[42]. رحلة المئة سؤال وجواب، حوار صبري يوسف مع د. أسماء غريب حول تجربتها الأدبيّة والنّقديّة والتّرجمة والتَّشكيل الفنّي

صبري يوسف
sabriyousef56@hotmail.com

2019 / 1 / 19

صبري يوسف

42. أعددت رسالة الدكتوراه: عن الحداثة في المغرب، من التَّاريخ إلى الأدب: محمَّد بنِّيس أنموذجاً للدراسة والتَّحليل، ما هي أهم تجلّيات الإبداع الَّتي يتميّز بها الشَّاعر المغربي محمَّد بنّيس؟

د. أسماء غريب

وهذه أنتِ يا جزيرةَ الشّمسِ، مازلتِ كما عرفتُكِ ذاتَ آب، حينما قدمتُ إليكِ من بلاد الأتقياء والأولياء، وفي اليد حقائبُ، وبالقلبِ أحلامٌ وأماني ورسائلُ. إنّكِ أنتِ أنتِ، مُذْ رأيتُكِ لأوّل وهلةٍ تفتحينَ لي ذراعيْكِ بكلّ ما في الأمّهاتِ العاشقاتِ من دفءٍ وحنان. وكيف لا تكونين كذلكَ وبكِ جعلتُ من الفِكر محراباً لا تؤمُّه سوى كواكبُ الحرفِ المتلألئة بشموع العشق والمحبّة، والقادمة من سماوات الألقِ والزخّ النّاريّ؟! كواكب فيها مَنْ شربَ لبنَ النُّبْل والشّهامة من ضرع بلادي، وفيها من كحّل عينيْه بنور سراجها الوهّاج، وفيها أيضاً من تعمّد بماء دجلة والفرات، ومن غطس في أردنّ الخير والعطاء، وفيها منْ يُجيدُ الحديثَ إلى البدر المستقرّ في عمق السّماء، ويعرفُ كيفَ يرحلُ بصحبته إلى شعراء العهود الغابرة والحقب الآتية، يُكلّمُهم ويناجيهم، ويبثّهم بعضاً من أحزانه، وفي القلبِ آهاتٌ، وبالصّدر تعلو حسراتٌ، وذاك هو قطرسُ فاس، محمّداً بنيس. وإنّي لأعلمُ جيّداً يا جزيرة الشّمسِ، يا أمّي الرّؤوم أنّكِ تعرفينَهُ كما تعرفين كلّ حرف وُلدَ وترعرعَ بين أحضانكِ؛ فكما عانقْتِنِي عانقْتِيهِ، وكما بُحْتِ لي بالكثير مِنْ أسراركِ، بُحْتِ لهُ ببعضِها، وكما دَلَلْتِني عليه، دللتِهِ عليّ، وكان لندائكِ لهُ، صدىً ردَّدَتْهُ الجبالُ بين بلرم وكتانيا وسيراكوزا، وبين المحمّديّة والرّباط ومراكش وفاس.
وكم مِنْ مرّةٍ جاءَكِ حاجّاً زائراً وبالفؤاد قصائدُ وشموع وأزهار، وكم مرّة قرأتُه من ديوانه (هناك تبقى) إلى (شطحات لمنتصف النّهار) ووصولاً عند (شيء عن الاضطهاد والفرح). لكنَّكِ قلتِ لي بصوتكِ الحنون إنّ كلّ ما قرأتُه في كهف حرفه الغزير غير كاف، وقلتِ أيضاً إنّهُ قد حانَ الوقتُ ليلتقيَ القُطْبان. وذهبتُ وبين يديّ (كتابُ الحبّ)؛ ديوانَه الشِّعْريُّ الّذي قال فيه: ((أنا لا أنا، أنا الأندلسيُّ المُقيم بين لذائذ الوصل، وحشرجات البين، أنا الظّاهريّ القرطبيّ، أنا الّذي رُبّيتُ بين حجور النّساء، بين أيديهن نشأتُ، وهنّ اللّواتي علّمنني الشّعرَ والخطَّ والقرآن، ومن أسرارهنّ علمتُ ما لا يكاد يعلمه غيري، أنا الّذي يقول: الموتُ أسهل من الفراق، هذه شريعتي)). نعم، تلكَ شريعتُه، ولقد خبرتُها جيّداً حينما حزمتُ وزوجيَ الحبيب حقائبَنا وذهبنا إلى مغربِنا نُجدّدُ معهُ العهدَ، كما يفعلُ الأبدالُ تحتَ شجرةِ الشِّعر، لأنّنا منْها دخلنا إلى بيت الدّكتور محمّد. وأذكرُ أنّ في تلك الفترة كان الزّمانُ ما بعد عيد الأضحى مباشرةً، وكان الجوُّ ماطراً بغزارة الحرف النّقيّ البهيّ. وحينما رأيناه ينتظرُنا بالقرب من محطّة القطار بالمحمّديّة، هتفتُ قائلةً: إنّنا سفراء جزيرة الشّمس إليكَ. وكنتُ أعني ذلكَ تماماً، لأنّني جئتُهُ في مهمّة أكاديميّة رسميّة كلّفتني بها كلّيّة الآداب والفلسفة بمدينة بلرم، على إثر الأبحاثِ الّتي كنتُ أقوم بها عن الشّعر والحداثة في المغرب، والّتي كانت في الوقت ذاتهِ مِحور أطروحتي لنيل شهادة الدّكتوراه بجامعة المعرفة فيما بعد بالعاصمة روما.
وحينما وصلنَا بيتَه المُزْهِر بالسّلام والأمان كان قد باركنَا المطرُ جميعاً بقطرات التَّرحيب والصّفاء، وكان أوّل ما استلمتُ منهُ مُجلّد (الشّعراء) الصّادر سنة 2006 عن المركز الثّقافي الفلسطينيّ ((بيت الشّعر))، والمُخصّص لتجربته الأدبيّة الّتي كتب عنها العديد من أعلام الأدب العربيّ والعالميّ أمثال قاسم حداد، وبرنار نويل، ومحمد لطفي اليوسفي، وعبد العزيز المقالح وفرنشيسكا كورّاو.
وفي تلك اللّحظة وبينما كنتُ أحيّي الكتابَ، وأحاولُ الوقوفَ عند عتبته، إذا بي أشعرُ أنّ بلدي الحبيبَ كلّه قدِ ابتسمَ لي، وقام واقفاً ليطبع فوقَ جبيني قُبْلةَ العيد. نعم، لقد كان مجلّدُ (الشّعراء)، هدية عيد الأضحى الّتي تنسّمتُ فيها عطر الوطن الغالي، وبها سمعتُ فاس وهي تحدّثني بأبجديّة الأنقياء، وتدلّني على الكُتّابِ الّذي كان يذهبُ إليه محمّد طفلاً ليتعلّم أسرار الحرف وآياته الكبرى، وكذا على أساتذتِه الأوائل بدءاً من محمّد أبو عسل، وخناتة بنونة، ثمّ وصولاً إلى أصحاب الدّرب الطّويل كمحمّد الخمّار الكنوني، وأدونيس الّذي نشرَ لهُ قصائده الأولى في مجلّة (مواقف) سنة 1969.
وبينما كنتُ أصيخ السّمع إلى فاس بكلّ ما فيّ من خشوع وعبادة، إذا بي أراها وشقيقتها المحمّديّة، تتوقّفانِ عند أوّل مجلّة أسّسَها محمّد بنّيس، وهي ((الثّقافة الجديدة)) الّتي لعبتْ دوراً رياديّاً في الحياة الثّقافيّة المغربيّة، لأنّها كانت من أهمّ المجلّات الّتي عرفت كيف تبتعدُ بما هو ثقافيّ عن كلّ ماهو سياسيّ، وبدأتْ تنشرُ آنذاكَ أعمالاً جديدة على ذائقة القارئ المغربيّ، وخاصّة تلك الّتي كانت للعديد من الشّكلانيين الرّوس، وفلاسفة البنيويّة الفرنسيّة. إلّا أنّ المجلّة لم تدم طويلاً، وتمّ إيقافها في 4 كانون الثّاني 1984، على إثر الإضراب العامّ الّذي شنّته قطاعات واسعة من المجتمع المغربيّ وما تبع ذلك من أحداث دامية واعتقالات.
لمْ تنسَ فاسُ، والمحمّديّةُ وهُما تبوحانِ لي بتفاصيل حكاية ((الثّقافة الجديدة))، أن تُعطياني (المكان الوثنيّ)؛ ديواناً آخر لأقرأَ به وجهَ محمّد كما يفعل النّاسكُ مع الصّحراء، وهو يحاولُ فكَّ طلاسم كهوفها وصخورها ونخيلها، وواحاتها الّتي انحسر عنها الماءُ تاركاً خلفه شقوق الوحشة والعطش. إذ لولاه لما رأيتُ ذاك الشّحوبَ الّذي يعلو محيّا الأديبِ محمّد، وما يصحبه من صفرةٍ مضيئةٍ كنتُ أعرف جيّداً سببَها، لأنّها تشبهُ صفرة من يدخلُ كهف القلب لينحتَ فوق صخرته قبّتَه المقدّسة، ويجعلَ منه كعبته الّتي لا يطوفُ بها حاجّ سواه، ولا يشاركهُ في محبّة الحرف وكشوفاته بداخلها أحد.
وهذا كلّه وإن كان يجلبُ السّعادة لمحمَّد بنّيس، فإنّه كثيراً ما كان يثيرُ حسد الأغيار وكراهيّة مَن حوله ممّن أصبح لا همّ لهُ سوى الكيدِ، ومحاولة النَّيل منه ومن نقاء وبهاء يراعه، كما يبدو جليّاً هنا بهذا الجزء من نصّ لهُ أحفظه عن ظهر غيبٍ، يقولُ فيه: ((فجأةً حدث ما لم أكن أنتظره أو أظنّه. إنّه الرّمزُ الّذي يتحوّل إلى سيّد. ناطق بالحقيقة. كاملة. خالصة. آمرة. فاعلة. السَّيّد الرّمز. الشّابُّ السِّياسيّ أصبحَ مالكاً للحقيقة. حتّى أولئك الّذين لم يفلحوا في تكوين أنفسهم ثقافة عامّة. أوليّة. أصبحوا مالكين لحقيقة كلّ شيء. ومن عذابه يُقبِل علينا العذاب. هو الآمرُ به. المحرّض عليه.
أصبح السيّدُ الرّمزُ يُفتي في الشّعر والقصّة والرِّواية والنّقد والفنون والفكر والتَّاريخ والعلم والحبّ واللِّباس والصّداقات. في كلّ شيء. وعليكَ الطّاعة. أنا لا أحسنُ الطّاعة على الدَّوام. متشبّهاً بخياله المريض عن ماركس وإنجلز ولينين. يضعُ الخطاطات اللّازمة للمعرفة الكلِّية. الشَّاملة ويأمركَ. بل لا يسمح لكَ بالكلام. أمامه أو خارج الأمر. كلّما حرصتَ على مساندته، عظُمتْ عبوديتك.
لم أقبل عبوديّة لأكون عبداً. والتَّساؤل يتّضح عن صناعة الرّمز في وطني. الرَّمز السّياسيّ. من الخالقُ للرّمز؟ عتبة الاعتقال أم غير المعتقَل؟ سؤال وسؤال. ولم يكن لي من القوّة ما أعلن به عن الاختلاف. والتّعامل معه كإنسان أولاً. أقاسمه العذاب. إنساناً لا سيّداً. وهو لا يعبأ بحرصي على حلمنا معاً. على ضحكاتنا الَّتي كانت تتخلّل الكلمات. إنّه السَّيّد. وعليّ أن أفهم ذلك.
قول ((لا)) كان تأكيداً على حرّيتي. في الجحيم الثَّالثة. حيث أصبحتُ محاكماً من طرف أقرب الأصدقاء. لمجرد أنّي ملازم لحرّيتي. وحرّية الكتابة. لمجرّد أنّي أتأمّل الثّقافة المغربيّة والعربيّة من مكان آخر. لا يدركه حتماً. بيني وبينك الزّمنُ. يا من كنتَ صديقاً وفضّلتَ استعبادي. إلى الجحيم الثَّالثة ألقيتَ بي. ليزداد السّعير. وأختبرَ مستحيل الشّعر، من مكان آخر)).
وما أشبه الماضي بالحاضر القريب، وكأنّ شيئاً لم يتغيّر، وظلّ محمَّد بنّيس يعاني في صمتٍ صوفيّ مرير إلى أن كتبَ وبعد مضيّ أربعة عشر عاماً، رسالة وجّهها هذه المرّة إلى رئيس بيت الشِّعر في المغرب –آنذاك- نجيب خداري وكانت بعنوان (الخوف من المعنى)، وفيها يسائلهُ عن السّبب الّذي يدفعه وأصدقاءه إلى الاستمرار في التَّشطيب على اسمه وأعماله من أنشطة وخطابات ومنشورات «بيت الشّعر في المغرب»؟ حتَّى لكأنّ الأمر كان فيه حكماً بالإعدام المدنيّ، أصدرهُ بحقّه حسن نجمي، بدون سند قانونيّ أو أخلاقيّ، أو وثيقة رسميّة بخطّ يده أو بإمضائه تثبت أن محمّداً قد سحب عضويّته من «بيت الشِّعر في المغرب»!
الشّعر هو هذا المكان الوثنيّ الممتلئ بالصُّخور والأحجار، الّتي تتنظر صعود بحر الكلمة من مغارتها لتحشر هدأة الغنباز في رحم الأبجدية الأبديّة، وكيف لا يكونُ كذلك ومحمّد نفسه يقول: ((رملٌ / هنالكَ يستوي تلّاً / أحدّدُ شكله بفراغهِ / دِمليجُ سيّدةٍ / يُواصلُ حدّة اللّمعانِ/ بين حجارةٍ / وحجارةٍ / صرخاتُ أطفالٍ / تردّدُ / رقصة الموتى)).
قليلون هُم، أولئك الَّذين يحفرون في صخر الحرف بكلّ تؤدّة وصبر وحِلم، ومحمَّد بنّيس واحد منهم، وإلّا لما كانت نادتهُ من عمق أعماق محيطات الشّعر جزيرةُ الشّمس صقلّية، لتطلعه على فوّهة إتنا المهيب؛ بركانَ كتانيا وبوَّابة الجحيم. هكذا يسمّونه عرفاء صقليّة، لأنهم يعلمون أنّ هذا الجبل الحيّ الغاضب باستمرار، ما هو سوى مدخلٍ من أشهر مداخل الأرض وبوَّاباتها إلى عالم الأموات، وكيف لا يكون كذلك وجزيرة صقليّة بأسرها، -كما قال عنها الأنتروبولوجي الصّقليّ دجوزيبه بيتري (1841-1916)-، هي المكان الّذي اختاره إبليسُ لتكون مقرّاً لمملكته، وهو القول الّذي يجدُ ما يؤكّده في القصص الوسيطيّة الّتي تؤرّخ لما كان أهلُ مدينة البركان ينعتونه بشيطان الظّهيرة؛ الشّابّ الملِكُ السّاحر الجميلُ، الّذي كان لا يظهر إلّا كلّما انتصف النّهار، أيْ كلّما دقّت السّاعةُ معلنةً الثّانية عشر ظهراً بالتّمام والكمال، وذلك تلبية منه لرغبة بعض حسناوات مدينة كتانيا اللَّائي على الرّغم من خوفهنّ الشّديد منه، إلّا أنّهنّ كنَّ يبحثن عنه لجماله الأخّاذ، وسلطانه الّذي كان يزيد من اشتعال الرّغبة والشّهوة المتأججة في صدورهنّ.
هو هذا عالم الأموات في صقليّة، وهو أكثر حياة من عالم الأحياء أنفسهم، ولا تجدُ ركناً من أركان هذه الجزيرة إلّا وفيه احتفال باذخ بالموت والموتى، بدءاً من المتاحفِ الّتي يُعَدُّ متحف مدينة بلرم أو باليرمو أشهرها، وصولاً إلى الكنائس الّتي تكادُ لا تخلو واحدة منها من رفات القدّيسين وكبار شيوخ اللّاهوت الكاثوليكيّ. أمّا المقابر فحدّث ولا حرج، إذا ما دخلتها انتابك شعور بأنّك في حدائق خضراء غنّاءة تُدْخِلُ البهجةَ والسُّرور على زائريها، لما فيها من مظاهر تدعو إلى الفرح بما في ذلك الورود المنتشرة في كلّ مكان، والمنحوتات الفنِّيّة الجميلة الَّتي غالباً ما تُجسِّد الحضور الملائكيّ لكلّ من جبريل وميكال وعزرائيل عليهم جميعاً أفضل السَّلام. فبالموت قهرَ أبناءُ جزيرة الشّمس الموتَ، وبه زرعوا بذور المحبّة وهُم يعلون صَرْحَيِ القدّيسيْن؛ روزاليا وبينيديتّو المورو، شفيعيْ مدينة باليرمو. روزاليا، السَّيّدة الَّتي كلّما تطلّعتُ إلى محيّاها البهيّ، تذكَّرتُ سيّدة أخرى بها دخل محمّد بنّيس إلى عالم الموت والموتى، وتعلّمَ كيف بالموت يلجُ إلى ملكوت الأبديّة، وقد قال فيها دون أن يذكر اسمها أبداً، وهو واقفاً يناديها من جبال المغرب الأطلسيّ، بالضّبط كما وقفَ بعد سنين طويلة على جبل إتنا الصّقلّيّ العجيب: ((غريبة أنت أيَّتها السَّيّدة! من أوصاني بالصّمت في حضرتك؟ من ثبّت في صدري ألفةً لمْ يهجم عليّ فيها أيّ بكاء؟ من وجّه عينيّ إلى دم هو لي مسكن به أقاوم كلّ دم؟ ولكن من أين تأتيني كلّ هذه الأسئلة على الأطلسيّ في منتصف النّهار؟ ألأنّ القربَ منك أصبح شفّافاً أم لأنّ النّداءَ هو النّداء، في اللّيل والنّهار؟)).
إنّها الأسئلةُ الّتي لا تأتي إلّا إذا ما دخل المسافرُ عوالمَ الموت، وبحثَ فيها عن رمسه كما يبحثُ عن الوردة والشّمعة والقلم، فالقبور لا تُفزِع، ولا الموتى، لأنّكَ فقط أيّها القارئ العزيز حينما ستجدُ قبركَ، سيصبحُ بصرُكَ حديداً، وسترى جيّداً أنّ النّاسَ، كلّ النّاس موتى وإن لم يدفنوا بعد، وستبتسمُ طويلاً لأنّك ستسمع كلّ واحد منهم وهو ينشد أغنيتَه الخاصّة والحميميّة جدّاً، في البرد كما في الدّفء، وفي تلك اللّحظة فقط، عليك أن تنتبه وتستيقظ لتضع جثّتكَ أمامكَ وتصلّي عليها صلاة المحبّة والوداعة والجمال، لتولد طفلاً بهيّاً ينظرُ إلى جبل النّور، هناك حيثُ تنبُتُ سدرة منتهاك، بالضّبط كما قال محمّد بنّيس وهو يُحدّق ذات موت في قبره جيّداً: ((بين استوائي ميّتاً وبين الدّفن تكمنُ الأسرارُ. أسراري. وأسرارُ موتي. وأنا في الحقيقة مهووس بهذه المسافة القصيرة الّتي أصبحتُ أمجّدها. إنّها المسافة الوحيدة الّتي يمكنني التَّعرّفُ عليها. كما تعرّفتُ ذات يوم على جثّتي مستلقيةً على سطحٍ مستوٍ تماماً. تنتفي عنه صفات اللّيونة والخشونة. مستوٍ. لأنّ جثّتي ملقاة على الظّهر. وعمودي الفقري مثبّت إلى الأرض... تلك الأسرار أسراري أنا. ولن يطّلع عليها أحد. في اللّمعة الأولى للغلس، أشرع في تنميقها على طريقتي الخاصّة، مستحضراً أجمل أبيات الشِّعر الّتي كنتُ حفظتُها عن ظهر قلب لتكون زادي وعوني في وضع الخطابات المهيّجة لأسراري. إنّني ولا غرابة في ذلك، وضعتُ جغرافيّة للدّفن. تلك المسافة. الأسرارُ تعني أنّني أميلُ إلى طقوس كونيّة. سأكون مفترياً لو قلتُ كم من وقت سيستغرقُ تنفيذها. وهو ما شرعتُ فيه منذ أن لمستُ جلد جبهتي فوجدته بارداً. وتأكّدتُ عندئذ أنّني ميّتٌ. ولا سبيل إلى التّراجع عن الموتِ. فنحنُ في الموت. دائماً. هكذا. حتّى لو تخيّلنا أنّ الأمر مجرّد مزحة)).



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن