتخلله من مواقف قاسية، يصعب نسيانها وتجاوزها، والذاكرة وحدها تحتمل كل تلك الأعباء النفسية، إثر سنين من الإجحاف والجور الذي لقيه الناس ، في ظل منظومة الإقصاء
هذا الخوف الوجودي والقلق من العزلة والتهميش الذي يؤدي بالمرء إلى الجمود والعطالة، وكذلك فإنه يجاور الموت بشكل ما، فبتوالي الخيبات والاضطرابات ، يتجسد الخوف أكثر فأكثر في الملامح والأفكار فاجتثاث الخوف من الداخل عملية صعبة للغاية، تختلف عن استئصال ورم سرطاني عن الجسد، ينجم عن تلك المحاولة حالات من الاسترخاء أو التأمل ، طلباً للنسيان ، ليجد نفسه الإنسان في حالة من تناسي تمر بإخفاقات، حيث يأخذ الخوف أشكالاً متعددة منها النفسي والفكري والثقافي، حيث يوغل الخوف بسهولة في كل رغبات واهتمامات وأفكار المرء، ويصبح الانفكاك عنه محالاً في لحظات استذكار الأحداث، حسب هولها أو شدة وقعها على النفس، فالحب بات بمثابة الفاجعة الأكثر رهبة على مسرح الخوف من الموت والنهاية أو العزلة المفضية إلى التلاشي، حيث نجد الابتعاد عن المكان متجسداً عن ألم لا يبرح المرء إثر تذكره لنصفه المنتهك ، ولاسيما أن هذا الانتهاك سببه إجحاف التقاليد الاجتماعية الأبوية الوليدة عن تعسف وجور السلطة الشمولية القامعة لكل تغيير في الوعي الفردي أو الجمعي ، فالأب بارع في تعظيم القائد خوفاً، وكذلك المدرس بارع في إزاحة زهوه الفردي بذاته مقابل أن يفدي الرئيس الخالد بشعارات الإجلال، وهو في الآن ذاته يضع مستقبل الأجيال على المحك، حيث يلزمهم أن يتلقوا على يديهم دروس الإذعان والخضوع ، وهكذا تصاب التربية والتعليم في محنة كبيرة ، إزاء التخلف الذي رسم الخوف ببراعة في
تفاصيل الحياة المعيشة، ويعم البؤس الفكري والروحي نتيجة هذا الحصار المطبق على المجتمع ليكون في الأسر دائماً، وتعم الفوضى المؤسسات، لتكون فاقدة المحتوى، تحاصرها المنظومة الأمنية لتخلق منها بؤراً للرقابة على الأفراد، ولعل الاتفاقيات الاستعمارية التي جرت لتقاسم بلد وتجزئة آخر ليس ذريعة متينة لإلقاء اللوم على تلك المرحلة التي اقتضت ذلك إلا أن قيام نظم استبدادية شمولية فيما بعد هو نتيجة عن فراغ معرفي جماهيري، وعن تغييب فكري لدور المعرفيين في التغيير ،وذلك لضاءلة تواجدهم ورداءة أدواتهم، فمن كان رفده مقتبس من الفكر القومي الهدام، أو خريج المدارس الدينية فعلى أي بنى قويمة يستطيع الإستناد لتدشين دعائم حكم ديمقراطي مدني تعددي؟!!، إن هذا يدفعنا للتساؤل عن ماهية الخوف وكيفية صناعته منذ نشأة الطفل وسماعه للحكايا الشعبية وكذلك ذهابه للمدرسة وتلقيه تربية أشبه بمكوثه في المعتقل،
حيث يسهم الخوف بالتضييق على حياة الناس ويدفعهم للصمت أو الانفجار بسخونة لا حد لها، وهذا يجعلهم يشعرون بأن أقدارهم في صناعة التغيير تتضاءل بمجيء الفوضى، ناهيك عن هجرة أصحاب الكفاءات والعقول، ومن تسنى له الحظ

27
بأن ينقذ بقايا أحلامه من الضياع والتلاشي في أتون معارك السلطة وتوغلها في ميادين الحياة والمؤسسات، ما يلبث أن يبقى
الخوف هاجساً فلسفياً يوحد سائر البشر في قانون التغير والسير باتجاه الفناء طوراً بعد طور، مما يكشف عن دوافع ورغبات الكائن الإنساني في التوثب للعمل والحركة وبعث النشاط في النفوس والأذهان، إن مواجهة الخوف وتلك القوى التي تحافظ عليه كنظام هيمنة وإخضاع يحتاج لنهضة شاملة ولنظرة أكثر تفاؤل باتجاه الغد، ولكن نجد أن نتائجه تحول دون رؤية أفضل لهذا الانفتاح، حيث تلك الفوضى التي تغرق في أتونها الجماهير ، تسهم في حروب جديدة تستعر وتنتشر، وتكون أنظمة الدول الشمولية معرضة لأزمات مختلفة ، لا تكاد تتوقف،حيث وصفت تلك السلطات الشمولية أي ميل إلى الدمقرطة بمثابة تمهيد للفوضى والتزعزع، وكذلك فإن أي رغبة في تطوير أفكار الزعيم الملهم و استنباط رؤى منها هو بمثابة خروج عن المنهج، فلا بد من تحويل أفكار الزعيم الرمز إلى تمثال يتغنى به المريديون والأتباع، والالتزام به لدرجة النسك والتعبّد، وهكذا فإن تحجر الإيديولوجية دون تطويرها هو بمثابة تجميد لمدركات العقل المعرفي وإسفاف به، وكذلك فإن فترة الاتفاقات والمعاهدات التي رسمت معالم الشرق الأوسط وقامت بتحويل هويات تلك الشعوب وفقاً للجغرافيا والمصالح المبنية عليها، هو بمثابة اختبار للشعوب الحالمة ووقوعها في أسر الأحلام القومية والطائفية، التي مجدت الفكر القومي لصالح تذويب الأقليات أو القوميات الأخرى في بوتقة عرق واحد، كالعروبة والطوارانية والفارسية، والتي استماتت في اللعب على ذلك الوتر، حتى تهالكت الشعوب وتضررت كثيراً بفعل هذه السياسة البغيضة، وقادتها لميادين الفوضى كالعبيد السعداء، إنهم يعبدون الماضي ويضيعون في دوامته دون هدى، يحنون لأيام الفتوحات والامبراطوريات، فيبتعدون عن الحاضر وطبيعته، وينبذون بذلك التعايش أو أي نظام مؤسس على التنمية والإنتاج والإنصاف، إن تجميد الفكر،وتحنيطه وتعليب المقترحات وتجميد الرؤى من عمل السلطة الشمولية وهي تهدف بذلك لتهجير ذوي المدركات العقلية وإبعادهم أو تصفيتهم، فعندما يتم التضييق على ذوي الإدراكات والتي تستشعر خطر السلطات الشمولية في كل حقبة، تسود حالة من الإفلاس الجماهيري، في ضآلة إمكانية مواجهتها للأخطار القادمة، لهذا فعامل الخوف لا يقتصر فحسب على الأفراد كمسبب مباشر للفزع والذهول، وإنما يدخل في خضم الأفكار ليبعث فيها الوهن والخرافة ، حيث يعد بمثابة الحاجز الرهيب الذي يواجهه المعرفيون بكل بسالة في أنحاء الوجود منذ قدم الصراع بين الجهالة والمعرفة، تركزت ضرواة الصراع أكثر في حقل إشكالية التنازع بين السلطة والجماهير، فلم تفلح جهود السلطويين في إخماد جذوة ذوي المدركات الحرة ، رغم محاولتهم لاستمالة المثقفين وأنصافهم ، وكذلك الفلاسفة أو الفنانيين، والذين اصطفوا إلى جانب الجماهير، وواكبوا تطلعاتها الفتية كان لهم النصيب في ترك الأثر من حضارة وفنون ومهن استطاعت أن تسهم في البناء في كل مكان من أنحاء الوجود الهندسي، الجماهير الساعية لإزالة صنوف البغي والظلم والفساد، حيث إنجاز الحراك المستنير ومحاولة دفعه للأمام يمثل مفتاحاً حقيقياً لحل معضلات الأفراد في ظل المجتمع
فليس الخوف حدثاً مرتبطاً بواقع مرير فحسب، إنما هو منظومة سلطوية ثقافية دينية متكاملة، اجتمعت العوامل كافة على ترسيخه وتأصيله، لهذا يستحيل تجاوزه على صعيد الفرد، فمع بحثنا لهذا الإشكال المعقد، نجد أن كل ما يتصل بالأعراف والتقاليد سلطوية المنشأ، تفرِّخ مع الزمن أجيالاً من حكام فاسدين، يُوجدون بسهولة أصناف من البشر ، يتصفون بالرياء والحمق، يكونون بمثابة داعمين لهم، إزاء فئة منبوذة تسعى السلطات لخنقها، حيث أن الفكر القومي هو بمثابة مطرقة سلطوية، والفكر المذهبي وليد الدين السياسي هو الكابوس المقيم ، ولعلهما يمثلان الخوف الأشمل من محاولات الخروج من هذه القوقعة، حيث يمثل الإنسان الشرق الأوسطي ذلك القربان المقدس للصوص بشرية مثّلوا ببراعة مسرحية المستبد الإله الذي لابد وأن يتغذى على لحوم المستضعفين كي يبقى للأبد، أو ليتهالك دونه العشب والحجر والماء ، ولن تتجاوز هذه الشعوب تركة الأفكار السلطوية المتأصلة في النفوس إلا بالتنوير المعرفي وتجاوز المقدس الغيبي ، والقومي بمعناه التفاخري الذي يفرض معادلة السيد والعبد، وكذلك المذهبي بمفهومه السادي الغائص في أحقاد الدين السياسي ، وعليه فإن المستقبل للمعرفيين الذين بإمكانهم تجاوز كل ذلك ، وهذا
!! مرهون بالوقت ويا للطول بال الوقت وبرودة أعصابه
إن التجهيل نظام سلطوي شمولي ليس هو تماماً تلك الأمية بمعناها التقليدي، وإنما معناه الجوهري هو الابتعاد عن كل

28
رفد معرفي يحيي لدى الجماهير نقاء الذهن وولوج الأفكار الحرة إليها، إنها منظومة التسليم بأفكار وفلسفة القائد الملهم
والرمز، بين قطيع آدمي متحرك يسير كالأغنام خلفه، وتلامذته متصوفون بليدوا الذهن مغيبون عن كل فكر خارج فكره، وتصور خارج تصوره، إنه نظام مقتبس عن عوائد التقاليد الدينية في تمجيد ولاة النعمة، ولا يمكن له أن يحقق أدنى مستوى من الديمقراطية والانفتاح على الآخر، وهو الإذعان والقبول بكل ما يصدر عن السلطة الإيديولوجية التي رسخت تلك الهالة في شخصية القائد الفيلسوف، والمنصبة تماثيله وصوره في الأروقة والساحات الكبيرة، حيث النظام الشمولي بهذا الشكل بات الخوف الأكبر، وضياع الأفراد بين فكي الاعتقال أو التصفية أو الهروب هو ما مثّل ذلك التحدي أمام مسيرة الجماهير في حياتها
إن النوايا المحمودة تحتاج دوماً لعقول مستنيرة تؤمن بالمعرفة ، وتنتصر لنفسها على منظومة الخوف المقدس ، ولعل *
الثورة الأكثر توهجاً وصدق هي المنبعثة عن إيمان الإنسان بالعقل وقدرته على أداء المهام العصيبة، بتنسيق جمعي قوامه التحاور، إننا لا نحتاج لنوايا وقتية تنبع عن إحساس عشوائي غير مدروس، حيث تنقص مجتمعات الخوف تلك الرؤى المعرفية التي تبحث عن شؤون المستقبل أكثر من شؤون الماضي والغيب، وترتقي عقلاً وروحاً بدلاً من أن ترفع شاخصات
. المحظور والمكروه، إيماناً منها بأن الخلاص كامن في المعرفة والحب ومتجلِ بجمال ورفعة الوجود الهندسي
استطاعت السلطة تقسيم المجتمع عبر زرع الكراهية، وبث الفكر القومي المتطرف تجاه الأقليات بخاصة المجتمع الكوردستاني، مما يعتبر ذلك حجر الأساس لأي تقسيم قائم بحدوث حرب خارجية هدفها إضعاف هذه السلطة ، ليكون التقسيم جغرافياً مدعوماً بتقسيم ممارس ومعاش قامت السلطة الشمولية بإنجازه
غلبة الذكورية والنظام الأبوي وسيطرته على عقول النشء والأفراد ككل، كنظام وليد عن الجسم السلطوي ورزع الشقاق*
الكبير بين أفراد العائلة واضطهاد المرأة الأم والحبيبة وإبعاد الأفراد الشباب على التفكير بالحب وإنجاحه عبر بناء العائلة السعيدة، إنما سيطرة التقاليد الأبوية ، أسهمت في زيادة الشرخ والاغتراب أكثر فأكثر ، وباعدت بين أبناء الأسرة الواحدة ، وفتحت
. سبيلاً للعلائق الإباحية القائمة خلف الكواليس، إيماناً بالعبثية وحالة الضياع والخوف وابتعاداً عن الحب الطبيعي
كشف الطفولة المضطربة التي يسودها الخوف والإهمال والعنف في ميدان التربية والتعليم، والرقابة على الحياة وتنشئة*
الأطفال في بيئات الخوف والكبح والتعنيف، حيث لهذا دور في تحديد شخصية وأدوار الأفراد بغياب مساحة معينة من الحرية وانتشار مظاهر الفوضى جراء التباعد بين الناس وانتشار العوز والحاجة ، وسيطرة المفاهيم المتعلقة بالدين
. السياسي والخرافة وسيادة روح الإقطاع والخوف من الحكومة
الترابط في الأفكار والمشاهد كلها تتمحور حول جذور الخوف وتطوره استناداً لواقع مجموعة من الناس تعيش ضمن *
جغرافيا مترابطة ومتشابكة، تجمع أناسها ، على اختلاف شرائحهم، نظام مركزي شمولي يعتمد الحلول الأمنية القمعية
. أسلوباً للتحكم فيهم،وقد استمد النظام المؤسس قوته من المنظومة الذكورية المتأصلة في المجتمع عبر التاريخ
كشف التآمر على العقل الشرق أوسطي وتحريك الجماهير لتنفيذ أجندات السلطة القومية الشوفينية والتي ادخرت جهودها
في معاداة الشعوب والأقليات غير العربية واعتبار وجودها بمثابة مؤامرة على الوطن والوطنية، لهذا نجد كم الكراهية
.والاحتقان الذي سببته هذه السلطة في جر الجماهير لويلات الاحتقار والحروب والصدامات اللا منتهية
التركيز على وصف الشريحة المنكوبة وصفاتها النفسية من قلق وجنون وغضب وتمرد بعد عهود صمت متراكم،وطريقة *
29
التعبير عن الخوف وممارسته برياء ونفاق ، وقمع الطفل في البيت وتحذيره من ضرورة التنبه وعدم شتم الرئيس المفدى، خشية أن يداهم الأمن المنزل، وكذلك اتقاء من بطش الأعين التي تتجسس لصالح المخابرات، أي كيفية زرع الخوف وتحويله لكابوس مقيم على الصدور، ولاشك أن الرهبة تعني دوام التجهيل والتهويم وسيادة التقاليد والأعراف وموت
. للحريات كافة، وهكذا تغدو الحياة في أوساط المجتمع عوزاً ومعاناة وألم لا يبرح النفس والذاكرة
نلحظ انقياد الشباب إلى الشهوانية وممارسة غرائز الجسد كرغبة في تناسي الوجع القائم في القلب والوجدان،وهذا اللجوء*
للشهوانية تعليله هو الإخفاق في ميدان الحب الطبيعي الذي يحتاج نتيجة مرضية وهو بناء عائلة سعيدة، إلا أنه في بيئات
العنف والتجهيل ، نلحظ بروز الشهوات الحسية كردة فعل عن إغلاق قنوات الحرية والاتصال الطبيعي بين الذات والآخر
تتعمق الهوة بين الناس أكثر فأكثر حينما يكثر حولها المراؤون والمتملقون الذين يزعمون الولاء للقائد الأوحد، ويبدأ سيل*
الهتاف بحياة الرئيس ، ليرتعد كل الناس من هول ومغبة الإساءة إليه، وليغدو البيت ، الشارع ، العائلة والمدرسة كلها مكتظة بتماثيله وصوره ، وتصبح الحياة ضرباً من البلادة والتمجيد المريض له، إزاء عقل لا يستطيع التفكير وأعماق خائرة
القوى، أنهكها الترديد والصمت المطبق، هذا النظام السلطوي قوض الحياة بمؤسساتها وميادينها المختلفة، وأفسد ذائقة العوام وقادهم ليكونوا منافقين حتى الموت أو مرتهنين مادامت السلطة، أو هاربين إلى حياة أخرى لا يمكنها أن تنسيهم مرارة العيش داخل البلاد، لأن الإنسان محكوم بماضيه ومواقفه وآلامه، فهو مقيد بالجذور، ولا يجد الحياة خارج عالمه المصقول بذكريات
. الأهل والأصحاب ولاسيما أنه يحمل ثقافته خليط تقاليد وعادات بيئته أينما ولى الأدبار

30



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن