عبد الحميد الزهراوي والفكرة العربية السياسية

ميثم الجنابي
m-aljanabi@mail.ru

2019 / 2 / 17

إن مأثرة عبد الحميد الزهراوي (1855-1916) الكبرى تقوم في دراما تجسيده الفعلي لحقيقة الفكرة السياسية التي تمثلها ومثلها وسعى لتأسيسها في الوعي الاجتماعي العربي الحديث. من هنا مفارقة دوره الفاعل في تأسيس الفكرة العربية (القومية) السياسية وصورته المغمورة في التاريخ العلني للعالم العربي الحديث. لكنها مفارقة تكشف بدورها عن أن الشخصيات الكبرى وأفكارها الحية عادة ما تذوب في مسار الحركة التاريخية وتتلاشى في أفق البدائل.
فقد مثل عبد الحميد الزهراوي الحالة الحرجة لتوليف تيارات كان يصعب تأسيسها بمعايير المنهج الموحد آنذاك، وذلك لان اغلب مكوناتها كانت تتسم بقدر كبير من التأمل والبحث والتجريب، والمقصود بذلك تيارات النهضة الأدبية والإصلاحية الإسلامية واليقظة القومية. وليس مصادفة أن نعثر فيه على ما يمكن دعوته بالصيغة الباردة لتوهج الفكرة السياسية الإصلاحية لمعاصره الكواكبي (1854-1902) وحرارة الفكرة السياسية القومية لنجيب عازوري. ووجد ذلك انعكاسه فيما يمكن دعوته بالصيغة المعتدلة والعميقة أيضا لتوحيد فكرة التربية السياسية وروح الجمعية (وليس الجماعة). وهذه بدورها ليست إلا الصيغة الذكية للفكر القومية السياسية. وليس مصادفة أن نعثر عليها مبثوثة في كل ما تناوله من قضايا، كما أنها تبرز في حصيلة استنتاجاته العملية الداعمة لتأسيس الفكرة القومية باعتبارها فكرة سياسية.
فقد تراكم تأسيس الفكرة العربية القومية بوصفها فكرة سياسية في مجرى توسع وتعمق وتنظيم الرؤية الواقعية والعقلانية والتاريخية والاجتماعية والسياسية تجاه مختلف القضايا وعند مختلف التيارات والشخصيات العربية التي سبقت الزهراوي على امتداد عقود عديدة من الزمن. وليس مصادفة فيما يبدو أن نعثر على صدى هذه الإحساس والإدراك العقلي والعقلاني الذي ميز كتابات ومواقف الزهراوي من القيمة التاريخية والروحية والسياسية والقومية للفكر النظري والمفكرين. إذ نراه يعير اهتمامه الكبير لدور من اسماهم برجال "الفكر والنوابغ الذي عليه مدار سلوك الأمة، بل مسالك الحياة الاجتماعية والسياسية" . من هنا مناقشته لما اسماه بأسباب قلة آثارهم رغم كثرتهم، والتي حصرها في كل من التفرق حسب الجماعات، واختلاف مصادر المعلومات والفكر، بمعنى أن منهم من أستاذه الانجليز، وآخر أستاذه الألمان، وثالث الفرنسيون، ورابع الأسلاف، وما إلى ذلك. الأمر الذي يضعهم في تضاد وصراعات وعدم قبول احدهم بالآخر. بينما يشكل التقليد، وتمايز القابلية، وتغاير الإرادات، وتفاوت الأعمار، وتباعد الديار، وتباين المناهج، وصراع الأحزاب السياسية البقية الباقية من هذه الأسباب .
إننا نقف هنا أمام رؤية واقعية ومتفحصة ودقيقة للأسباب القائمة وراء مفارقة الظاهرة الفعلية والتاريخية لكثرة النخب وانعدام أو ضعف تأثيرها الفعلي. وفي الوقت نفسه تبرز ما يمكن دعوته بتناسب الأسباب وفكرة الأولوية. بمعنى إدراكه الحقيقة القائلة، بان منظومة الأسباب الفاعلة في صعود الأمم وهبوطها لا تلغي مهمة إبراز الأولي من الثانوي، على العكس. أنها تفترض ذلك لما له من اثر جوهري بالنسبة للحلول العملية. وفيما لو انظرنا إلى ما وضعه الزهراوي بهذا الصدد، فإننا نقف أمام إبرازه لأولوية التفرق حسب الجماعات الذي يستدرج أو يفعّل البقية الباقية بالشكل الذي يجعل منها أسبابا إضافية للتخريب، مع أنها بحد ذاتها ليست أسبابا للتخريب، كما هو الحال بالنسبة لتنوع واختلاف "الأساتذة" و"مصادر العلوم والمعارف" وتغاير الإرادات وتفاوت الأعمار وتباين المناهج، أي كل تلك الأسباب التي يمكنها أن تفعّل المعرفة والوعي والإرادة والتنافس، ولكن في ظل تمسكها بفكرة الوحدة الكبرى، أي المرجعية الجامعة والعاصمة بالقدر ذاته لمسار الرؤية الواقعية والعقلانية. إذ لم تعن فكرة "التفرق حسب الجماعات" عند الزهراوي، بوصفها قوة مدمرة ومخربة سوى فكرة التفرقة المختلفة (وليس المتنوعة) ومن ثم انعدام ما سيطلق علية عبارة روح الجمعية، أي الروح القومية الاجتماعية الكبرى. فقد كان الزهراوي إلى جانب فكرة التنوع والاختلاف أيضا. لكنه وجد فيهما سببا يقف دون التطور السريع في ظروف التربية السياسية الضعيفة. ومن هنا أيضا استنتاجه القائل، بان مصادر العلوم العديدة والمختلفة لا تؤثر سلبا في حال استقلالهم بالتفكير. بعبارة أخرى، إن هشاشة الوعي السياسي وضعف فكرة الجمعية (أي الانتماء القومي الواضح والجلي بوصفه مرجعية جوهرية كبرى) وانتشار وهيمنة التقليد للقديم والجديد يجعل من المقدمات الشكلية للرقي المحتمل عوامل مخربة.
لم تكن هذه الرؤية واستنتاجاته العملية معزولة عما يمكن دعوته بالروح النقدي للزهراوي، أي الرؤية المنهجية التي حاولت أن تجعل من نقد النفس مقدمة العلم والعمل. وليس مصادفة أن يكون التيار العارم في فكره متشبعا بالحماسة النقدية، أي الرأي الشجاع أو الشجاعة المتروية. ومن الممكن العثور على ذلك في اغلب كتاباته وبنوعيتها أيضا، كما هو جلي في ربطها للعقل بالوجدان، والتاريخ بالمعاصرة، والحاضر بالمستقبل، أي كل ما كان يؤدي إلى تراكم ما يمكن دعوته بالرؤية الإستراتيجية تجاه إشكاليات الواقع والبدائل. في مقالاته العديدة إلى الشباب نراه يحاول البرهنة على ربط الاستقلال الفكري للشباب بالتعلم والعلم، باعتبارهما مكونات الشخصية الحرة والفاعلة. واعتبر الاستقلال الفكري معيار التمييز بين الحسن والقبيح في التاريخ والفكر على السواء. وفي الوقت نفسه نراه يشدد على ما اسماه بزمن الاستقلال الفكري وحدوده. بمعنى أن لكل فعل زمنه الخاص به وحدوده الفعلية. من هنا فكرته عن أن الاستقلال الفكري يتحدد ويرتبط أيضا بكيفية ومدى سبر تاريخ الماضي وتشريعاته ونتائجه وعلى مقدار معرفة الحاضر. ووضع هذه الحصيلة في استنتاجه عما اسماه بضرورة التعلم على أساس ترابط الأسئلة المتعلقة بماهية الأشياء ومكانها وكيفيتها، أي الإجابة على سؤال ماذا تتعلم وأين وكيف. وأجاب عليها بوضوح مباشر أيضا: تعلم العلوم كلها، في الجامعة والمدارس، وبالطريقة العلمية الصحيحة عبر تعميم الكتابة وتعلم العربية وتوسيعها.
وينطبق هذا على أسلوبه فيما كل ما تناوله من إشكاليات وقضايا ومشاريع. بمعنى تركيزه على جوهرية الرؤية النقدية بوصفها رؤية فاحصة ورزينة، عقلية وعقلانية من حيث تأسيسها النظري وأبعادها العملية وغايتها النهائية. لهذا نراه، على سبيل المثال، يقف بالضد مما اسماه "بالغيرة الدينية" التي حاولت تأجيج العداء بين الإسلام والنصرانية. إذ وجد في هذه الإثارة زمن الأزمات صفة مميزة لأولئك الذين ينسون تجارب التاريخ . وانطلق في فكرته هذه من أن الدين ليس سببا جوهريا في الصراع والغزو. وذلك لان الأمم جميعها كانت غازية. إضافة إلى أن الغزو يجري، وكذلك الدفاع والخذلان وغيرها من الظواهر بين الأديان وبين أتباع الدين نفسه .
طبعا أن الزهراوي يدرك الأثر الفعلي والمحتمل للدين في إثارة الصراعات والخلاف، كما يدرك دوره في الصراع التاريخي بين عالم النصرانية وعالم الإسلام، إلا انه سعى هنا لتأسيس أولوية الرؤية النقدية تجاه النفس من اجل تذليل إمكانية استغلال الدين بالشكل الذي يجعله أداة إضافية لتوسيع مدى الانحطاط والانغلاق. ولم تكن هذه الرؤية معزولة عن النقد غير المباشر لتاريخ الاستغلال السياسي للدين (الإسلامي) في توسيع مدى الاستبداد والانحطاط في عالم الإسلام نفسه. مع ما في هذه الرؤية من أبعاد سياسية قومية (عربية) دفينة. ومن الممكن رؤية هذه الأبعاد في فكرته القائلة، بان "الدين ليس قوة في إثارة العصبية". ولا يمكن إغفال ما هذه الفكرة من خروج على مألوف التقاليد الإسلامية التاريخية والسائدة بالأخص في مراحل الانحطاط. لكنها كانت تحتوي في أعماقها على إبراز قيمة وأولوية الوعي السياسي الحديث وفكرة الجمعية (القومية). وذلك لان الاتكال على الدين باعتباره مصدرا للعصبية كان يعني بالنسبة له البقاء ضمن حيز الضعف أو الانعدام الفعلي للتاريخ السياسي القومي الحديث. وبالتالي لم تعن فكرته عن أن "الدين ليس قوة في إثارة العصبية" سوى البحث عن "عصبية" جديدة تتجاوز "ضعف التربية السياسية". من هنا أيضا يمكن تتبع آراءه المتجانسة بهذا الصدد في مجرى تطبيقها على حالة الصراع الخشنة آنذاك بين "الشرق" و"الغرب"، أو عالم النصرانية وعالم الإسلام في تلك المرحلة.
فقد شدد الزهراوي على أن هجوم الغرب على الشرق "ليس هجوم دين على دين، وإنما هو هجوم قوة على ضعف، وعلم على جهل، وغنى على فقر" . بعبارة أخرى، إننا نقف أمام وضوح في الرؤية تبحث عن سبب الخلل في النفس أولا وقبل كل شيء من خلال إرجاعه إلى أشكاله الجلية والواضحة والجوهرية أيضا، والتي وجدها في اختلاف بل وتناقض ثنائية القوة والضعف. ووجد ذلك تعبيره في نقده العام والدقيق لمقدمات ومظاهر الخلل والضعف الشامل للعالم العربي. إذ نراه ينتقد واقع التردي العربي في كافة الميادين والمستويات من خلال نقده لظاهرة غياب العمران، والاستيراد التام لكل شيء من الخارج، وانتشار الجهل، وسوء الإدارة، وانعدام الحرية. كما نراه ينتقد ظاهرة ما اسماه بانعدام الهيبة للرؤساء (العرب) بسبب خضوعهم للأستانة. وكذلك انعدام الأخلاق العامة الرادعة، والاهتمام بالمظاهر وانعدام الجوهر. ووضع كل ذلك وغيره في أساس موقفه من الغزو الأوربي للعالم العربي، باعتباره نتيجة لضعف النفس وقوة الآخرين. فعندما تناول، على سبيل المثال، قضية احتلال ايطاليا لليبيا، فإننا نراه يوجه نقده أولا وقبل كل شيء للنفس ثم للدولة (العثمانية) ثم للمجتمع الإسلامي، ثم للعرب (لفقدانهم جيشهم المستقل وأسطولهم..) ثم للحالة الاجتماعية (الأمراض..) . من هنا نراه ينتقد بشدة أولئك الذين يردون كل أسباب الانحطاط إلى أوربا. بل ونراه يسعى بقوة للبرهنة على أن ماضي السلطة (العثمانية) وحاضرها يكشف عن عمق ومدى السفالة والرذيلة في الدولة والمجتمع على السواء، وان الرذيلة فيه ومنه أولا وقبل كل شيء. ومن هنا استنتاجه الفكري والعملي الذي يكرر بمعايير المواقف السياسية ما سبق وان توصلت إليه الفكرة الفلسفية عن مهمة معرفة النفس باعتبارها أولوية المعرفة. لكنه يضعها ضمن سياق التاريخ السياسي الحديث والحالة التي وصل إليها العالم العربي في ظل الهيمنة التركية والغزو الأوربي والضعف العرب الشامل. ووضع هذه الأولوية في استنتاجه القائل، بان من الضروري معرفة النفس أولا ثم معرفة الآخر . فهي المقدمة الوحيدة القادرة عل إدراك ومعرفة مقدمات وأسباب الضعف من اجل تلافيها. وذلك لان سيادة القوة على الحق نابع من اثر القوة، كما يقول الزهراوي. من هنا استنتاجه القائل، بان سبب الظلم ينبغي نسبه إلى النفس وليس إلى الغير. وأن مواجهة القوة ينبغي أن تكون بالقوة. وانه إذا كانت القوة هي التي تغتصب، فلم ولماذا وكيف نفتقدها. وجمع كل ذلك في فكرة جوهرية تقول، بان القوة نصير الحق، وأن القوة بالوحدة .
وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن فكرة "القوة بالوحدة" ترتبط أيضا بجوهرية فكرة الحرية والاستقلال والتقدم، من هنا يمكن رؤية الترابط العضوي بينهما على انه ترابط بين نقد الاستبداد العثماني والدعوة للاستقلال القومي. فمن الناحية الاجتماعية السياسية ليست فكرة الحرية والاستقلال والتقدم سوى مصدر وأسلوب القوة، وما يقابلها هو مصادر وأساليب الضعف. ومن هذه الفكرة كانت تتلألأ ملامح الفكرة الاجتماعية السياسية القومية، أي عندما أخذت هذه الفكرة تصبح رديفا أو موازية للفكرة القومية ومتغلغلة فيها. وليس مصادفة أن نراه يتساهل في نقد تأثير الدين (بوصفه مكونا ثقافيا) في الصراع "الشرقي – الغربي" (النصراني – الإسلامي)، مع انه كان كبير الفاعلية من حيث قدرته على التأليب ومن ثم تغطية المصالح أو تغليفها وتقديمها بالطريق القادرة على استقطاب القوى ومختلف مظاهر اللاعقلانية (من تضحية وما شابه ذلك). وينطبق هذا على كل ما تناوله في النقد من صيغ أيديولوجية يمكنها أن تحرف الوعي السياسي عن إدراك الأسباب الحقيقة والأولوية في البدائل. (يتبع...)
***



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن