[72]. رحلة المئة سؤال وجواب، حوار صبري يوسف مع د. أسماء غريب حول تجربتها الأدبيّة والنّقديّة والتّرجمة والتَّشكيل الفنّي

صبري يوسف
sabriyousef56@hotmail.com

2019 / 1 / 25

صبري يوسف

72. بمناسبة حديثك عن نهاية العالم وربطك لها بانقراض النّحل، هل يمكنكِ أن توضّحي أكثر للقارئ العزيز تفاصيل هذه الرُّؤية؟

د. أسماء غريب

الحديث هُنا عن نهاية العالم ليس من منظور ديني أو لاهوتي بقدر ما هو من منظور علميّ، فمنذ القدم كانت النّحلة هي أمّ الكون، لأنّها مُلقّحتُه، والمسؤولة عن ظهور مملكة النّبات والحيوان وكذا الإنسان. لذا فإذا انقرضت هيَ انقرض وانتهى كلّ هذا الملكوت. لن يبقى هناك نبات تتغذّى عليه الحيوانات العاشبة، ولا خضر ولا بقول ولا قطانيّ ولا فواكه يتغذّى عليها الإنسان، وبهذا سيختفي الكلّ مادامت سائر المنظومات الغذائيّة في الكون مرتبط بعضها ببعض.

النّحلة كائنٌ مخلوقٌ وخالِق: مخلوق بنفخ قدسيّ من الرّحمن ومرتبط بالنُّور والشَّمس، وخالق لأنّه هو من يخلُق الطّبيعة بالتّلقيح، ويساعده في ذلك عدد آخر من الحشرات الملقّحة. الأشجار هي ابنة النّحلة، والأزهار كذلك، والطّيور وما إليها. وهي لأجل أهمِّيتها هذه ذُكرتْ في العديد من الكتب المقدسة، والقرآن الكريم خصّص لها سورة بكاملها تحمل عنوان (سورة النّحل). وهناك من الفلاسفة والقدِّيسين من لهم علاقة خاصّة بالنّحل، كأفلاطون الّذي كان النّحلُ يأتيه في طفولته ويضع له العسل في فمه. وكان يدعو الله قائلاً: ((يا روحانيّتي المتّصلة بالرُّوح الأعلى، تضرعي إلى العلّة الّتي أنت معلولة من جهتها لتتضرّع عنّي إلى العقل الفعَّال في صحّة مزاجي ما دمت في عالم التّركيب)). وكذلك القدّيس أمبروز أسقف ميلانو الّذي أتته أسراب من النّحل حينما كان طفلاً صغيراً فدخلت إلى فمه وخرجت منه وطارت إلى الأعالي دون أن تلحق به أيّ أذى، وما كان من والده سوى أن قال حينما رأى هذا المنظر العجيب: ((سيكون لهذا الطّفل شأن عظيم)). ولا يفوتني طبعا أن أذكر القدِّيسة ريتّا دي كاسيا وحكايتها مع النّحل الأبيض وهي طفلة رضيعة، إذ ذهبت والدتها ذات يوم لتعمل كعادتها فى الحقول فوضعتها تحت ظلِّ شجرة ثمَّ مضت، ولدى عودتها تجمّدت الأمّ في مكانها من الخوف حينما رأت مجموعة من النّحل الأبيض تدخل فى فم طفلتها ثمّ تخرج منه بصورة مستمرة فخشيت إن هي أتت بحركة ما أن يشتدّ هيجان النّحل، فوقفت صامدة صابرة، وهي تنظر بإعجاب شديد كيف أنَّ هذا النَّحل لم يأتِ لإيذاء صغيرتها، وإنّما كان يدخل فى هدوء شديد ليدهن حلق الطِّفلة بالعسل ويخرج منه كما دخل، وكانت الطِّفلة تتذوَّق ذلك العسل فى طمأنينة وفرح.

وعسل النّحل فيه شفاء للناس، مصداقاً لقوله عزّ وجلّ في محكم كتابه ((ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا، يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)) (سورة النحل، آية 69). وهو لهذا يحبُّه العرفاء والمتصوّفون، إذ يعتبرونه شراب الحكمة والعلوم اللّدنيّة. لكنّ الإنسان في غمرة انسلاخه عن خالقه، نسي النّحلة أمّه، وألحق بها الأذى، وكما قتل الخالقَ بداخله، فإنّه مُقْدمٌ على قتل كلّ النّحل بسبب ما يدّعيه من تقدّم علميّ وتكنولوجيّ. النّحلة أصبحت اليوم تموتُ بسبب المبيدات الحشريّة الّتي يستخدمها الإنسان في الحقول، وبسبب الإشعاعات القاتلة الصّادرة عن كلِّ الأجهزة الإلكترونيّة الّتي أصبح لا يستغني عنها في حياته اليوميّة بما فيها الهاتف الجوال، وبسبب تلوُّث الطَّبيعة ومرضها جرّاء الغازات الكيماويّة السَّامّة المستخدمة في مجالات الصّناعة وتكرير البترول والفوسفات وما إليهما، وكذا الغازات المدمّرة الَّتي تخلّفُها الحروب وتطلِّقها الطّائرات والمدفعيّات، كلّ هذا قضى على النَّحلة، وأربك نظامها الدَّاخليّ في الخليّة وخارجها، هي وكلُّ من معها من بقيّة الحشرات والحيوانات بين أسماك وطيور.

هكذا أصبح الإنسان: قاتلاً سفّاكاً من الدَّرجة الأولى. بل كائناً مريضاً في الرّوح والعقل، ولا أحد له القدرة على أن يضع حدّاً لهذا الهوس والجنون الّذي لن يقوده سوى إلى الهاوية. فهل سندقُّ أجراس الخطر؟ هل من مُدّكِر؟!



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن