أضواء على مفهوم الدولة المدنية

مولود مدي
mr.syfaxx@gmail.com

2019 / 1 / 18

أكبر مشكل واجه فلسفة السياسة هو فكرة ممارسة السلطة، لأن السلطة موجودة بطريقة أو بأخرى، والسلطة لا بد منها لممارسة الحكم أو لكي تقوم الدولة بوظائفها المختلفة، فنجد أهم سؤال يواجهنا هنا هو تحديد مشروعية السلطة، فتارة تحددها سلطة التقاليد، التي كان يمارسها كبار القبيلة وشيوخها، ومرة تحددها صفات وخصال القائد، وثقة الرعية فيه، وتارة أخرى نجدها في الغلبة الآتية من قوة عصبية القبيلة، وأخيراً قد نجد إرادة المجتمع كما هو الشأن في الأنظمة الديمقراطية، بالإضافة إلى ما سبق هناك عوامل لا تقل أهمية منها الدينية، العسكرية، الاقتصادية.. فمن خلال ما سبق يمكن أن نستخلص أن هناك مصدرين للسلطة، أولهما الفرد، ثانيهما المجتمع، لكل منهما ميزاته الخاصة به، نتج عنها أنظمة حكم مختلفة ومتباينة.

مشكلة العلاقة بين الحاكم والمحكوم كانت من أمهات المسائل التي فرضتها ظروف الحياة العملية على رجال الفكر في انجلترا وفرنسا بصفة خاصة, خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر, فقد حدث في انجلترا مثلا ان قامت ثورة ضد الملك شارل السادس على أن الملك مغتصب لحقوق الشعب. والذي يهمني من ذلك في حدود حديثي هذا هو ماذا كان دور رجال الفكر ازاء تلك الثورة السياسية بطرفيها, فالثائرون من الشعب في ناحية, والملك المثار عليه وأنصاره في ناحية اخرى, هل أقفل المفكرون على أنفسهم أبواب بيوتهم طلبا للعافية وراحة البال؟ هل اكتفوا من الأمر بعبارات, موجزة يخطفونها خطفا من هنا وهناك؟ هل استندوا الى وقفات عاطفية يؤيدون بها هذا الطرف أو ذلك الطرف ثم استراحوا؟ لا شيء من هذا, فذلك شأن الشعب حين يريد لنفسه الموت, اما أولئك الرجال فقد أخذوا حياتهم بجدية من يحيا حياة قوية ولا يتردد في أن يحمل تبعاتها.

كان هنالك منهم من رأى مناصرة الملك كما كان هنالك من رأى مناصرة الشعب الثائر, لكن المهم هنا هو كيف تكون المناصرة بالنسبة لرجل يفكّر؟ فالذي يرى ان حق القرار أخر الأمر انما يكون للحاكم وكذلك الذي يرى أن حق القرار انما يكون للشعب ممثلا في نوابه.. أقول ان كلا الرجلين اذ يناصر من يناصره, لابد له من اقامة الرأي على دعامة فكرية, ولا تكون تلك الدعامة قائمة على أساس ثابت, الا اذا تعقب الباحث مجتمعه الى اصول أصوله, ليرى هل في الطريقة التي نشأ بها المجتمع ما يكشف عن الاجابة السليمة؟.

كان "توماس هوبز" في القرن 17 هو على رأس من تصدوا للدفاع عن حق الملك في اتخاذ القرار النهائي, وان ثورة الشعب التي تزعمها "أوليفر كرومويل" لم تكن على حق في مهاجمته وقتله, ولكي يوضح هوبز على اي الاسس اقام حكمه ذاك, أصدر كتابه المعروف "الليفياثان" وهو اسم لوحش خرافي يبتلع في جوفه كل من عاداه, في هذا الكتاب تحليل مستفيض لما كان عليه أفراد الانسان, وهم على بعد على فطرتهم الأولى, وقبل أن يلتئموا في مجتمع, ثم انتقل من ذلك التحليل الى نتيجته, وهي أنه لا بد من ان قد تم اتفاق بين جماعة من الأفراد على ن يعيشوا معا بحيث يتنازل كل منهم عن جزء من رغباته لكي يمكن التوفيق بين مختلف الأفراد لكن من الذي يضمن لهم حسن التنفيذ؟ انه لا مناص من أن يوكل أمر ذلك الى رجل قوي يستطيع ان يكون حكما عند نشوب اختلاف بين الأفراد, وان تكون له القدرة على ردع المتمرد.

وبهذا بذرت البذرة الأولى لقيام الدولة, ولقيام الملكية التي تتجسد بها فكرة الدولة, وجهة النظر هذه جاءت مضادة للتيار التاريخي الذي كان يتجه بالناس نحو أن تكون السلطة للشعب لا للملك الذي يحكمه. وهنا قدّم مفكر أخر عملاق هو "جون لوك" كتابه "الحقوق المدنية" وكان التحليل النظري الذي أورده هذا الكتاب, بحثا عن نشأة المجتمع كيف جاءت, قد انتهى الى نتائج شبيهة, في صورتها بما انتهى اليه كتاب "هوبز" وأعني افتراض "تعاقد" بين الأفراد الذين منهم نشأ المجتمع, الا ان "لوك" بنى فكرة التعاقد شيئا يختلف كل الاختلاف عما بناه "هوبز" على الفكرة نفسها اذ وصل "لوك" الى وجوب أن يكون الرأي للشعب في وجود الملك نفسه أو خلعه, لأن الشعب هو الذي اختار ملكه عند النشأة الأولى, فيظل للشعب حق الابقاء عليه أو خلعه, فطاعة الملك والحاكم يجب أن تؤسس على الحق لا على القوة, فالقوة الملزمة للقانون المدني تستمد على الزام القانون الطبيعي, ونحن لسنا مجبرين على طاعة الحاكم بقوة القوانين المدنية لأن الالزام بالطاعة هو الالزام بالحق الطبيعي وكانت فكرة "لوك" هي التي كتب لها أن تكون أدوم بقاء وأعمق أثرا.
تلك الأزمات والثورات والحروب كما تبدو هي تعبير عن تناقضات حية في واقع المجتمع الاوروبي في القرن 17, وقد أفرزت هذه التناقضات على المستوى السياسي ظاهرة الديكتاتورية والحكم المطلق, وعلى المستوى الديني ظاهرة ملاك الحقيقة المطلقة, الذين أطلق عليهم لوك أهل الحمية. وبدأ القرن 17 وكأنه عصر المطلقات, ولكن مطلقات هذا القرن هشة الجذور ضعيفة المضمون, سرعان ما تهاوت أمام مسيرة التقدم العلمي على يد كبلر وجاليلو وكوبرنيكس. كان للتقدم العلمي دور في مراجعة أفكار الانسان ومفاهيمه وتصوره للكون والمجتمع ولنفسه فضلا عن الاكتشافات الجغرافية.
.

المهم, غاية الدولة ليست السيطرة، فرغم أن السلطة فيها شيء من الإكراه (التسليم بسلطة القانون)، الإكراه الذي يسمح بتكوين الرجل المتحضر، الرجل القادر على العيش في مجتمع الحرية. يقول الفيلسوف هايك: «إن الإنسان غالباً ما كان متحضراً ضد إرادته»، وبعبارة أخرى، فإن الإنسان الحر يعتمد على سلوكه الأخلاقي الذي يسمح له باحترام القانون، أساس الحياة في المجتمع, وقد يفهم القارئ أن الاكراه هنا يعني العبودية المناقضة للحرية وهذا غير صحيح, هذه التنازلات في جوهرها ليست عبودية لأن حرية الانسان في المجتمع المدني لا تخضع لأي قوة الا السلطة التشريعية. وبقيام السلطة التشريعية يصبح كل فرد خاضعا للقانون, والكل متساويا أمام القانون, ولا يستطيع أي فرد بسلطته الخاصة الخروج عن القانون, باستثناء أو امتياز .
أن يملك كل فرد في حالة الطبيعة (حالة الحرية المطلقة), تنفيذ قانون الطبيعة, ويجعل من الفرد مشرعا وقاضيا للحكم في قضيته الخاصة, وهنا يفعل حب الذات والتحيز والهوى فعله بالعواطف المريضة, وتكون النتيجة الفوضى وعدم النظام, ولهذا العلاج المناسب لحالة الطبيعة هو الحكومة المدنية, حيث يقبل كل البشر برضى ويجعلوا أنفسهم أعضاء في المجتمع السياسي. ويتنازل كل فرد عن حقه في أن يكون القاضي الحاكم والمنفذ لقانون الطبيعة الى القوة السياسية, هنا فقط يقوم المجتمع السياسي أو المجتمع المدني.. شعبا واحدا جسما سياسيا واحدا, فذلك يجعل للمجتمع سلطة هي كل واحد, هي السلطة التشريعية صانعة القانون كخير عام للمجتمع.

ان ما يمنحه العقد الاجتماعي لصاحب السيادة على رعاياه لا يتجاوز قط حدود المصلحة العامة. فليس على الرعايا تقديم حساب عن ارائهم لصاحب السيادة الا بمقدار ما تهم أراؤهم المجتمع, وعليه يهم الدولة أن يعتنق كل مواطن دينا يحببه بواجباته, لكن معتقدات هذا الدين لا تهم الدولة ولا أعضاءها, الا بمقدار ارتباطها بالأخلاق, والواجبات, المترتبة على معتنقها تجاه الأخرين. فضلا عن ذلك يستطيع كل واحد أن يعتنق من الأراء ما يطيب له دون أن يكون من حق صاحب السيادة معرفتها, اذ بما أنه لا اختصاص له في العالم الاخر, فأيا كان مصير رعاياه في الحياة المقبلة, فليس ذلك من شأنه, بشرط ان يكونوا مواطنين صالحين في هذه الدنيا.
لا يجب أن نغفل عن أن مفهومي الدولة والمواطنة لم يتعرف عليهما الإنسان إلا قبل مائتي سنة فقط، لقد كانت الطبقية هي بديلة المواطنة، فهناك طبقة العبيد، ثم طبقة الحرفيين ثم طبقة النبلاء ثم الملك، وهذه الطبقات لا تتساوى في الحقوق والواجبات، وكذلك في الفكر الديني، كان المسيحي لا يستوي مع المسلم، ولا اليهودي مع الملحد، وبالعموم لا يستوي المؤمن مع غير المؤمن بدين وطائفة الأغلبية، حتى الأديان أرى أنها لم تعرف المساواة، لأن الدين ليس فكرة مجردة متعالية عن الواقع، الدين هو أيضاً ظاهرة اجتماعية تتأثر أيضاً بالواقع الذي ظهر فيه. لكن الفارق أن الدين لم يدع إلى المساواة ولم يحارب الفكرة في نفس الوقت، فكرة المساواة ظهرت بظهور المواطنة، وبفضلها انتهت الطبقية، واتحد المجتمع وأصبح الملك مثل الحرفي ومثل الفلاح، الهدف واحد وهو خدمة المجتمع.. وعليه جوهر المواطنة هو المساواة، وأساس الدولة هو المواطنة، وليس هناك دولة من دون إعلان واضح للمساواة بين المواطنين بغض النظر عن اختلافاتهم، ومن المهم جدّاً أن أشير أنه ليس الكهنة من الدين المسيحي أو الإسلامي أو اليهودي فقط من حارب فكرة المساواة، بل بيّنت السياسية الألمانية الشهيرة «هانا أرندت» في كتابها «أسس التوتاليتارية» أنه لطالما كانت المساواة بين المواطنين أحد الهواجس الرئيسية التي راودت الأنظمة الاستبدادية والمتسلّطة التي تعاقبت على البشرية منذ القدم.

لقد أشرنا الى الدين قبل قليل ويجدر بنا أن نسأل ما دور الدين في الدولة المدنية؟ علاقة الدين بالدولة المدنية هي علاقة جوهرها الحب وليس الحكم كما يسمّيها روسو, حب المجتمع والاندماج فيه, حب القانون, حب ابداء الواجب, حب التضحية عند اقتضاء الحاجة. و كثيرا ما يؤكد روسو أن " دولة العقد الاجتماعي والارادة العامة ليست دولة دينية " فدين الانسان لا علاقة له بالهيئة السياسية او المجتمع. لكن يرى روسو أن للدين وظيفة في مجتمع العقد الاجتماعي, لكنه ليس دورا تشريعيا ولا دورا تأسيسيا.
وقد يسأل القارئ, ما الذي يمنع الدين من أن يكون دعامة الدولة ما دام انه قادر على ايجاد شعور بحب الواجب لدى الفرد؟ هناك فرق بين بناء دولة وبين ترسيخ شعور حب الواجب وخدمة المجتمع, المعتقدات بالأساس لا تصلح لبناء دولة, لأنك عندما تقول دولة, فإنك تعني أن هناك عقد اجتماعي بين افراد المجتمع, اي هناك توافق, لكن كيف تريد بناء توافق عن طريق المعتقدات التي تتكون من عدّة افكار سبق وان كانت سببا في تفرقة البشر وتنازعهم؟ ما يشكل الدولة المدنية هو مجموعة من الأفكار القابلة للتطبيق والتجربة والنقد والتغيير, بوصلة هذه الأفكار هي المصلحة العامة للمجتمع, المعتقدات، غير صالحة لبناء مؤسسات دولة لأنها عبارة عن أفكار غير مستقرة فكل شخصٍ يؤمن بماذا يريد، ويقبل بأفكار غير قابلة للتجربة ويراها غير قابلة للنقد والتغيير كما يفرض على الأخر التنازل عن معتقداته ومذهبه لكي يقبل به.

نحن نعيش في عصر انتشار المعلومة، ولم يعد باستطاعة أحد أن يحرّف أو يزيف الوقائع والمفاهيم، والآن اختفت هالات القداسة التي صنعت حول الفكر الديني وأصنامه، ويبقى الصراع بين مفهوم الدولة الحقيقي والاستبداد العسكري أو الإسلاموي متواصلاً لتناقض الأهداف، فما ينشده معنى الدولة الحقيقي يختلف تماماً عن ما ينشده الاستبداد العسكري والإسلاموي، هذان الطرفان الأخيران يجمعهما الحجر على حريات الناس وممارسة الوصاية عليهم والتشكيك في ولاء الناس للدولة، فالدولة المدنية هي نقيض للاستبداد العسكري الذي يتّهم مخالفيه بالخيانة والعمالة، وهي أيضاً نقيض لدولة الإسلامويين الدينية التي تتهم المخالفين بالإلحاد والخروج عن الدين وتأسيس الحياة على غيره، وإن كان الاستبداد الإسلاموي أشد خطورة وأنكى لأنه يريد التحكم في كل شيء، في الدين وعقول الناس، ومصيرهم وضمائرهم.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن