بعض المنشور فى مجلة ( سطور) قصص تاريخية (2 )

أحمد صبحى منصور
handh241@gmail.com

2019 / 2 / 26

بعض المنشور فى مجلة ( سطور) قصص تاريخية (2 )

هذه القصة التاريخية إستلزمت بحثا تاريخيا مرهقا. بعد نشرها قصة تاريخية قمت بعمل سيناريو لها كان ضمن مواد مشروع (إصلاح التعليم ) الذى تبنّاه مركز ابن خلدون ، وتحول السيناريو الى فيلم درامى قصير .
نشرت سطور القصة التاريخية بعنوان ( التسامح في مواجهة التعصب : قصة مجهولة في عهد المتوكل ) مع عناوين جانبية : ( تعصب المتوكل للأتراك ضد العرب حتى خلا الجيش منهم . ) ( إضطهد المعتزلة والصوفية والشيعة وأهل الكتاب ) ( " أراجوز " صاحب شرطة ابن طولون منع الجهر بالبسملة .)
1 ـ اغلب فقرات التسامح في تاريخنا العربي توجد في مصر.وإذا كانت العصور الوسطي المظلمة هي في الأغلب قرون التعصب الديني، فان تاريخ مصر وقتها كان في اغلبه تسامحا، والسبب في طبيعة المصريين أنفسهم، خصوصا الأقباط المشهورين بالصبر والتحمل .
2 ـ وعموما فان التعصب أصبح سياسة رسمية للدولة العباسية في عهد الخليفة المتوكل على الله ، الذي حكم فيما بين عام 232 هـ إلى مقتله عام 247 هـ . ومن غريب الاتفاق أنني عثرت على حادثة تاريخية تقابل تعصب المتوكل بأسمى درجات التسامح , بطلها قبطي مجهول , من حقه علينا أن نحتفل به وبمثاليته .
3 ـ وقد أورد هذه القصة أبو جعفر احمد بن يوسف في كتابه " المكافأة " . ولان المؤلف كان من كتاب احمد بن طولون المشهور بحزمه وسطوته , فان المؤلف ذكر قصص عصره دون التصريح بأسماء أبطالها , الذين كانوا يعيشون وقتها ,ومنهم القبطي المثالي بطل قصتنا , والآخر الكاتب العباسي الذي اختفى لديه .
4 ـ وموجز القصة انه ببعض ريف مصر كان يعيش قبطي كثير المال كثير الكرم تصل عطاياه لأهل الفسطاط من المسلمين المستورين , وحدث أن هرب من الخليفة المتوكل احد كبار الدولة لأنه كان يميل إلى المنتصر ابن الخليفة المتوكل والذي كان على شقاق مع أبيه , وتخفّى ذلك الرجل وجاء للفسطاط ،وخاف أن يتعرف عليه أهلها من العراقيين , فدخل إلى الريف وذهب إلى ذلك النصراني الكريم فاستضافه النصراني . وعمل لديه ذلك الرجل وتوثقت بينهما الصداقة . ولم يصرح الرجل للنصراني بحقيقته. وأصبح الرجل متصرفا في ضياع صديقه النصرنى . ثم جاء صاحب الجباية إلى القبطي يخبره بمقتل الخليفة المتوكل وتولى ابنه المنتصر الخلافة، وان المنتصر أرسل إلى مصر بالبحث عن صديقه الهارب وان يبعثوه إليه بكل تكريم . وعندها اعترف الرجل لصديقه القبطي بأنه الرجل المقصود، وصمم القبطي على إكرام صديقه عند سفره . وأوصى الرجل موظفي الدولة بالفسطاط بإكرام صديقه القبطي . ثم ذهب إلى بغداد ومستقبله السياسي هناك . ثم حدث أن جاء لمصر وال شديد أوقع مظالم بأهلها ومنهم القبطي ، فسافر القبطى إلى بغداد يشكو إلى صديقه فيها ، فرآه في جاهه وسلطانه ، واستقبله صديقه أعظم استقبال ، ورفع الظلم عنه ، وظل القبطي مقيما لديه عاما في أعظم حال، وعند عودته أعلن القبطي تنازله عن كل ضياعه لصديقه المسئول الكبير في بغداد، فرفض الأخير، إلا أن القبطي حين جاء للفسطاط جدد تنازله عن ضياعه لصديقه، ولكن صديقه البغدادي رفض ذلك. وتركها لأهل القبطي بعد موت القبطي .
5 ـ ولم يذكر الكاتب من أسماء أبطال تلك الرواية إلا اثنين كانا قد ماتا ، وهما المتوكل وابنه المنتصر. والواضح أن زمن أحداث الرواية هو قبيل وفاة المتوكل اى سنة 246هـ إلى سنة 264هـ , وفقا لما انتهى إليه بحثنا في تحقيق الأسماء الحقيقية للقصة وأبطالها ..
6 ـ ونبدأ بالتوقف مع الخليفة المتوكل, الشخصية السلبية في القصة ، بل وفى تاريخنا من عصره وحتى الآن .
الخمر والنساء والمتوكل :
1 ـ ويمكن إيجاز تاريخ المتوكل في كلمتين هما المجون والتعصب
2 ـ عن المجون اشتهر بالخمر التي صاحبته حتى نهاية عمره ومقتله. أما عن النساء فقد اشتهر بغرامه المجنون بمحظيته " قبيحة " التي كانت أجمل نساء عصرها، وهى أم ابنه المعتز، وقد أوسع لنفوذها في خلافته فكانت سببا في مقتله، كما كانت سببا في قتل ابنها وفشله في خلافته أيضا. إلا أنه مع حبه - أي الخليفة المتوكل - لمحظيته قبيحة ونفوذها السياسي, لم يكن مخلصا لها .
3 ـ وقد اشتهر المتوكل أيضا بالتعصب ...
3 / 1 - تعصب للغلمان الأتراك , وفى سبيلهم أقصى الفرس والعرب من الجيش . وكانت النتيجة أن لقي حتفه على أيدي الغلمان الأتراك. ثم اعتاد الأتراك قتل الخلفاء اللاحقين، المنتصر, المستعين, المعتز, المهتدى ... الخ .
3 / 2 : وتعصب لابنه المعتز من حبيبته قبيحة ضد ابنه الأكبر المنتصر، فأراد تقديم المعتز على المنتصر، واضطهد أصدقاء المنتصر داخل البلاط ، ومنهم بطل قصتنا الذي هرب إلى منه إلى الفسطاط متنكرا ، وعمل لدى القبطي الكريم . وبالغ المتوكل في إهانة ابنه المنتصر حتى يجبره على التنازل عن ولاية العهد لأخيه المعتز ، فكانت النتيجة أن تآمر المنتصر مع الأتراك على قتل أبيه المتوكل ، وقتله، ثم مات المنتصر في العام التالي مسموما بيد الأتراك .
3 / 3 - وتعصب لأهل الحديث والفقهاء ( وكان يطلق عليهم الحشوية اى الذين يحشون عقولهم بأقوال منسوبة للنبي دون دليل) . وفى سبيل هذا التعصب اضطهد المعتزلة أهل العقل والنظر، واضطهد الصوفية والشيعة ، واضطهد أهل الكتاب أو أهل الذمة. وفى عهده أصدر المتوكل أول القرارات بإلزام أهل الذمة بلبس الأغلال والقيود ، ومنعهم من ركوب الخيل سنة 235 هـ . كما أمر بهدم ضريح الحسين في كربلاء سنة 237هـ ، كما حاكم شيوخ التصوف فيما يعرف بفتنة " سمنون " ، واضطر الجنيد شيخ الصوفية لآن يعلن ارتباطه بالكتاب والسنة ويمتنع من تدريس التصوف وعقائده . وقد عاش في عصر المتوكل أئمة الحديث مثل ابن حنبل والبخاري ومسلم وابن راهويه والشاذكونى والمدينى والقواديرى , ويحيى بن معين. وقد أرسل المتوكل أئمة الحديث إلى الآفاق للتبشير بآرائهم المخالفة للمعتزلة والصوفية والشيعة . وكان ذلك منذ عام 234هـ ، وتعاظم هذا في السنوات التالية. وأدى ذلك إلى بداية التراجع في العقلية والفكر ، إذ تسيد الفكر السلفي ( اى أصبح سيدا ) ، وانحصر الصراع بينه وبين الفكر الصوفي والشيعي وانهزمت المرجعية العقلية الناقدة للمعتزلة ، وحل محلها مرجعية كهنوتية ، تدعى الانتماء إلى قدسية الحديث النبوي ، لدى ما يعرف بأهل السنة ، أو منسوبة لآل البيت لدى الشيعة، أو منسوبة للأولياء الصوفية, بزعم معرفتهم بالعلم اللدنى . وحيث توجد تلك القدسية في أرائهم المنسوبة للنبي (صلعم) وآله وللأولياء المقدسين , فقد أقيمت المتاريس أمام حركة العقل . تلك المتاريس التي أعيدت في عصرنا الراهن مع صحوة السلفية والتعصب الذي أرساه ذلك الخليفة المتوكل.
الحسن بن مخلد :
1 ـ ولكن من ذلك الضحية الهارب ؟ الذي لم يصرح به كاتب الرواية؟ من الطبيعي انه لم يصرح به لأنه كان يعيش في دولة ابن طولون التي كان المؤلف كاتبا فيها , ومن خلال البحث عرفنا شخصيته : انه الحسن ابن مخلد. فمن الحسن بن مخلد هذا؟
2 ـ نتعرف على شخصيته من خلال تاريخ الطبري وسيرة ابن طولون للكاتب الطولوني عبد الله بن محمد البلوى .
3 ـ لقد ذكره الطبري لأول مرة في أحداث سنة 243هـ كأحد أتباع عبد الله بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل . وقد تولى الحسن بن مخلد ديوان الضياع , خلفا لإبراهيم بن العباس . وبعدها انقطع الطبري عن ذكر الحسن بن مخلد من سنة 248هـ ، وهى السنوات التي اختفى فيها في مصر في ضيعة القبطي النبيل وفيها قتل المتوكل ثم قتل ابنه . ثم تولى المستعين وظهر الحسن بن مخلد كأحد كبار الكتاب في دولته . وانشغل الحسن بن مخلد في صراعات مع القواد الأتراك ، خصوصا صالح بن وصيف . وتعرض للسجن مع رفيقيه أبى نوح واحمد بن إسرائيل ، وكان الثلاثة اكبر الكتاب الوزراء المسيطرين على مالية الدولة العباسية . وقد قتل الأتراك احمد بن إسرائيل وأبا نوح ، واستبقوا الحسن بن مخلد في السجن إلى أن أطلق سراحه، وشهد مقتل خصمه صالح بن وصيف . وبالمناسبة فصالح ابن وصيف هذا هو غريم الخليفة المعتز ، وهو الذي أوقع بأم المعتز "قبيحة" ( التي أضاعت ابنها كما أضاعت أباه المتوكل من قبل ) وكانت نهايتها أن أصبحت بعد مقتل ابنها الخليفة المعتز أسيرة لدى خصمها التركي صالح بن وصيف , فاغتصبها وأذلها , وانتقم منها .
4 ـ ونعود إلى صاحبنا الحسن بن مخلد وقد تآمر على الخليفة التالي المهتدى إلى أن قتله الأتراك سنة 256هـ , ثم عمل وزيرا للخليفة التالي المعتمد على الله سنة 264هـ , ثم اختلف معه وهرب . وكان للحسن بن مخلد أفضال على احمد بن طولون ، لذلك فان أخبار الحسن حين انقطعت في تاريخ الطبري نجدها تظهر في سيرة ابن طولون لابن البلوى وكلاهما الطبري وابن البلوى عاشا عصر الحسن بن مخلد ، فيذكر البلوى أن الحسن بن مخلد أعان احمد بن طولون في صراعه مع ابن المدبر كاتب الخراج ، وحين طورد الحسن بن مخلد للمرة الثانية في بغداد في خلافة المعتمد هرب ثانيا إلى مصر حيث استضافه ابن طولون .
5 ـ والواضح أن الحسن بن مخلد ( وكان مقاربا للمنتصر بن المتوكل في السن ويعيش معه في القصر ) حين اختفى تلك السنوات ـ كان هو القائد الخطير الشأن الذي هرب إلى مصر واختفى في ضيعة القبطي النبيل . ثم عاد إلى سطور الطبري حين وصل إلى أوج نفوذه , ثم اسقط الطبري ذكره منذ سنة 264 هجريا , ليظهر في شخصيته الحقيقية في مصر بين سطور سيرة ابن طولون , وبسبب شهرته فقد تحاشى الكاتب الطولوني صاحب كتاب " المكافأة" أن يذكر اسمه . وان أشار في نهاية قصته إلى رفض الحسن بن مخلد - للمرة الثانية – أن يأخذ ضيعة القبطي , وأبقاها في يد ورثته بعد وفاته , اى رجع الحسن بن مخلد إلى مصر .
ابن طولون وعهده :
1 ـ ونعود إلى القصة الأصلية . ونحاول أن نتعرف على الوالي الذي ظلم القبطي وجعله يسافر إلى بغداد ليستنجد بالحسن بن مخلد.
2 ـ وهنا نرجع إلى " خطط المقريزى " , وهو يتحدث عن ولاة مصر في تلك الفترة . فقد تولى مصر وقتها يزيد بن عبد الله بن دينار عشر سنوات ( 242-252 هجريا) ، ثم تولى القائد التركي مزاحم بن خاقان ابن عرطوج لمدة عام ، ثم مات وتولى ابنه احمد شهرين ، ومات هو الآخر، فتولى صاحب الشرطة أراجوز بن أولغ بن طرخان ، فظل خمسة اشهر وعزل سنة 254هجريا ، وتولى مكانه احمد بن طولون لتبدأ مصر في عهده عصرا جديدا .
3 ـ ويذكر المقريزى أن القائد التركي مزاحم كان غليظا في معاملته للمصريين والعرب المقيمين فيها ، سواء في الفيوم أم في الحوف الشرقي أو الجيزة أو عند الإسكندرية ، وانه اضطهد ليس فقط أهل الكتاب ، بل أيضا المسلمين والفقهاء في الفسطاط ، وفق التشدد السلفي . وكان ذلك على يد أراجوز صاحب الشرطة . فمنع النساء من الحمامات والمقابر، وسجن النائحات في الجنازات ، ومنع الجهر بالبسملة في جامع عمرو في رجب سنة 253 هجرية ، وأخذ أهل الجامع بتمام الصفوف ، وعين لذلك رجلا يقوم بالسوط على المصلين في نهاية المسجد ، ومنع من إقامة الحلقات للدراسة ، وأمر أهل الحلقات بالتحول إلى القبلة ، وصادر المساند التي يتكئون عليها والحصر التي يجلسون عليها .. وأكثر من العقوبات عليهم . ومن الواضح أن تلك العقوبات كان مقصودا بها أحد الفقهاء المستنيرين المعارضين . فإذا كان يفعل ذلك بأهل القبلة فكيف كان يتصرف مع غير المسلمين ؟
ومن هنا نفهم ما أشار إليه صاحب كتاب "المكافأة" من اضطهاد القبطي النبيل ولجوئه إلى صديقه الحسن بن مخلد حتى يرفع عنه الظلم .
المتوكل العنصري !
1 ـ ونصل إلى شخصية أخيرة لم تظهر بين سطور الرواية , ولكنها تتراءى في الخيال الدرامي . فلو تخيلنا أن الحسن بن مخلد بعد أن خرج من بغداد خائفا يترقب ودخل الفسطاط على حين غفلة من أهلها ، متنكرا في رداء صوفي خشن , يخشى أن يتعرف عليه بعض البغداديين القادمين للفسطاط .. لو تخيلنا ذلك فان المتوقع أن نراه وقد ذهب إلى جامع عمرو بالفسطاط , حيث كان فقيه الفسطاط في عصره ينتقد الأحوال ويحظى بكراهية الحكام , وهو الشيخ محمد بن الحسن اليماني . ونتوقع أن يكون الحسن ـ الباحث عن ملجأ يختبئ فيه ـ قد سمع من الشيخ الثائر انتقادا لأوامر المتوكل بتحقير أهل الكتاب . وكان الفقيه ابن الحسن اليماني زاهدا فقيرا . والمتوقع أن صدقات القبطي النبيل التي تصل للمساتير من أهل الفسطاط كانت تصل إليه . والمتوقع أيضا أن صدور قرارات المتوكل بتحقير أهل الكتاب في الزى جعلت صاحبنا القبطي النبيل يمتنع عن المجئ للفسطاط احتراما لنفسه ، مما جعل الشيخ اليماني يبالغ في انتقاده لسياسة المتوكل التي تخالف عهد الذمة وسماحة الإسلام ، وباعدت بين ذلك القبطي النبيل وأصدقائه في الفسطاط . ومن المتوقع أيضا أن يستمع الحسن بن مخلد لطرف من حديث الشيخ ، ولذلك نراه يتجه رأسا إلى القبطي النبيل في مزرعته الريف ليختبئ عنده ويعمل لديه . وهذه التوقعات لا مجال لها في البحث التاريخي , ولكن مجالها في الخيال الدرامي الذي يملأ الفجوات بين أحداث الرواية التاريخية بمنطق العصر وثقافته .
2 ـ وإذن فقد تعرفنا على شخصيات الرواية سواء من ذكرهم الراوي بالاسم مثل المتوكل وابنه المنتصر أو من ذكرهم بالوصف مثل الوالي مزاحم , أو من لم يذكرهم ونتوقع وجودهم مثل الفقيه المجهول الزاهد محمد بن الحسن اليماني .
3 ـ ولكن بقيت الشخصية الأساسية وهى القبطي النبيل الذي لم نعثر على اسمه . وعذرنا أن التعصب في العصور الوسطي هو الذي منع المؤرخين ومنهم مؤلف كتاب "المكافأة" من ذكر اسم ذلك القبطي الكريم , واكتفى بأن ذكر عنوان الرواية كالآتي " نصراني ومستتر " وهكذا أتاح المؤرخون للخليفة الماجن المتوكل على الله أن يتجول بين سطور التاريخ وأهملوا عظماء من الناس كان من بينهم ذلك القبطي النبيل المجهول . ولذلك اجتهدنا في هذا البحث لنقدم تحية له , ولعله يكون احد أجدادي , أو أحد أجدادك عزيزي القارئ المصري ...


الأميرة التي تزوجت من خادمها ( سطور 16 /7/1994....)
1 ـ اغلب الخلفاء العباسيين كانت أمهاتهم من الجواري ، واشهر من كان منهم من أم عربية هاشمية هو محمد الأمين بن زبيدة وابن هارون الرشيد ... وبسبب ندرة زواج الخلفاء العباسيين من الحرائر كانت الزوجة الحرة تحمل لقب " الحرة " تمييزا وشرفا لها عن باقي محظيات الخليفة من الجواري .
2 ـ وكان منهن الحرة بنت بدر مولى الخليفة المعتضد .. تلك المرأة التي غلب عليها لقب الحرة حين تزوجها الخليفة المقتدر ابن الخليفة المعتضد .. وتناسى المؤرخون اسمها ، ولم يذكروا سوى أنها الحرة زوجة الخليفة المقتدر وابنة بدر القائد العباسي الذي كان من موالى الخليفة المعتضد .. وأبوها بدر الحمامى المشهور بلقب بدر الكبير ، كان من كبار القواد الأتراك فى خلافة المعتضد بالله العباسي ، وفد حاز ثقة سيده الخليفة الذي كان قلما يحوز احد على ثقته .. ويذكر أن المعتضد أرسله ليتولى أعمال مصر مع ابن طولون فلما خرج ابن طولون على الدولة العباسية فارقه بدر إلى الخليفة المعتصد ، وقد كافأه الخليفة على إخلاصه فجعله واليا على فارس فخرج إلى عمله وأقام فيها على الطاعة إلى أن مات فيها ..
3 ـ وذكر صاحب " تاريخ بغداد " إن بدر الكبير كان مشهورا بالصلاح وكان يقول الشعر وانه أصلح بلاد فارس وشكر السلطان والناس عمله ، وظل محمود السيرة إلى أن توفى سنة 311 هجريا فكافأه السلطان بأن اسند الولاية بعده لابنه محمد في فارس . والحق ابنته بطلة قصتنا بالبلاط العباسي .. إذن نشأت بنت بدر المعتضدى الكبير في بيت إمارة ورفاهية مع أبيها ثم مع أميرات الخلافة فلما انتقلت الخلافة ـ فيا بعد ـ إلى المقتدر بن المعتضد العباسي تزوجها .. فكانت الزوجة الحرة الوحيدة لديه ..
4 ـ وكان المقتدر مشهورا بحب الشهوات من النساء والشراب ، إلى جانب شهوته الكبيرة في الإسراف . فهو الذي فرق جواهر الخلافة ونفائسها على محظياته من الجواري ، وكان في داره المئات منهن بالإضافة إلى احد عشر ألف غلام ، وقد أنجب إثنى عشر ولدا ذكرا ، تولى منهم الخلافة فيما بعد ثلاثة هم الراضي والمتقى والمطيع . وكانت أم الراضي جارية رومية اسمها ظلوم ، وكانت أم المتقى جارية اسمها خلوب، أما المطيع وهو أكثرهم بقاء في الخلافة فكانت أمه جارية اسمها شغلة وقد ولدته سنة 301. أما بطلة قصتنا فلم تنجب للخليفة المقتدر ولدا ولا بنتا .. ومع ذلك فقد كان بارا بها مكرما لهل وقد اعتاد أن يعطيها الأموال والتحف الكثيرة كنوع من الاعتذار عن انشغاله عنها بالجواري الكثيرات اللائي يملأن قصره ..
وتحملت بنت بدر الحياة مع زوجها المفتون بالجواري . ورضيت بان تظل حبيسة قصر زوجها الخليفة الذي لا تراه إلا لماما.. والذي ترك شئون الحكم في يد أمه " شغب " المشهورة بالسيدة ..
5 ـ ومرت السنون بطيئة متثاقلة إلى أن ثار القائد العباسي مؤنس الخادم على سيده الخليفة المقتدر واستطاع قتله سنة 320 هجريا . بعد أن ظل خليفة حوالي ربع قرن . وبمقتل الخليفة المقتدر تسلط أعداؤه على أتباعه وجواريه ومحظياته وكنوزه .وماتت أمه تحت التعذيب . وصودرت كل الأموال . ولكن خرجت أرملته الحرة بنت بدر المعتضدى بدون أذى لأنها لم تشارك في مؤامرات السياسة ، ولان جند الخلافة من الأتراك كانوا لا يزالون يحتفظون لأبيها بدر بكل الشكر والعرفان . ولذلك خرجت – كما يقول المؤرخون – وقد سلم لها جميع أموالها وذخائرها حتى لم يذهب لها شيء . وأضيفت إلى أموالها ما ورثته عن أبيها من ضياع وأموال . ثم أضيف إلى ذلك جمعيه تحررها من سجن الخلافة وحبس الزواج الذي كان مجرد زواج شفهي في اغلب الأحوال ..
6 ـ وانتقلت الأميرة الجديدة إلى قصر منيف في بغداد ملأته بالخدم والجواري والقهرمانات ، أي الوصيفات ، وتطلعت إلى أن تعيش حياتها أو ما بقى من حياتها . وتقدم لها كثيرون من رجالات الدولة يطلبونها للزواج تسبقهم أطماعهم في أموالها ، فرفضتهم ، ليس لأنها تعرف أطماعهم ولكن أيضا لأنها تعرف أن قصورهم تمتلىء بالجواري والمحظيات ، ولا تريد أن تكرر حياتها الخالية السابقة مع الخليفة المقتدر . كانت تريد أن يكون لها زوج لا يعرف غيرها ، زوج تختاره هي بقلبها وبعقلها ، ليس مهما أن يكون غنيا أو صاحب جاه ، إنما المهم أن يكون شابا وسيما ذكيا ممتلئا بالحيوية ، باختصار تصرفت بمنطق الخلفاء حين كانوا يختارون الجواري . ليس المهم أصلها وفصلها ، ولكن المهم جمالها وذكاؤها وثقافتها .. بهذه المشاعر أخذت تتفحص الرجال حولها .. فوقع نظرها على الشاب محمد بن جعفر ..
محمد بن جعفر :
1 ـ بدأ محمد بن جعفر حياته طالبا للعلم ، سمع الحديث والتاريخ والسيرة النبوية على يد المؤرخ المشهور محمد بن جرير الطبري والبغوى وابن أبى داود .. وغيرهم من الأئمة .. وبسبب فقره وطموحه آثر أن يعمل خادما لدى ( الحرة ) الأميرة العباسية أرملة المقتدر بهدف أن ينال الحظوة عندها فيرتفع شأنه لديها فيتولى النظارة على بعض أملاكها وضياعها .. لذلك عمل بذكائه على أن يصعد السلم خطوة خطوة ، لم يأنف أن يعمل في بدايته في حمل الخضروات ومستلزمات المطبخ من الأسواق إلى مطبخ مخدومته ، ولم يأنف أن يقضى نهاره في خدمة قهرمانة المطبخ يلبى طلباتها وأوامرها . فاكتسب ثناء الخدم والخادمات واكتسب إعجابهم بذكائه وحركته الدءوب ، واكتسب أكثر من ذلك اهتمام الأميرة به . فجعلته وكيل المطبخ ، وصار يأخذ الأموال ويتصرف ويحاسبه مدير القصر ثم ازدادت ثقتها به فجعلته وكيلها في كل شئون البيت ، وبعدها صار وكيلا عنها في إدارة كل ضياعها وعقاراتها وأموالها ، وبعد أن كانت تكلمه من وراء حجاب أصبحت تتحدث معه مشافهة .
2 ـ ولم تعد تستطيع أن تكتم حبها له ورغبتها فيه . وأدرك هو أنها تريد أن تتزوجه . وترك لها أن تطلب ذلك بنفسها . وفى النهاية صرحت له برغبتها في زواجه . وشرح لها الصعوبات التي تنتظرهما من ذلك الزواج غير المتكافىء ، فهو أجير عندها ولا يزال فقيرا ، إذ أن أمانته في رعاية أموالها لم تجعل منه غنيا ثريا كما يتوقع الناس من أمثال من يتولون وظائفه . ولم تفطن إلى أطماعه المستترة بين سطور كلامه ، وغلبت عليها رغبتها في الحصول عليه مهما كلفها الثمن ، لذلك نفذت له كل مطالبه أو بما أقنعها به أنها خطته المثالية في كسر الحواجز الطبقية بينهما ..
3 ـ أعطته الأموال والعقارات باسمه ، وترك العمل عندها وعاد إلى طلب العلم كما كان ، وتوصل بالأموال والهدايا والرشاوى لأن يعنيه القاضي في بغداد شاهدا ، أي شاهد عدل تطلب السلطات الرسمية شهادته في المحيط الذي يعيش فيه ، وأصبح مشهورا بالاستقامة والعلم والأموال ، وعندئذ تقدم للزواج بها ، وكانت هي قد قدمت هدايا للقضاة حتى أقروا بأنه كفء لها ، واعترض أهلها وأولياؤها فبذلت لهم الأموال فاستكانوا لحكم القضاة بالكفاءة بينهما ..
4 ـ وتم الزواج وعاشت الأميرة ( السابقة ) زوجة سعيدة مع من أحبه قلبها واختارته بعقلها ؛ شابا وسيما زكيا مثقفا عالما . وظلت تعيش في سعادتها إلى أن ماتت في نحو الخمسين من عمرها ، بعد حوالي عشر سنوات من زواجها بحبيبها .
بعد وفاة الحرة :
1 ـ واستكمل محمد بن جعفر باقي خطته . كانت قد جعلته وصيا على أموالها الأخرى ، بعد أن ورث نصف أموالها بحكم الشرع . وعن طريق صلته بالقاضي أبى السائب أقر له القاضي بالسيطرة على باقي التركة على أنها أوقاف طبقا لما أوصت به زوجته قبل وفاتها ، وبذلك حرم أقاربها من تركتها . أو مما بقى من تركتها . وأصبح محمد بن جعفر – وهو في ريعان شبابه – يتحكم في سيولة مالية قدرها ثلاثمائة ألف دينار ، عدا العقارات والضياع . وحمل مع تلك الأموال لقبا جديدا عرف به في المصادر التاريخية وهو لقب " زوج الحرة " . يقول عنه الخطيب البغدادي " وهو إلى الآن لا يعرف إلا بزوج الحرة ، وإنما سميت الحرة لأجل تزويج المقتدر بها ، وكذا عادة الخلفاء لغلبة المماليك من الجواري عليهم ، فإذا كانت لهم زوجة قيل لها الحرة " ..
2 ـ وتفرغ محمد بن جعفر – زوج الحرة – لإلقاء العلم ، وحضر مجلسه الطلبة . وكان من تلامذته القاضي الجراحي والدار قطني وغيرهم .. وتوفى ليلة الجمعة الرابع من صفر سنة 372 هجريا .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن