الإصلاح الهادئ العميق لا الثورات المُدمِّرة !؟

سليم نصر الرقعي
elragihe2007@yahoo.co.uk

2019 / 2 / 20

بعد كل هذه التجارب الكبيرة والمريرة التي تجسدت ابتداءً في ثورات الربيع العربي الأول التي أعقبت حقبة الاستقلال والتي كان للتيار القومي العروبي الاشتراكي دور رئيسي في اشعالها ثم الاستيلاء عليها وبالتالي تخريبها وافشالها، وتجسدت انتهاءً في ثورات الربيع الثاني التي كان للتيار الإسلامي بجناحيه الاخواني والسلفي الجهادي دور رئيسي في اشعالها ثم الاستيلاء عليها وبالتالي تخريبها وافشالها، بعد كل هذه التجارب، وبعد أن بلغت هذا العمر فشاب شعري وانحنى ظهري، وبالرغم أنني كنت من أصحاب التوجهات الثورية الراديكالية خلال حقبة نشاطي السياسي المعارض للنظام الحاكم لبلادي (ليبيا)، فإنني أجدني – بعد كل ما ذكرتُ - أعترف بالحقائق التي أسفرت عنها هذه التجارب وهي تتمثل في عدة حقائق يمكن لكل باحث وعاقل استخلاصها والتي من أهمها حقيقتين رئيسيتين:

(1) الحقيقة الأولى:
--------------------
أن النخب السياسية والمثقفة العربية وغير العربية من سكان منطقتنا ليست على المستوى المطلوب، أو بمعنى أدق هي نخب فاشلة وقاصرة فكريًا وسياسيًا، تفتقد للرشد السياسي الذي يقتضي أولًا الشعور العميق والكبير بالمسؤولية الوطنية والأخلاقية فيما يتعلق بقضية الانتقال الديموقراطي والنهوض الوطني، ويقتضي ثانيًا التحلي بالواقعية والعقلانية السياسية سواء في التفكير والفكر السياسي أو في التعامل مع الواقع السياسي المراد تغييره وتطويره.. فهذه النخب السياسية سواء كانت تنتمي إلى التوجهات الإسلامية أو التوجهات العلمانية ومن خلال طروحاتها النظرية وأيضًا من خلال تصرفاتها وسلوكها السياسي تفتقد بلا شك لهذا الرشد السياسي المطلوب واللازم لتحقيق الديموقراطية، فهي نخب غير راشدة وبالتالي فهي غير مُؤهلة قطعًا للحلول محل هؤلاء الحكام العرب الذين صرتُ أراهم – بكل عيوبهم ونقائصهم – أكثر نضجًا وواقعية من الناحية السياسية من هذه النخب السياسية العربية بكل أشكالها، وأقول هنا "أكثر نضجًا وواقعية" ليس بالقياس للحد المطلوب من كل حاكم عاقل وراشد وإنما أقول هذا بالقياس إلى هذه النخب السياسية المعارضة الطوباوية والمُتنطعة والتي لم تتخلص بعدُ من مراهقتها السياسية وأحلامها الرومانسية بعد!!!.. فكيف يمكن لهؤلاء قيادة هذه الدول وهذه المجتمعات لبر الأمان وطريق الرشاد والنهوض!!؟؟.... فهؤلاء الحكام – بكل معايبهم واستبدادهم وفسادهم - أقل خطرًا وضررًا على شعوبنا وبلداننا وعلى استقرار المنطقة من هذه النُخب المراهقة والمغامرة غير العقلانية وغير المسؤولة الغارقة في المنطق المثالي والخيال الطوباوي المفصول عن واقعنا العربي الحقيقي والعميق!..... بصراحة وبكل صدق وجدية إنني أشك في صلاحية هذه النخب السياسية للحلول محل هؤلاء الحكام العرب الحاليين، وأشك في قدرتهم على ممارسة حكم ديموقراطي رشيد إذا ما حلوا محل هؤلاء الحكام!!.

(2) الحقيقة الثانية:
----------------
أن الحلول الراديكالية الجذرية الثورية سواء تمثلت في انقلابات عسكرية أو في ثورات شعبية جماهيرية لن تُجدي نفعًا في (الحالة العربية) بل إنها وكما ثبت من خلال هذه التجارب الكبيرة والمريرة منذ انتهاء حقبة الاحتلال وقيام دول الاستقلال لا تفعل شيئًا غير أنها تهدم كل شيء وترجع بنا القهقري ألوف الخطوات إلى الوراء، سواء فيما يتعلق بمحاولات التنمية السياسية الديموقراطية أو فيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية أو حتى فيما يتعلق بالنهضة الثقافية والفكرية والأدبية!.. والواقع العربي قدامكم عريان بلا ورقة التوت!، ارجعوا للحقبة التي أعقبت الاحتلال، أي حقبة الاستقلال، وانظروا ماذا فعلت بها ثورات القوميين العرب وانقلاباتهم العسكرية وحجم التخلف والدمار الفكري والأخلاقي والسياسي والاقتصادي الذي ألحقته بمجتمعاتنا!!؟؟... وكذلك قارنوا بين المكاسب السياسية والفكرية والثقافية التي كانت تنمو تدريجيًا بالرغم من الحكم الديكتاتوري وبين الوضع الحالي والدمار الشامل الذي خلفته ثورات (الربيع) العربي الثاني الذي استحال إلى خريف عربي مخيف خصوصًا مع ظهور الدواعش!!! .
وبناءً على هاتين الحقيقتيْنِ المستخلصتيْن من هذه التجارب الكبيرة والمريرة فإنني فيما يتعلق بمسألة التغيير السياسي في عالمنا العربي وللتخلص من الحكم الجبري (الديكتاتوري) والانتقال إلى مرحلة حكم ديموقراطي ليبرالي رشيد يحترم هوية وثوابت كل مجتمع عربي، فإنني أرى أن الحل الصحيح في تقديري يكون بالكفِّ عن كل هذه المناهج الثورية الجذرية (الراديكالية) سواء بصيغتها ووصفتها (الاسلاماوية) أو بصبغتها ووصفتها (العلمانوية) واللجوء إلى (الحكمة السياسية) التي تقوم على التعامل مع الواقع السياسي بطريقة عقلانية واقعية رشيدة من خلال السعي إلى الاصلاح السياسي التدريجي من أجل تفكيك (المُلك العضوض) و(الحُكم الجبري) الديكتاتوري، خطوة خطوة، وإحلال محله ((نظام ديموقراطي رشيد)) يعيد للأمة حقها في اختيار قيادتها السياسية بنفسها من بين عدة خيارات وأن تضبط الحاكم ( أو العائلة المالكة والحاكمة) بدستور يمثل شروط الأمة لمن يحكمها ويقودها!.. بل ويجعل للأمة حق عزل الحاكم عن طريق القضاء المستقل إذا ثبتت عليه تهمة الفساد أو تهمة مخلة بالشرف ...الخ ... فهذا هو الطريق وهذا هو الحل للخروج من هذا المأزق المزمن الذي وضع الأمة بين خيارين أحلاهما مر أي إما الصبر على ظلم وفساد وفسق الحكّام وما يلحقوه بالأمة من ذلٍ وضرر عام في دينها ودنياها أو الخروج عليهم في ثورة هوجاء عمياء صماء خرقاء ترتدي جلباب الدين أو الحداثة وتكون النتيجة فتنة دموية وحرب أهلية لا تبقي ولا تذر، لواحة للبشر، تُلقي بالأمة في قعر الجحيم وتعيدنا مرة أخرى إلى نقطة الصفر أو ربما تحت الصفر!.. فالحل، إذن، هو الطريق الثالث ويتمثل في سعي العقلاء والحكماء من أبناء منطقتنا ووفق منهج اصلاحي سلمي تدريجي يقوم على تغيير القناعات العامة خطوة خطوة لتمكين الديموقراطية وفي ظل ثوابتنا وهويتنا الثقافية العامة ... ولا شك أن تحقيق هذا الإصلاح السياسي التدريجي وفق خطة للتنمية السياسية يتفق عليها جمهور الشعب والنخب في كل بلد عربي يتطلب حالة من السلام والهدوء والاستقرار وهذا يتم أولًا عن تحقيق (مصالحة اجتماعية وطنية) بين القوى الحاكمة من جهة والقوى المعارضة ومن جهة بين فئات وشرائح وطوائف الأمة وكل بلد تنتهي بكتابة (ميثاق وطني) مكتوب يمثل القيم والضوابط التي تفق عليها جمهور كل بلد لضمان حياة وطنية حرة وعادلة وسليمة ومستقرة.. والميثاق الوطني الذي نقصده هنا غير الدستور، فالميثاق الوطني هو دليل النخب السياسية بكافة شرائحها الذي تستهدي به في ضبط حراكها ونشاطها السياسي ومنافساتها السياسية... ثم مع هذه (المصالحة الوطنية) في كل قطر عربي نحتاج إلى (مصالحة قومية) بين الأقطار العربية التي تولدت لديها حساسيات ومنازعات بل وأحقاد نتيجة ثورات الربيع العربي الأولى الفاشلة (ثورات القوميين) وثورات الربيع العربي الثاني الفاشلة (ثورات الإسلاميين)!.. فلا شك أن تفكيك ونزع فتيل هذه المنازعات الشديدة (العربية/العربية) خصوصًا فيما يجري حاليًا بين أقطار الخليج العربي وإيقاف هذه الحرب الإعلامية الجنونية المسعورة التي تقود كبرها وتسعر نارها قناتي داحس والغبراء!.. أي قناتي (الجزيرة) و(العربية) هو أمر مهم جدًا لخلق أجواء إقليمية ووطنية هادئة وسليمة تساعد في تحقيق خطط الإصلاح والانفتاح السياسي الليبرالي والديموقراطي في كل قطر عربي وبشكل تدريجي رصين، ورحلة ألف ميل تبدأ بخطوة واحدة.. وهذا هو الطريق!.
***********
سليم نصر الرقعي
(*) كذلك فإن العمل على تحسين العلاقات مع دول إقليمية (إسلامية) مثل (تركيا) و(ايران) لا شك سيخدم قضية الاستقرار والهدوء العام والذي بدوره سيخدم قضية التنمية السياسية والنمو السياسي في بلداننا بشرط أن تلتزم تركيا وايران بوقف دعم المنظمات الإسلامية (السنية والشيعية) وخصوصًا ذات الطابع المسلح كالسلفية الجهادية وحزب الله وحركة انصار الله الحوتية وما شابه!، وخصوصًا ايران التي عملت خلال الحقبة الماضية بدوافع ايدويولوجية وسياسية على استخدام بعض الشيعة العرب كأدوات سياسية في البلدان العربية ومدهم بأسباب المال والقوة المسلحة لتكوين (طابور خامس) موالٍ للدولة الإيرانية ونظام الملالي الحاكم في هذه البلدان العربية، حتى باتت ايران خلال هذه المرحلة تهدد الأمن والاستقرار العربي أكثر من العدو الاستراتيجي للعرب أي دولة الصهاينة المقامة على أرض فلسطين!!!... أتمنى لو تتراجع ايران للوراء خطوتين وتراجع سياساتها (الإمبريالية) الحالية تجاه العالم العربي فإن ذلك سيكون خيرًا للشعب الإيراني والشعوب العربية جميعًا!.. فلو تتحلى ايران بالحكمة يمكنها أن تشكل مع العرب وتركيا طوقًا يحول دون تمدد النفوذ السرطاني الصهيوني لا أن تتحول إيران ذاتها إلى نوع من السرطان الذي ينتشر في عالمنا العربي كما يحصل الآن!!!؟؟؟.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن