[77]. رحلة المئة سؤال وجواب، حوار صبري يوسف مع د. أسماء غريب حول تجربتها الأدبيّة والنّقديّة والتّرجمة والتَّشكيل الفنّي

صبري يوسف
sabriyousef56@hotmail.com

2019 / 1 / 26

صبري يوسف

77. هناك العديد من الأديان غير السَّماوية لا تختلف بشفافيّتها وروحانيّتها ووصاياها عن الأديان السَّماويّة، هل الأديان السَّماويّة امتداد للأديان غير السَّماويّة أم لديك وجهات نظر أخرى؟

د. أسماء غريب

الإيمانُ بذرةُ اللهِ في قلوب البشر، والدِّينُ بدعةُ البشر في أرض الدُّنيا والحياة الفانية، لذا فإن الإيمانَ لله، والدّينَ للبشر، وما هو لله واحد لا ينقسمُ ولا يتجزّأ، وما هو للبشَر يتعدّدُ ويأخذُ ألف شكل وصورة، ولهذا كثُرَتِ الأديانُ وبقي اللهُ واحداً أبديّاً أزليّاً قيّوميّاً. لكن يبقى السُّؤالُ الحقيقيُّ الّذي يجِبُ طرحُه الآن هو: لماذا سمحَ اللهُ للإنسانِ بأن يُعَدِّد في دياناتِه وملله ونحله؟ أوَليْس منَ "الأفضل" أن يكونَ النّاسُ على ملّة واحدة؟!

من القرآن الكريم أقدِّمُ للقارئ العزيز جوابيَ- السّؤال: أوَليْسَ اللهُ هو من قال في سورة الإسراء (آية 23): ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ))؟! إذن فمهمَا عبدَ إنسانٌ وكيفما كان ما يعبدُه فإنّه لا يعبدُ حقيقةً إلّا الله، لأنّ عبادتَهُ أمر مقضيٌّ منه منذ الأزل، ولا أحد له القدرة على تغيير هذه الحقيقة المسلّمَة. وما دامَ فعلُ العبادة مظهراً وتجلّياً من تجلّيات الجمال الإلهيّ، فإنَّ كلّ عابد هو في الحقيقة مُحِبٌّ عاشقٌ لصورة الله الجميل في كلِّ شيء، وهذا هو مقامُ العارفين لأنّهم لا يكتفونَ بحبِّ الله وعشقهِ في صورة واحدة وإنّما في الوجود بأسرِهِ، وهُم بهذا يختلفون عمّن أحبّ ويُحبُّ اللهَ بشكل محدود وفي دين معيّن جاعلاً منَ الأماكن جهَةً يُقدّسُها ويحجُّ إليها، فهذا يهوديّ يوجّهُ بصرَه إلى القدس وحائط المبكى كلّما حلّت أعياد البيساح والشَّافوت والسكوت، وذاك مسيحيٌّ يقصِدُ كنيسة القيامة ونهر الأردن والفاتيكان، وآخرٌ مُسلِم يوجّهُ قلبَهُ إلى مكّة حيث الكعبة، ورابعٌ بوذيٌّ يحجُّ إلى لومبيني مسقط رأسِ المعلّم بوذا في النّيبال، وكذلك إلى بود جايا حيث نزلَ عليه الوحي أول مرّة. أو إلى سارناث في الهند، حيثُ أعلنَ عن رسالته وبدأ في نشر تعاليمه، وهكذا دواليك من الأماكن الّتي تختلفُ باختلاف ديانات من يقصدُها. وهؤلاء هُم في مراتب العبوديّة أقلُّ من أولئك الّذين يعبدون الله في كلّ تجلّيات الوجود، لأنّهم قيّدُوا إيمانَهم بقِبْلَة أو جهةٍ واحدة يستفرغون فيها كلّ جهدهم وطاقاتهم. واختلافُ قِبْلَة العبادة تشهدُ عليه آيةٌ قرآنيّة أخرى يقولُ فيها اللهُ عزّ وجلّ: ((وما خلقتُ الجنّ والإنسَ إلّا ليعبدونِ)) (الذاريات/ 56)، وهذا يعني أنّ كلّاً من الجنّ والإنس مشغول بعبادة خالقه الّتي اختلفت باختلاف مقتضيات أسمائه، والّتي يعنيني منها هنا اسميْه (الهادي) الوارد في الآية التّالية: (وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً) (الفرقان / 31) ثمّ (المُضِلّ) المذكور في هذه الآية: (مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) (الأنعام / 39)، وكلاهما عابدٌ؛ الضالُّ والمُهْتدي، إذ المللُ ما تفرّقتْ واختلفتْ إلّا لأنّ كلّ طائفة تعتقدُ أنّ عبادتَها لله على الشّكل الذي اختارتهُ أمرٌ صائب، وإلّا فما معنى أن يقول ربّ العزّة: ((تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً)) (الإسراء / 44)، وهو سبحانه وتعالى المتصرّفُ في عباده من حيث تنوّع عباداتهم واختلافها، وهوَ التّنوّع الّذي تحقّقَ على الأرض من بابَيِ الولايةِ والنّبوّة. وأبونا آدم (ع) كان أوّل من شرعهُما على مصراعيْهما، لأنّه كان ممّن جمع بين الولاية والنُّبوّة؛ فحينما كانَ في الجنّة، كان وليّاً لله وكان يؤمِنُ به من حيث مقامهُ في دار الكرامة والمشاهدة والكشف، وحينما نزلَ إلى الأرض وتناسلت وكثرت ذريّتُه، أصبح نبيّاً فأُرْسِلَ إليهم ليهديهم إلى طريق الله والإيمانِ به، ومنذ ذلك الحين والبشريّةُ منقسمة بين معتقِدٍ في الله وبين مؤمن بالطّبيعة ونجومها ومائها وأحجارها وكواكبها وبين ناكرٍ للخالقِ تماما، وإن كان حتّى النَّاكرُ عابداً لله مُسَبّحاً له وإن لم يفقهِ النّاسُ تسبيحَهُ، ألمْ تسمعِ اللهَ أيُّها القارئُ العزيز وهو يقول في فرقانه المبين: ((مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)) (الرّوم / 32)؟!، نعم، إنّهم فرحون بأعمالهم في الدّنيا وفي الآخرة أيضاً، وإن كان مآلهم إلى الجحيم، وهذا مقال آخر ربّما أفيض في الحديث عنه في المقبل من الأجوبة. أيْ أنّهم على الرّغم مما ذاقوه من عذابٍ في النّار، فإنّهم إذا حدثَ وأعيدوا إلى الحياة الدُّنيا، لعادوا إلى ماكانوا عليه من إنكار لله وعدم إيمانٍ ظاهريّ به، لأنّهم استلذّوا عذابَ الجحيم من باب رحمة اللهِ بعباده، وإلّا لما كان قال الخالقُ: ((أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ)) (النّمل / 62)، فهو وحده يجيبُ المضطرَّ حتّى وإن كان في الجحيم ويكشفُ عنه السّوءَ والعذاب! فسبحانه وحده جعلنا نتكلّمُ أكثر من لغة، وندين بأكثر من دين، لتتحقّق مشيئته وكلمته، ويتجلّى ملكوته!



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن