لستَ شيوعياً إن لم تحط بالرأسمالية

فؤاد النمري
fuadnimri01@yahoo.com

2019 / 2 / 6

ما كان لكارل ماركس وفردريك إنجلز أن ينضما لعصبة الشيوعيين البلجيك في العام 1847 لو لم يحيطا مسبقاً إحاطة تامة بالنظام الرأسمالي بكل مفاصله وتناقضاته وقد تجلى ذلك في البيان الشيوعي (المانيفيستو) الذي كتبه ماركس وانجلز حال انضمامهما لعصبة الشيوعيين البلجيك، وقبل ذلك في "الإيديولوجيا الألمانية" في العام 1844 .
نحن نقف عند هذه المسألة لأنها باتت منذ زهاء نصف قرن أمراً حدياً وحاسماً في مسألة الوعي الشيوعي وهو القوى الوحيدة التي يمكن لها اليوم أن تدفع بالتقدم نحو الشيوعية . أولئك "الشيوعيون" الذين قادوا الثورة البولشفية نحو الإنهيار لم يعودوا يتعرفون على أبجديات النظام الرأسمالي كما كتبها كارل ماركس بالتفصيل الدقيق في كتابه الشهير رأس المال (Das Capital) وذلك ليس بسبب جهل منهم فقط خاصة ونحن نستحضر لهم تلك الأبجدية الماركسية كما وردت بكل وضوح في رأس المال، بل لأن هؤلاء القوم الخونة هم الذين دفعوا بالثورة البولشفية إلى الإنهيار ولذلك يريدون اليوم الزعم أن ثورة أكتوبر الإشتراكية لم تُحدث إنعطافاً في مسار التاريخ كما يدعي أصحابها بل جاءت في غير مكانها وغير زمانها فانطفأت تلقائياً بذاتها دون أن يتسببوا هم أنفسهم بسوء لها !!
في مثل هذه الدعاوى الملفقة والرخيصة ليس إنكاراً للينينية وتكذيباً للينين فقط بل يتجاوز ذلك إلى إنكار مجرى التاريخ بمختلف وقائعه في القرن العشرين التي لم يخرج أي منها عن المسار الذي استشرفه لينين بما في ذلك النجاح المؤكد للثورة الإشتراكية في العالم وقد أكده لينين في إفتتاح المؤتمر التأسيسي للأممية الشيوعية في 6 مارس آذار 1919، والفشل المحتمل بالمقابل بسبب قصور الشيوعيين في وعي الخطورة التي تشكلها البورجوازية الوضيعة ودورها الإقتصادي وقد غدت العدو الرئيسي للإشتراكية كما أكد لينين في كتابه "الضريبة العينية" (Tax in Kind) في العام 1922 . تلك المبادئ اللينينية ما زالت فاعلة حتى اليوم .

هؤلاء القوم الخونة التاريخيون الذين دفعوا بالثورة البولشفية نحو الإنهيار في العام 90 لا يستطيعون أن يتبرأوا من الخيانة إلا إذا أثبتوا أن النظام الرأسمالي ظل قائما ومزدهراً طيلة حياة الثورة البولشفية وهو بالتالي قضى عليها ليزداد غلظة وتوحشاً بعدئذٍ، الأمر الذي يعني أنهم براء من دم يوسف .
نحن الشيوعيين البلاشفة تلامذة لينين وستالين نتحدى هؤلاء الخونة أن يثبتوا دعاواهم الباطلة ولو بحقيقة واحدة، واحدة فقط !!
لم يكن القائد التاريخي للثورة البولشفية يوسف ستالين يرجم بالغيب عندما أكد لمندوبي المؤتمر العام التاسع عشر للحزب الشيوعي السوفياتي في أكتوبر 1952 " إنهيار الإمبريالية في وقت قريب " وهو ما حدا بالمؤتمر أن يتخذ قراراً يؤكد هذا الأمر . ستالين هو من قاد الحرب على النازية الفاشية في أوروبا وقضى عليها في مركزها الهتلري بعد أن كان هتلر قد قضى على الإمبراطورية الإستعمارية الفرنسية وفكك الإمبراطورية الاستعمارية البريطانية، وأن النظام الرأسمالي في مركزيه البارزين لم يصمد أمام عصف النازية الهتلرية . وهو هو من رأى الجبروت السوفياتي في الحرب قد تماهى في جبروت ثورة التحرر الوطني في العالم كله فتحررت سوريا في العام 46 والهند في العام 47 والصين في العام 49 . وتصديقاً لرؤية ستالين تداعت 29 دولة في آسيا وأفريقيا إلى عقد مؤتمر باندونغ في أندونيسيا في العام 55 للتضامن من أجل وضع نهاية للإستعمار . جميع دول العالم استقلت في الخمسينيات والستينيات فكان أن أصدرت الأمم المتحدة إعلاناً رسمياً في العام 1972 يؤكد أن العالم، كل العالم، قد تحرر نهائياً من الاستعمار، ورافق ذلك حل لجنة تصفية الاستعمار التابعة للأمم المتحدة .

استقلال المسعمرات يعني أول ما يعني أن تلك المستعمرات سابقاً لم تعد مصرفاً لفائض الإنتاج المتحقق بالضرورة في مراكز الرأسمالية بغض النظر عن توجهات السلطة الحاكمة في الدولة المستقلة حديثاً حيث يتوجب مراعاة تعادل الميزان التجاري للدولة في كل الأحوال . التناقض الرئيسي الذي توقف عنده ماركس طويلاً هو أن فائض الإنتاج المجسد لفائض القيمة هو السبب الرئيسي لانهيار النظام الرأسمالي في حالة عدم تصديره للخارج .
خلافاً لألفباء الماركسية فإن استقلال كافة المستعمرات في العالم لم يقنع خونة الثورة البولشفية في أن النظام الرأسمالي في العالم قد انهار فعلاً فراحوا يدعون أن الولايات المتحدة التي لم تتأذّى في الحرب العالمية قد غدت أس الإمبريالية العالمية .
الخونة لا يقرؤون التاريخ بالطبع فباتوا يسترون خيانتهم بغلالة شفافة لا تستر الخيانة . القراءة الماركسية لتاريخ ما بعد الحرب العالمية الثانية تقول أن الولايات المتحدة لم تمارس السياسة الإمبريالية بكل سماتها التي فصلها لينين في كتابه "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية" . فيما بعد الحرب وقد بدا الجبروت السوفياتي يتهدد النظام الرأسمالي في مراكزه وعقر داره ألمّ بالطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة سعار الكراهية والحقد على الشيوعية ؛ فبعد الرئيس الاستثنائي للولايات المتحدة روزفلت (1933 – 45) الذي كتب في مفكرته قبل أن يموت أنه يؤمن .. " أن ستالين وليس تشيرتشل سيبني عالماً يسوده السلام والديموقراطية" . بعد روزفلت حكم مباشرة مجرم الحرب نائبه ترومان وهو الذي ألقى قنبلتين ذريتين على السكان الآمنين في هيروشيما وناغازاكي لا لشيء إلا للثأر من بيرل هاربر .
بدءاً بترومان وانتهاءً بريغان لم تمارس الولايات المتحدة السياسات الإمبريالية حيث احتكمت لسياسة معاداة الشيوعية وتسخير كل مقدرات الولايات المتحدة لمقاومتها، والفرق كبير وكبير جداً بين السياستين . فالسياسة الإمبريالية تتلخص بتصدير البضائع ورؤوس الأموال من المركز إلى الدول المحيطية ولم يعد هناك دول محيطية في العالم، بينما الولايات المتحدة اليوم هي أكبر مستورد في العالم للبضائع ورؤوس الأموال فكيف تكون والحالة هذه إمبريالية !؟
سعار مقاومة الشيوعية وصل بالسياسة الأميركية إلى نقل الإنتاج البضاعي من المركز الولايات المتحدة إلى الأطراف في شرق آسيا في اليابان وتايوان والنمور الأسيوية والصين أخيراً . قامت الرأسمالية الأميركية بذلك الإنتحار كونه الوسيلة الناجعة الوحيدة لمقاومة الشيوعية التي كانت رياحها تعصف في كوريدورات الشرق الأسيوي . الرأسمالية هي في الجوهر إنتاج البضائع ولم تعد الولايات المتحدة تنتج البضائع بل باتت تستهلك بضائعاً من إنتاج عمال شرق آسيا . نعم، بسبب سعار مقاومة الشيوعية إنتحرت الرأسمالية في الولايات المتحددة ولم تعد تنتج البضائع أي أنها لم تعد رأسمالية .
في حفل تنصيب وليم كلنتون رئيساً للولايات المتحدة خطب كلنتون يقول .. " أن همه الأول في البيت الأبيض سيكون حصول العمال في الولايات المتحدة على كامل حقوقهم التي لم يحصلوا عليها طيلة التاريخ "، وهذا خطاب يعارض أساساً كل توجه رأسمالي . بعد كلنتون جاء بوش الإبن الذي وصل إلى البيت الأبيض تحت شعار مبدأ مونرو (Monroe Doctrine) في العزلة أي عدم الإهتمام بأية أمور خارج الولايات المتحدة ؛ وفي معارضة ذلك ثارت ثائرة "اليسار" العربي إذ كيف لأميركا أن تتخلى عن قضايا الشرق الأوسط المعقدة مثل القضية الفلسطينية !! يعلم الجميع أن بوش الإبن لم يتخلَ عن سياسة العزلة إلا بسبب ضربة البرجين الكارثية فكان أن أنذر بوش طالبان بتسليم بن لادن للمحاكمة في الولايات المتحدة وإلا ستضطر الولايات المتحدة لاحتلال أفغانستان . رفضت طالبان تسليم بن لادن فقامت الولايات المتحدة باحتلال أفغانستان بمساعدة من روسيا . وفي العراق بعيداً عن إلحاح المعارضة العراقية بما في ذلك تلك الموالية لإيران على غزو أميركا للعراق لكنس عصابة صدام الدموية، كان وقف إطلاق النار بفعل الإنذار السوفياتي في حرب "عاصفة الصحراء" مشروطا كما في اتفاقية خيمة صفوان 91 بأن يسلم العراق جميع أسلحة الدمار الشامل للأمم المتحدة ؛ لكن مفتشي الأمم المتحدة رفضوا في العام 2003 أن يشهدوا بأن العراق بات خاليا من أسلحة الدمار الشامل فكان حقاً للولايات المتحدة أن تستأنف الحرب على العراق . بعد احتلال العراق بأسابيع قليلة وقف الرئيس بوش يخطب في ضباط معسكر ويست بوينت (West Point) قرب نيويورك يقول .. " نحن نستنكر الإرث الإمبريالي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط فتأييدها للحكام الطغاة هناك أنتج إرهابيين يعتدون علينا" ؛ وبذات الوقت أرسل نائبه دك تشيني (Dick Cheney) يستعطف الملك عبدالله في السعودية لأن يعمل على تخفيض أسعار النفط حيث باتت فاتورة المحروقات ترهق الموازنة الأميركية فيما العراق تحت الإحتلال الأميركي يعوم على بحيرة من النفط . طيلة إقامة القوات الأميركية في العراق كان بوش يستمهل الكونجرس لآماد قصيرة ريثما تنتهي الحرب على الإرهابيين قبل الخروج من العراق، وفي العام 2011 رحل آخر جندي أميركي دون موافقة الحكومة العراقية .
عقب بوش الإبن جاء باراك أوباما الذي حشد الحزب الشيوعي في أميركا كل قواه لانتخابه رئيساً للولايات المتحدة . وبعد أوباما نجح دونالد ترمب الذي يصرخ عالياً بأنه لن ينفق دولاراً واحداً من أجل أن يكون شرطي العالم ويتهدد كل يوم بأنه سيسحب كل قواته من الشرق الأوسط – على غير هذا بالطبع هو الاستعمار !! لكن "اليسار" لو أقر بأن الولايات المتحدة لم تعد دولة إمبريالية لترتب عليه غلق دكانه السياسية حيث لم يعد لديه بضائع للعرض .

الرأسمالية الأميركية المصابة بسعار العداء للشيوعية كانت قد انتحرت في الستينيات ونقلت الإنتاج البضاعي من أميركا إلى الشرق الأسيوي لأجل وقف التمدد الشيوعي بأمواجه العاتية هناك . الشعب الفيتنامي بقيادة حزبه الشيوعي وعلى رأسه قائده البارز هوشي منه خرق الحصار الأميركي في الشرق الأقصى وأنزل هزيمة نكراء بالجيش الفرنسي في معركة (ديان بيان فو) في العام 54 وهو ما كان له أثر الصاعقة على الدوائر الحاكمة في الولايات المتحدة فكان أن بدأت ترسل قوى عسكرية إلى الهند الصينية وخاصة إلى جكومة جنوب فيتنام المعادية للشيوعية . لعشرين عاماً حاربت الولايات المتحدة بكل قواها في فيتنام (55 – 75) . في العام 69 ترشح ريتشارد نكسون لمنصب الرئيس تحت شعار وقف الحرب في فيتنام . نجح نكسون لكنه وجد خزائن المال فارغة تماماً ولا يمكن تدبر نهاية لحرب فيتنام تستر هزيمة أميركية فاضحة بغير إنفاق يؤمن ذلك مما اضطره إلى الخروج من معاهدة بريتون وودز في العام 71 نقضا لأسباب عقدها وهي الإنفاق على الحرب بعملة لا غطاء لها كما فعل هتلر . لذلك فقد الدولار في عامي 72 و 73 40% من قيمته . الحقيقة الثابتة التي يتعامى عنها خونة الشيوعية وهي لو كانت الرأسمالية الأميركية احتفضت بانتاجها البضاعي ما كان الرئيس الأميركي ليضطر إلى الخروج من معاهدة بريتون وودز . رأسمالية لا تنتج بضاعة ليست رأسمالية كما علّم ماركس .
أمام الإنهيار المتسارع للدولار استبدل نكسون في العام 74 وزير الخزانة أخصائي الشؤون المالية جورج شولتس (G. Shultz) بأحد العقائديين المتعصبين للنظام الرأسمالي وهو وليم سيمون (W. Simon) . سرعان ما استنجد هذا الأخير بالدول الرأسمالية الكبرى الأربعة الأخرى، بريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان، وقد تحقق مرتعباً من انهيار النظام الرأسمالي . الدول الأربعة الأخرى لم تملك الحل السحري بالطبع وكان كل ما قدمته في مؤتمر القمة في رامبوييه في باريس أن كفلت أسعار صرف الدولا في أسواق الصرف عن طريق المضاربة المالية في البورصة وهذا يشكل غطاء لسعر الصرف لكنه لا يغطي قيمة النقد . لذلك وجدنا الدولار الأميركي في العام 2012 قد فقد 98% من قيمته قياساً لدولار 1970 وهو ما يعني أن الرأسمالية الأميركية كانت تنتج في الخمسينيات من البضائع ما يساوي خمسين ضعفاً مما أنتجته في 2012، وهو ما يؤكد انهيار النظام الرأسمالي في أميركا وفي العالم . دلالة أخرى على ذلك هو أن العالم يستدين كل سنة 2 ترليون دولار كي يحافظ على مستوى حياته، وحصة أميركا منها ترليون حتى وصلت ديونها الخارجية اليوم إلى أكثر من 22 ترليون دولار فائدتها السنوية زهاء 600 مليار دولارا لن تتدبرها الولايات المتحدة بعد سنوات معدودة . وثمة دلالة ثالثة وهي قاصمة تشير إلى أن 80% من قوى العمل في أميركا لا تتحول إلى بضائع كما هو الجوهر في النظام الرأسمالي .
يصر الخونة من الشيوعيين ستراً لخيانتهم على أن الرأسمالية الإمبريالية ما زالت قائمة في أميركا رغم أن عملتها السبادية الدولار تغطيه الصين "الشيوعية" التي تستبدل صادراتها التي تصل إلى حوالي 2 ترليون دولارا سنوياً بالدولار الأميركي، ورغم أن نصف موازنة أميركا الاتحادية سندات صينية، ورغم أن الصين توظف 2400 مليار دولار في أميركا في حين أن أميركا لا توظف في الصين أكثر من 65 مليار دولار .
من لم يعد يؤمن أن الرأسمالية ليست هي في الجوهر إنتاج البضاعة عليه أن يراجع ماركس من جديد .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن