تأسس الحلة وتمصيرها

عبد الرضا عوض
nabeel_alrubaiy58@yahoo.com

2019 / 1 / 27

مقدمة
كما هو معلوم فإنَّ مدينة الحِلة كانت تعرف بالجامعين قبل تمصيرها (1) ؛ وهي اليوم إحدى محلات هذه المدينة ؛ نسبةً إلى جامعين اثنين صلى فيهما أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب  ؛ أثناء رجوعه من معاركه في صفين والنهروان سنتي 36 و37 هـ/ 656و657م ، ومكث فيها خمسة وأربعين يوما وأقام فيها صلاة الجمعة ؛ ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن يأخذ الناس الماء من البئر الموجود في الجامع الذي توضأ منه أمير المؤمنين  ويتبركون به ؛ وكان الإمام ينتظر أحد قادة جيشه ؛ وهو عبد العزيز السراي(2) الذي كان جريحا ؛ وبعد وصوله توفي فغسله الإمام ودفنه وقبره ما زال هناك(3) 0
التأسيس
لم نحصل على تاريخ متفق عليه في نشوء هذه الحاضرة البهية ، لكن المؤرخين أجمعوا أن لها ذكر وحوادث قبل أن يمصرها الأمير سيف الدولة صدقة بن منصور سنة 495هـ ، وهناك عدة آراء دونها المؤرخون في كتبهم حول تأسيسها لكنها غير قاطعة، هي:
1- هناك من ذَكرَ أن أرض الجامعين هي بقايا قرية بابلية تغور في القدم ، فهي مأهولة بالسكان قبل قرون من تمصيرها ، ولعلها تحمل أسم بابلي لم يصل الينا.
2- وهناك رأي يقول انها نشأت سنة 37هـ حينما حط رحاله فيها الإمام علي بن أبي طالب(ع) ووارى جثمان قائد جيشه الشهيد عبد العزيز بن السراي المدائني في هذا المكان فبنيت البيوت حول المرقد وتوسع عمرانها.
3- ومنهم من قال انها نشأت قبل تأسيس بغداد حينما زارها وحط رحاله فيها الإمام جعفر الصادق سنة 132هـ.
4- وذكر المسعودي في مروجه: أن أبا مسلم الخراساني قائد حملة اسقاط الدولة الأموية سنة 132هـ هو من أهل برس والجامعين.
وورد لها ذكر في بطون الكتب تحت اسم (الجامعين) منها:
- أول ذكر لهذه الحاضرة ورد في معجم الادباء لياقوت الحموي قائلاً: ان القاضي الحسن بن علي بن داود التنوخي البصري (ت384هـ) صاحب كتاب (نشوار المحاضرة) كان يقضي في الجامعين وسورا.
- ان شبيب بن حماد بن مزيد الأسدي قد خرج على ابن عمه الأمير دبيس سنة 422هـ وسكن الجامعين .
- ان قبيلة خفاجة أفسدت فدخلت الجامعين سنة 446هـ فأستعان الأمير دبيس بن علي بالبساسيري فطردهم من الجامعين.
- انها كانت مضمونة من قبل العقيليين مع الكوفة والقصر(قصر بن أبي هبيرة) قبل وصول المزيديين اليها.
التمصير
ومفهوم التمصير للحاضرة هو: وجود بناء جامع ومكان للعبادة (جامع أو دير) ومدرسة ، وقاضي يحكم بين الناس ، وتنظيم لحركة السوق ، وثكنة عسكرية فيها جند مهمتهم حمايتها وتنظم امورها.
والجامعين كانت حاضرة مأهولة فيها مساكن قبل أن يطأها الأمير صدقة لكنها غير منظمة ، فلما دخلها صدقة بن منصور الأسدي يوم 5محرم سنة495هـ/1101م اكمل مستلزمات المدينة فيها وحملت اسم (الحلّة) أي مكان نزول القوم فُعد يوم التمصير.وهكذا الكوفة والبصرة والقاهرة..
انتقل الأمير صدقة بن منصور المزيدي (قتل سنة 501هـ) بإمارته المزيدية من أرض النيل شرق الحلة الى أراضي الجامعين عابراً فرات الحلة بعد اختلافه مع الادارة السلجوقية حول رسم الضمان كان ذلك يوم الأربعاء الخامس من شهر محرم الحرام سنة 495هـ الموافق يوم 30 تشرين الأول 1101م.
ولهذا التمصير قصة ، نذكرها هنا كما وردت في بطون الكتب:
اشتد الخلاف بين الأمير المزيدي الخامس سيف الدولة صدقة بن منصور الأسدي مع السلطان بركيارق بن ملكشاه السلجوقي ، في عهد الخليفة العباسي المستظهر بالله (ت512ه) ، فأرسل له موفداً عنه في شهر ذي الحجة سنة 494هـ، قال له: ((لقد تخلّف عندك لخزانة السلطان ألف ألف دينار وكذا ديناراً لسنين كثيرة فإن أرسلتها وإلا سيرنا العساكر إلى بلادك وأخذناها منك)) ، فلما سمع هذه الرسالة من الأمير أياز ، قال صدقة: "لا أحضر ولا أطيع السلطان إلا إذا سلم وزيره أبا المحاسن(1) إلي وإن لم يفعل فلا يتصور مني الحضور عنده أبدا"(1).
وعند امتناع صدقة من تسديد رسوم بذمة إمارته الى السلاجقة أرسل الوزير الدهستاني مندوباً عنه الى الأمير صدقة في النيل يطالبه بالمبلغ، واشتد الجدال بينهما وخرج صدقة من الخيمة التي دار بها الكلام وأمر معيته بقطع أطناب الخيمة على رأس الوفد الذي أرسله الدهستاني فسقطت الخيمة على من كان حاضراً ، وغادر القوم النيل فأرسل ذلك المندوب رقعة فيها ثلاثة أبيات من الشعر الى الأمير صدقة، مفادها تهديد ووعيد ، هي:
لا ضربت لي بالعراق خيمة
ولا علت انامــــــــــــلي على قلم
ان لم أقدها من بلاد فارسٍ
شعث النواصي تحتها سود العمم
حتى ترى لي في الفرات وقعة
يشرب منها الماء ممزوجاً بدم(2)
فلما وصلت الأبيات الى الأمير صدقة علم ان السلاجقة سيشنون حرباً كاسحة ضده ، فقرر في أوائل شهر محرم عام 495 للهجرة النبوية الشريفة الانتقال بجيشه ومعيته من أرض النيل ليعبر فرات الحلة ويحط رحاله في أرض الجامعين التي كانت تحت ولاية ابن عمه شبيب بن حماد الأسدي ليسجل التاريخ حدثاً مهماً ويؤرخه لتمصير الحلة الفيحاء 0
وتجدر الإشارة الى أن الحرب لم تجرِ ، ولم يصب الأمير صدقة بسوء بسبب مقتل الوزير الدهستاني في أصفهان في شهر صفر 495هـ ، ولذلك تطورت الحلة وبنيت فيها المساكن وأماكن الدرس وأُطلق عليها تمييزاً (السيفية) نسبة لسيف الدولة الأمير صدقة بن منصور ، الذي قتل في معركة النعمانية سنة 501ه ، وغدت الحلة من أشهر وأجمل مدن الدنيا ، وانتهت الإمارة سنة 545هـ بموت آخر أمرائها الأمير علي بن دبيس بن صدقة ، ولما زارها الوزير ابو جعفر البلدي(1) سنة 564ه ، قال شعراً ، منه:
لما نزلت بدار المزيدي وقد
أخنى عليها الذي اخنى على لبد
أصبحت مدينة الحلة مناراً للعلم حينما احتضنت الحوزة العلمية سنة 562هـ على عهد ابن إدريس ، صاحب السرائر (ت598هـ) ، واستمرت الى سنة 951هـ بوفاة الشيخ إبراهيم بن سليمان القطيفي، ولا غرابة في أن تحتضن الحلة الوافدين من شتى بقاع العالم وتحافظ على عروبتها ، فأصبحت منارةً للفقه الإسلامي والأدب العربي(1)، إذا ما علمنا أن كثيراً من العلماء والأدباء قدموا الى الحلة واستقروا بها، وأصبحوا من جملة أهلها وتتلمذوا فيها0
ولغرض تسليط الضوء على هذا الحدث والذي سُميّ يوم التمصير، نقول:
إن أول من فكر بإحياء يوم التمصير هم جماعة عشتار(2) سنة 1972م ، واستعانوا بالمرحوم المهندس سامي علي السلطان وكان يومذاك مديراً للبلدية ورئيساً لغرفة تجارة الحلة وكان يعاونه الشاعر السيد محمد علي النجار الذي اعدَّ قصيدة للمناسبة ، منها:
يا حلّة الفيحاء قبل قرونِ

كم عشت بين تحرّكٍ وسكونِ

ويقول فيها:
أهداف هذا المهرجان كثيرة

حيث الحديث بشأنه يغريني

وإذا تظافرت الجهودُ لحملةٍ

كبرى بفكرٍ ثاقبٍ ورصينِ


فبلادنا تهفو إليها أنفسُ الـ

ـسيَّاح قاطبة بلا تعيينِ


بعد انتهاء تلك الجلسة دار حديث حول مشروع مهرجان (تمصير مدينة الحلة) أو(الذكرى التسعمائة لتمصير الحلة) بين الاستاذين سامي علي السلطان وعدنان العوادي، وكان السلطان قد تسلَّم مسودة المشروع من السيد محمد علي النجار ومحمد سعيد بقلي اثناء اجتماعه في غرفة التجارة، ورحب العوادي بالفكرة وتمت مخاطبات رسمية بين بلدية الحلة ووزارة الاعلام الذي كان يتولاها آنذاك عبد الله علوان الجبوري، وقد رفض المشروع من قبل الوزارة.كما أخبرني بذلك الأستاذ سامي علي السلطان ود0 عدنان العوادي والسيد محمد علي النجار، في مقابلتي معهم كلٌ على حده ، وقد عقب السلطان على تلك الفقرة بقوله:" الفكرة جاءت عندما كان صباح محمود الخطيب يعد دراسة عن الحلة وقد أصدر كتاباً بعد سنتين بعنوان(مدينة الحلة الكبرى) والارجح ان ذلك الباحث هو الذي طرح الفكرة وأجرينا مخاطبات رسمية مطولة مع الجهات العليا والجميع رحب بالفكرة لكن الرفض جاء من وزارة الاعلام0
2- نجحت المحاولة الثانية سنة 1995م فكانت برعاية جامعة بابل وكان الدكتور يحيى الراوي رئيساً لها وتحت شعار(تراث الحلة العربي الاسلامي يبعث من جديد) والفكرة تبناها الدكتور حسين علي محفوظ ، وأصبح المشروع تحت اشراف (مركز احياء التراث العربي التابع لجامعة بغداد) التي كانت تديره آنذاك الدكتور نبيلة عبد المنعم داوود، ومن الطريف كان من شروط الموافقة على قيام المشروع هو تقديم المناسبة الى شهر نيسان مقاربة مع أعياد نيسان (مولد الحزب وميلاد القائد) ، وفعلا انعقد المؤتمر الفكري الأول يومي 4و5 نيسان عام 1995م ، بمنهاج علمي رصين ، وكان مبيتهم في فندق بابل السياحي، ووصلنا قسم من بحوث الندوة فقدمنا لها وأصدرناها في كتاب سنة 2014م بعنوان (الندوة العلمية الأولى الحلة في التراث العربي).
3- أُعد للمؤتمر الثاني من قبل مركز دراسات ووثائق الحلة وتم مفاتحة الجهات ذات العلاقة على أن يعقد في شهر تشرين الأول سنة 2001م، ووصلت بعض البحوث الى اللجنة التحضيرية التي كان يرأسها الدكتور عبد العباس إبراهيم - وأنا احتفظ بقسم منها- لكن ظروف البلد حالة دون انعقاده.
4- عقد مؤتمر تمصير الحلة (الأول)، يومي 27 و28 آب 2005في جامعة الحلة الدينية (قاعة الأقليمي) التي كان يرأسها السيد فرقد القزويني وبمشاركة جمعية الرواد الثقافية المستقلة التي يرأسها الشاعر صلاح اللبان ، ومركز الدراسات الستراتيجية الذي يديره الدكتور عدنان بهية التابع لجامعة الحلة الدينية.
5- عقد مؤتمر التمصير على أرض مدينة بابل الآثارية يوم 16-12-2007م وبحضور شخصيات عراقية واستمر ليومين وهو برعاية وزارة الثقافة العراقية واتحاد أدباء بابل وهيأة التحديث الحضاري ، وقدمت فيه بعض البحوث ، وتبنت هيأة التحديث الحضاري انجاز تمثال برونزي للأمير صدقة بن منصور حدد موقعه قرب محطة قطار الحلة ونفذ ذلك ، واعلن في هذا المؤتمر اعتبار الحلة عاصمة للثقافة العراقية للعام 2008، وبهذه المناسبة أطلق عليه اسم "مهرجان تمصير الحلة"، تضمن إقامة معارض فنية وأدبية واستعراضا للصحافة الحلية القديمة والمقتنيات الحلية القديمة، كما تضمن عرضا مسرحيا وفيلما تسجيليا عن مراحل تطور المدينة.
6- بالرغم من تسمية (بابل عاصمة الثقافة العراقية لعام 2008م) وانعقاد ندوة فكرية وهي تحت رعاية الحكومة العراقية إلا أن الندوة لم تصل الى المستوى المطلوب.

7- عقدت جامعة بابل مركز الدراسات الحضارية والتاريخية ندوة فكرية ولمدة يومين 16-17 تموز 2011م على قاعة المكتبة المركزية تحت عنوان (الحلة بين التمصير والتأسيس) وطرحت أفكار عديدة ، ونوقشت كلمتا (التمصير) و (التأسيس) وخرجت الندوة بنتائج ، هي: (اعتبار صدقة بن منصور ممصراً للحلة لا مؤسساً) فالحلة لها وجود قبل هذا التاريخ وكان يطلق عليها (الجامعين) 0
8- انبرت ثلة خيرة من اهالي الحلة لغرض احياء ذكرى التمصير وتثبيت يوم التمصير الفعلي وهو يوم 30 تشرين الأول ، وتعد العدة هذه النخبة للقيام بمهرجان يليق بالمدينة وتاريخها العريق ، فقد عقد اجتماعها الأول في ملتقى العشرة كراسي يوم 31-12-2018م ووضعت خطة لإستذكار هذا اليوم الخالد ، نأمل أن يكون النجاح حليفها...


المصادر
(1) الحموي ، شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت الرومي البغدادي (ت626هـ/1228م)، معجم البلدان ، دار صادر ، بيروت (د0ت0):2 /96 0
(2)عبد العزيز بن السراي ، من أهالي المدينة المنورة ، ومن قادة جيش الإمام علي  جرح في حرب النهروان ودفن في الحلة ، مرقده مزار يقع حالياً خلف مدرسة صفي الدين في منطقة باب المشهد في الحلة ، (عبد الرضا عوض ، مزارات ومراقد الحلة ، دار الفرات للثقافة والإعلام ، الحلة ، 2006م: 34)0
(3) حازم الحلي ، الحلة وأثرها العلمي والأدبي ، المكتبة التاريخية المختصة ، قم ، 1432هـ :24 0
(4) مروج الذهب للمسعودي:6/59 ؛ الإمارة المزيدية : 250 .
(5) معجم الأدباء ، ياقوت الحموي:17/192 .
(6) الإمارة المزيدية ، عبد الجبار ناجي:250 .
(7) تاريخ الحلة ، يوسف كركوش:1/17 .
(8) الإمارة المزيدية ، عبد الجبار ناجي:251 .
(9) ابن الجوزي ، المنتظم في تاريخ الملوك والامم: 9/124
(10) شرف الدين أحمد بن محمد البلدي ، كان ناظراً بواسط قبل ان يستوزره الخليفة المستنجد سنة 563هـ ، قتله عضد الدولة ابن المسلمة سنة 566هـ وقطعه ورماه بدجلة (ابن الجوزي، المنتظم:10/32 0)
(11) مصطفى جواد ، في التراث العربي : 2/166 0
(12) هؤلاء أسسوا في آذار 1971م تجمع ثقافي أدبي وأطلقوا عليه (ندوة عشتار) فكان منهم: د. حازم الحلي ، د. عدنان العوادي ، سعدي علوش ، جبار مكاوي ، كاظم الطائي ،حكيم الجراخ ، وحودي سلمان ، عبد الإله الصاحب.(ندوة عشتار:22).



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن