الادارة الترامباوية تأخذ الاقتصاد الاميركي الى الانتحار

جورج حداد
george.haddad.bg@gmai.com

2019 / 2 / 13

إعداد: جورج حداد*

يعزو بعض المراقبين القرارات المتخبطة والمتهورة والمتناقضة للرئيس الاميركي ترامب، الى عدم تمرسه السياسي، وضعف وعدم تجانس فريق العمل المحيط به. ولكن هذا التفسير الشخصاني لا يعكس الصورة الصحيحة للواقع الاميركي الراهن. فالحقيقة ان اميركا تعيش ازمة اقتصادية مستعصية مستمرة، ونهج "التشبيح" الترامباوي ما هو سوى شكل فاشل من اشكال التعبير عن هذه الازمة ومحاولة ايجاد حلول لها على حساب خصوم اميركا واصدقائها على السواء.
في 2008 حينما حلت الازمة المالية في اميركا بسبب انتفاخ البالون البنكي ـ العقاري، تمكن الرئيس السابق باراك اوباما من الاتفاق مع الكونغرس على رفع سقف الدين العام للدولة الى 22 تريليون دولار، ومن ثم التصريح للفيديرال ريزرف اليهودي بطباعة كميات هائلة جديدة من الدولارات الورقية بدون تغطية ذهبية، وهو ما اتاح لحكومة اوباما انقاذ البنوك التي كانت في وضع افلاسي بمنحها قروض دولة طويلة الآجال وبفائدة رمزية، بمئات مليارات الدولارات، وهو ما اعتبر "مكافأة" لتلك البنوك التي تسببت بالازمة. وهكذا امكن حل الازمة المالية ـ الاقتصادية في اميركا عن طريق نفخ السوق المالية بكميات اضافية من الدولارات الورقية، اي عمليا على حساب الاقتصاد العالمي برمته نظرا للدور المنوط بالدولار بوصفه العملة الدولية الرئيسية. وهكذا تمكن الاقتصاد الاميركي القوي من استيعاب الصدمة ومن ثم تخفيض سقف الدين العام للدولة تدريجيا. ولكن ذلك كان حلا مؤقتا لبعض مظاهر الازمة وليس حلا اساسيا لجذورها العميقة.
اما الان فإن بوادر الازمة تعود لتطل برأسها، ليس عن طريق المضاربات البنكية المجنونة، بل عن طريق العجز في الميزانية وفي الميزان التجاري الخارجي الاميركيين. وادارة ترامب غير قادرة الان على اللجوء الى "علاج" طباعة الدولارات الورقية، اولا، بسبب معارضة "الدمقراطيين" المسيطرين على الاكثرية في مجلس النواب في الكونغرس الاميركي، وثانيا، بسبب دقة اوضاع الدولار في السوق المالية الدولية وارتباطه باسعار النفط، في وقت ليست فيه اميركا في "اوضاع ملائمة" في علاقاتها الدولية مع المنافسين والاصدقاء على السواء.
وتقول Reuters استنادا الى مصادر مالية عليمة ان ادارة ترامب تحتاج الان الى رقم خيالي هو 1 تريليون دولار لتتمكن من تغطية العجز في الميزانية والميزان التجاري الخارجي. وليس امامها من سبيل لتوفير هذا المبلغ الهائل الا عن طريق الحصول على قروض دولة، باصدار سندات خزينة لآجال 3 و10 و30 سنة بفوائد عالية.
وستتولى وزارة المالية مواصلة اصدار سندات الخزينة لاجل تأمين الدين العام للدولة من اجل تغطية العجز في الميزانية وفي الميزان التجاري، وقد بلغت قيمة الاصدارات 1 تريليون دولار سنويا للسنة الثانية على التوالي من عهد دونالد ترامب. وهذا ما يفسر الاسلوب الانفعالي لترامب في "التشبيح" المالي على الاصدقاء وتشديد العقوبات على المنافسين وتغطية كل ذلك بالمسرحيات السياسية وتصعيد اشكال الحرب الباردة والتهديدات والعنتريات وفي الوقت ذاته، وعلى النقيض من ذلك، اتخاذ قرارات الانسحاب الاميركي من بعض مناطق التوتر العالمي بهدف غير معلن هو "توفير النفقات" ليس الا. خصوصا وان "الحضور الاميركي" في تلك المناطق يواجه الفشل الذريع، ولم يعد له من نتيجة سوى الإضرار بالاقتصاد الاميركي بدون جدوى.
ويقول كبار سماسرة البورصة ان وزارة المالية تعرض سندات الخزينة لـ 3 و10 و30 سنة للبيع بالمزاد في السوق المالية على دفعات اسبوعية بكميات كبيرة، وتبلغ كل دفعة عشرات مليارات الدولارات.
وقد جاء هذا العرض المرتفع لسندات الخزينة في اعقاب تخفيض الضرائب الذي قرره ترامب، وزيادة نفقات الدولة.
واحد اسباب زيادة نفقات الدولة هو زيادة تكلفة خدمة الدين العام. وحسب تعبير برايان ادموندز المحلل في مؤسسة Cantor Fitzgerald "اننا نرى كبف ان العجوزات تزداد انتفاخا".
لقد بلغ عجز الميزانية الاميركية في 2018، 780 مليار دولار، وتقول لجنة الموازنة في الكونغرس ان العجز سيبلغ 973 مليارا في 2019 واكثر من 1 تريليون دولار في 2020.
وفي السنوات العشر القادمة سيتوجب على الحكومة الاميركية ان تدفع 7 تريليونات دولار فقط لاجل خدمة الدين العام، اي بمعدل 700 مليار دولار سنويا.
ويحذّر جيفري غوندلاكس الخبير الاقتصادي في مؤسسة DoubleLine Capital LP ان الاقتصاد الاميركي سيتضرر بشدة بسبب الديون العامة الكبيرة.
وكتبت رويترز ان عجز الميزانية في السنة المالية المنتهية في 30 ايلول الماضي بلغ 779 مليار دولار. وهذه اول سنة مالية كاملة في عهد دونالد ترامب. وقيمة هذا العجز هي الاعلى منذ 6 سنوات. وعجز الميزانية في السنة المالية الاولى من عهد ترامب هو اكبر بـ 17% (اي 113 مليار دولار) من السنة المالية التي سبقتها. وقد ازدادت النفقات 3,2% اي 127 مليار دولار، بينما ازدادت المداخيل 0.4% اي 14 مليار دولار. وذلك حسب الارقام التي قدمتها وزارة المالية. وبلغ عجز الميزانية نسبة 3.9% من الناتج المحلي القائم. ويتوقع الخبراء ان يبلغ العجز نسبة 4.6% من الناتج المحلي القائم في السنة المالية القادمة. كما يتوقعون ان يخرج الدين العام عن السيطرة في السنوات القادمة.
ويقول الملياردير سيت أ. كلارمان ان التوتر الاجتماعي العالمي، ونزول اميركا من مرتبة الزعامة العالمية، وارتفاع مستويات الدين العام للدولة الاميركية هي مؤشرات مقلقة جدا.
ان كل الدلائل تشير ان السياسة التخبطية والاستفزازية لادارة ترامب ليست سوى تعبير عن الازمة الاقتصادية ـ السياسية العميقة، الداخلية والخارجية، لاميركا. وادارة ترامب لا تفعل سوى دفع الاقتصاد الاميركي للاتجاه بسرعة نحو الانتحار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن