نداء الواحة ورحلة العبور أو السفر حيث تجد نفسك

عمر بن أعمارة
omaramara@hotmail.com

2019 / 1 / 22

نداء الواحة ورحلة العبور أو السفر حيث تجد نفسك
في تزاوج طبيعي مبارك من السماء، بين الموت والحياة، بين العدم والوجود، بين الشح والعطاء، بين حدود اليأس ورحابة الأمل، ذات زمان غابر ولدت "واحة فڭيڭ" ككائن حي شرعي استثنائي قابل للحياة وللسكن، لكن في غياب الرحمة، لا ييأس العدم والصحاري والفيافي والإقصاء على الاشتغال باستمرار وبكل الطرق من أجل اكتساحها وخنقها وبالتالي وأدها: زحف الرمال ولهيب الشمس الحارقة وتيارات هوائية جافة وحارة وأخرى محملة ببرودة قاسية، وشح السماء وتهميش الدولة دون أن ننسى الدور السلبي لجيراننا (سلطات الجزائر)، لكن الواحة تأبى إلا أن تصمد وتقاوم بكل الوسائل: فمن الجبال تصنع حجاب لها وأدرع لوقايتها كما تحولها إلى أحد مصادرها للماء، ومن جوف أرضها تجعل الحياة ممكنة فوق سطحها، من حبال الشمس الحارقة وإبر القر الواخزة تنسج مزيجا رطبا يمنح الحياة للشجر والبشر وللنباتات والحيوانات والطيور والحشرات، ومن النخيل تصنع جنودا مجندة لحمايتها ولنشر مزيد من الحياة، ومن جهد أبنائها-داخل المملكة وخارجها- تستقي صمودها واستمرارية وجودها.
هناك في الواحة تفهم جيدا معنى قوله تعالى: "وجعلنا من الماء كل شيء حي".
في أوقات عديدة تحضرني الواحة ويكتسحني الحنين إليها، لكن في لحظة ما تطفو فوق كل شيء إذ تفوح رائحة المكان وحقل الذاكرة يزهر وزمان الطفولة يعود للإشتغال على سرديات الماضي الجميل، هكذا أشعر بدعوة ونداء ملح من الداخل والباطن يتكرر، وكيف لي أن أفر من نداء المحبوب إذ هو يناديني ؟ هل هناك من لا يستجيب لدعوة الداعي إذا دعاه ؟ من باستطاعته أن يكابر ولا يلبي ؟ الجاذبية سر بين المحب والمحبوب لا تدريه العلوم الفيزيائية ولا معايير لها في ذلك بل لن تفهمه مهما تطورت. ألم يقول الشيخ الأكبر ابن عربي ذات يوم: "كل محب مشتاق ولو كان موصولا" ؟ هكذا أشعر بدين للواحة علي، لابد أن أسدده، ولنفسي علي حق لابد أن أمنحها نصيبها. كل العلامات، كل الإشارات تخبرني وتحثني على أن أزور وأحج. هكذا أبرمج للسفر وأحزم حقائبي وأتجه نحو الشرق حتى مدينة وجدة المدينة الحدودية مع الجزائر.
وأنت تغادر مدينة وجدة من بوابتها الجنوبية وتضعها خلفك موليا وجهك صوب الجنوب الشرقي للمملكة حيث تنبت واحة فڭيڭ على الحدود المغربية الجزائرية المصطنعة، تودعك بعض الأشجار المتفرقة على جنبات الطريق. أن تتجه إلى واحة فڭيڭ يعني أن تعبر، فهو ليس مجرد سفر وتنقل بين مدينة وأخرى كما هو متعود عليه داخل المملكة، بل هو أن تركب طريقا مستحدثة أيام الإستعمار الفرنسي للمملكة، إذ الطريق الأصلية التي كانت تتطلب في ما مضى عشرة أيام كي تعبرها بالقوافل مشيا على الأقدام أو على ظهور الدواب: (جمال، حمير، بغال وأحصنة) كانت جنب الحدود الجزائرية وتجاور ينابع ومواقع مائية طول مسافة العبور، لم يعد لها من أثر. هذه الطريق الحديثة معبدة بالإسفلت ممتدة إلى ما لانهاية بطولها، منحدراتها، تموجاتها، منعرجاتها السهلة وإلتواءاتها البسيطة كأنها أفاعي عملاقة سوداء ممتدة في صف لا يحده إلا حدود البصر، أو كحبل غليظ أسود لا متناهي، وأنت تطوي المسافات بسرعة تتجاوز في بعض الحالات المائة كيلومتر في الساعة يتخيل إليك كأن سيارتك أو حافلة المسافرين التي تقلك تبتلعه أو كأنك تجره وتسحبه إليك، لكن هو يتمدد أكثر فأكثر، قد تزيد من السرعة لتدنو وتقترب من نقطة ما تبدو لك من بعيد، لكن كلما دنوت منها إلا وابتعدت هي عنك أكثر فأكثر كأن النهاية بداية للانهاية. قد تنفق ساعات طوال في طريقك إلى واحة فڭيڭ (أربع إلى ست ساعات) في صمت رهيب ومطبق يملأ كل الفضاء المحيط بك زمن الطريق لدرجة يجعل منك فيلسوفا إن كنت لوحدك، واحذر من أن تسهى أو تنام، وإن كان لك من مرافق فاحرص وألح عليه كي يكلمك ويحدثك وافعل أنت نفس الأمر معه. لتلك الطريق أسرارها وانفرادها وخصوصياتها ففي بساطتها واستوائها وشبه استقامتها تكمن ألغازها، في هدوئها وسكونها وفراغها شبه التام من حركة السير ومن وسائل النقل والتنقل تكمن أسرارها وخطورتها، فهي لا تخلو من بعض حوادث السير التي قد تؤدي في حالات قليلة إلى الموت، لكن بشكل فردي، ففي غالب الأحيان تنقلب الشاحنة أو السيارة بصاحبها ومن معه دون أن تتناطح مع الأخرى القادمة من الإتجاه المعاكس أو التي تسعى إلى تجاوزها، بل فقط نتيجة السهو أو النوم ( في واقعة عجيبة: ذات يوم من أيام أواخر السبعينيات من القرن الماضي خرج أحد تقنيي وزارة الأشغال العمومية مستقلا سيارته من مدينة "وجدة" قاصدا قرية "تندرارة" في مهمة عمل، وبين قرية بركم ( عين بني مطهر حاليا) وقرية تندرارة كان يسير بسرعة متوسطة نظرا لحجم السيارة وحالة الطريق آنذاك، و الطريق فارغة إلا منه هو وحده، لا سيارة تتجاوزه ولا شاحنة تتقاطع معه، ورغم ذلك انقلبت به سيارته دون وقوع أضرارا كبيرة، ولما سأله أصدقائه في الشغل: "كيف وقعت في الحادثة والطريق كلها لك دون منافس وأنت لك دراية بهذه الطريق بالنقطة والفاصلة " ؟ أجابهم قائلا: "طول الطريق: المسافة بين بركم وتندرارة (حوالي 114 كلم ) واستواءها وفراغها والفضاء الواسع الممتد في كل الجهات وكوني لوحدي حتى المذياع غير موجود، جعلني أشعر بالفراغ والملل القاتل ولم يبدو لي إلا كوكبة من الحمير على بعد من جنبات الطريق فركزت بصري عليها ورحت أعدها هكذا سهوت ولم أنتبه إلى طريقي إلا بعد أن أحسست بأن السيارة خارج الطريق المعبدة وحين عملت على استرجاعها بخفة وبسرعة انقلبت").لا أدري لماذا وزارة التجهيز وهي الوصية على الطرق لم تعمل على تثبيت على طول الطريق علامات تشوير مكتوب عليها:"إحذروا السهو والنوم إنه قاتل" أو ما دمنا في دولة إسلامية أن تكتب: "سبحان الذي لا يسهو ولا ينام". عفوا ربما هذه العبارة ستحثنا على المزيد من السهو والنوم أكثر مما نحن ساهون ونائمون بدلا من الاستيقاظ والانتباه واليقظة
قد تعبر مسافات طوال دون أن تتقاسم الطريق مع أحد أو يتجاوزك أي أحد أو تتقاطع مع أي كائن حي، في طريقك لا شيء إلا السراب يظهر ويختفي، إلا الأراضي المسطحة المنبسطة الخالية حتى من التلال الرملية والقاحلة إلا من بعض الخيم للرحل ومواشيهم وكذلك بعض النباتات الشوكية التي استغنت عن الأوراق المكلفة للماء والتي تقاوم وتصمد أمام لهيب الشمس وقساوة البرد وشح السماء وملوحة التربة ونشاط الزوابع الرملية خصوصا بعد الظهيرة (بلاد الحلفة والشيح والريح)، فضاءات شاسعة ليس بمقدور عيونك أن تحتويها كلها أو حتى أن تقوم بعملية الجرد والمسح لها، فقد يمتد بصرك إلى أقصاه فتعترضك نهاية مؤقتة حيث تبدو لك السماء منطبقة على الأرض في عناق حار لا يستشعره ولا يتذوقه إلا ذلك الذي لا تخذله رومانسيته التي تحضره أينما حل وارتحل، سماء زرقاء صافية أينما وليت بصرك، وإن صادفت غيمة ما فاعلم أنها هي الأخرى تبحث عن ماء كي تروي عطشها، كما قال ذات يوم أحد حكماء من واحة فڭيڭ. قد تلاحظ في مكان ما وفي لحظة ما إحدى الأشجار المنعزلة والمنفردة صامدة تقاوم قساوة الطبيعة، إعلم أنها واقفة هناك فقط لتساعدك وتخبرك أن هناك حياة في اتجاه الجنوب فواصل المسير ولا تقنط. على الطريق تصادف بعض شعاب الوديان غير عميقة وجافة تفصح عن علاقتها المتقطعة وغير الودية مع الماء وعلى نزول أمطار في أوقات قليلة ومتباعدة. إن لم تكن قد جربت فيما مضى من حياتك عبور هذا النوع من الطرق وتخطي المسافات الطويلة والمملوءة بالفراغات الممتدة في كل الاتجاهات، ربما في لحظة ما سيصيبك التعب والملل وينتابك الشعور بالتوقف عن المسير والرجوع إلى حيث أتيت، إذ في لحظات ما قد تظن أنك تتجه نحو المجهول، نحو العدم وأنك ستكتشفه وتعرف معناه. وإن كنت زائرا لأول مرة لابد أن تثقل رأسك مع المسافة الطويلة بأسئلة ستتكرر عندك: ( مازال المكان بعيد ؟ كم بقي لنا من وقت للوصول ؟ أين نحن الآن ؟ وأين وصلنا ؟ لازلنا لم نصل حتى إلى المدينة المسماة بوعرفة ؟ ما إسم هذا المكان الذي نحن فيه الآن ؟ يبدو أن المكان بعيد جدا، كل التقدير لأولئك الذين يعبرون هذه المسافة باستمرار ...). بعد خروجك من مدينة بوعرفة حوالي (270 كلم من وجدة) بعد أن تكون قد مررت مرور الكرام على قرية ڭنفودة (25 كلم من مدينة وجدة) ومدينة بركم (عين بني مطهر)(84 كلم من وجدة) ومدينة تندرارة حوالي (200 كلم من مدينة وجدة) وأنت دائما قاصد في اتجاه الجنوب حيث واحة فڭيڭ حوالي (380 كلم من مدينة وجدة) تدخل في ممر طويل وعريض un long et large couloir يأخذك إلى مدخل الواحة، وترافقك سلسلة جبلية تحيط بك على يمينك وأخرى على شمالك هذه الجبال هي الأخرى تفصح على أنها في خصام تام ولا علاقة لها بما هو أخضر، والأرض دائما وفية لسرابها، لبساطتها وتسطحها وشحها إلا من بعض النباتات الشوكية المعاندة والصبورة، كذلك بعض خيام للرحل مع مواشيهم وبعض الأشجار المنفردة والمتفرقة طول الطريق تخبرك أن هناك حياة حيث لا تظن ولا تعتقد. بعد أن تنجو من الفيافي الممتدة من جنوب مدينة وجدة إلى أقدام واحة فڭيڭ تبدو لك خضرة على شمالك وأقل منها اخضرارا على يمينك إلى أن تصل "تيزي نموش - تافرنت " (فج بين جبلين) إداك يبدو لك عشا أخضرا تحتضنه جبال شامخة، متماسكة مشكلة سلسلة وحلقة مغلقة إلا من بعض الفجاج، جبال ذات صخور متلاحمة، متجانسة ومتحدة دون أن تترك أي مجال لأتربة أو حتى للرمال، أو أي رقع لأشجار كي تنبت و تعيش وسطها، هي صلبة سوداء تميل إلى الرمادية. في تلك اللحظات بعد أن تعبر ممر "تيزي نموش" إلى داخل الواحة، ينتابك إحساس بدفء لا متناهي وبداية لحياة جديدة، ووقتها ستعلم أنك وجدت ما كنت تبحث عنه وما جئت لأجله. بعد أن تكون المسافة الطويلة والمدة الزمنية الممددة والفيافي والقحط الفائضين الذين رافقوك طوال طريقك قد سحبوا منك كل ما يوحي لك بالحياة أو حتى الظن على أن هناك حياة ما بعد هذا العبور، فإن الواحة تمنحك كل الحياة وتشدك إلى الخضرة والماء، إلى الدفء والبساطة والخصوصيات. عندما تطأ قدماك تراب الواحة، فائض من السكون والهدوء وسخاء في النقاء ودفء يأتيك من كل الجهات وحيث لا تحتسب دون أن تجاهد نفسك للبحث عنه. وكي تستوعب سر الواحة وتهيم في أعماقها وتنسجم مع أهلها لابد أن تسحب عنك كل ما أتيت به معك من المدن أو القرى الساحلية والداخلية أو من خارج الوطن، لابد أن تجدد عيونك التي بهما ترى ومنطقك الذي به تعير وتحلل وقدميك التي بهما تمشي، لابد أن تعيد ضبط عقارب ساعتك على عقارب زمن الواحة المنفرد، لابد أن تستحم بالبساطة الفائضة التي تلاقيها هناك في كل مكان وفي كل شيء، لابد أن تتطهر من كل الشوائب التي لا تمت بأي صلة بالطبيعة، لابد أن تغتسل من كل التلوثات: (الإزدحام، الضجيج، السرعة، القلق، التصنع، الشكليات، البروتوكول، استعراض ما يوحي بالتميز...) وترتدي رداء الطبيعة والنقاء. فالإزدحام فعل لا يُعرف معناه في واحة فڭيڭ والضجيج مفردة غريبة على أهل الواحة والتلوث كلمة مجهولة المصدر ولا مكان له هناك والبروتوكول دعه لك حتى المكان الذي قد يفيدك فيه استعماله والتصنع صناعة كاسدة وغير رائجة في الواحة والشكليات ليست من طبائع المكان ولا أهله.
في فڭيڭ كثيرا ما تتحول إلى آذان صاغية، إلى مستمع مثالي هادئ قليل الكلام إلا من السؤال. في فڭيڭ المكان يتحول إلى ذاكرة وذكريات، إلى سرديات لامتناهية، إلى سمفونيات تعزف بلغة القلب والروح للحياة. ما أبسطك وأنت تستلقي على الأرض داخل المنزل أو البستان أو في دروب وأزقة الحي وفي بعض المساحات العمومية، بذلك تكون أكثر طبيعيا وأقرب إلى الله وإلى الناس وتستوعب جيدا معنى قول نبي الإسلام عليه السلام: "كلكم لآدم وآدم من تراب". هناك في فڭيڭ لا تحتاج إلى الكثير من الجهد حتى تخلق سعادتك، لا تبدل جهدا في انتقاء الكلمات أو صياغة الجمل وترتيبها، فواحة فڭيڭ توفر لك وتمنحك مساحات شاسعة للتعبير الداخلي والمونولوج. وفي الواحة هناك أشياء كثيرة تناديك وتشدك إليها وزمن جميل انفلت من بين أيدينا وراح مرة للأبد.
* فڭيڭ، Figuig، أو فجيج: واحة تقع في الجنوب الشرقي للمملكة المغربية على الحدود المصطنعة مع الجارة الجزائر وهي مسقط رأسي وأزورها ما استطعت إليها سبيلا.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن