الرئيسُ يكسرُ الحائطَ الرابع

فاطمة ناعوت
f.naoot@hotmail.com

2018 / 12 / 22

الأسئلةُ الثلاثة التي فاجأ بها السيدُ الرئيس عبد الفتاح السيسي، محافظَ القاهرة، ولم يُجب عنها، تضعنا أمام بعض الملاحظات التي أودُّ طرحها في هذا المقال. وبدايةً فأنا من الذاهبين إلى أن صمتَ المحافظ عن الإجابة له احتمالاتٌ عدة، قد يكون من بينها علمه بالإجابات التقريبية، ولكنه في حضرة الرئيس والحفل الحاشد، لم يشأ أن يطرح أرقامًا غير دقيقة؛ لا سيّما وهو على ثقة من أن الرئيس يعرفُ إجابات تلك الأسئلة على وجه الدقّة؛ لأنها شأنٌ مصريّ. وكلُّ ما يخصُّ مصر محفورٌ في ذهن الرئيس، وربما مفاجأةُ السؤال أربكت السيد المحافظ عن استحضار ذهنه لحظيًّا ليُجيبَ عن الأسئلة، وكان يحتاج إلى لحظات إضافية ليجيب السؤال الأول، فسرعان ما عاجله الرئيسُ بالسؤال الثاني ثم الثالث، وبالطبع هناك احتمالُ عدم معرفة المحافظ بالإجابات، نظرًا لحداثة عهده في المحافظة. وربما هناك احتمالاتٌ أخرى، جميعها لا تعنيني في هذا المقال. ما يعنيني هو "فلسفة طرح الأسئلة من الرُّبّان رأس السلطة السياسية في الدولة، على رجالاته الذين يساعدونه في قيادة سفينة مصر.”
لم يكن محافظُ القاهرة هو المعنيَّ الأوحدَ بأسئلة الرئيس، بل جموعُ صنّاع القرار والمسؤولين في مصر. فكأنما، حين نمدُّ خطَّ الخيال للمنتهى، بوسعنا أن نتصوّر الرئيسَ في اجتماعاته بالوزراء والمحافظين، وهو يسألُ هذا ويُنصتُ إلى ذاك، كما في جلسات العصف الذهني.
احترامي للرئيس السيسي الذي كان شديدَ الرقّة والحنو والأناقة، وهو يطرح السؤال، تلوَ السؤال، مؤكدًا بين كلمة وأخرى عباراتٍ من قبيل: “مش قصدي أنت بالذات- جات فيك انت معلش- مش عاوزك تزعل… الخ).
أول "فلسفة" في المشهد وردت في عبارة في سياق كلام الرئيس حين قال: “أنا عارف كل جنيه بيدخل مصر وكل جنيه بيتصرف فين. ده شغلي.”
ثاني "فلسفة" في المشهد وردت حين قال: “لازم تبقى عارف عشان تقدر تجاوب أيَّ مواطن عاوز يفهم.” وهنا أدركنا إيمانَ الرئيس بحق المواطن في الاطلاع على، والاضطلاع بمشاكل بلده. كأنما يريد الرئيسُ أن يقول إن المواطن ليس دورُه أن يكون متفرّجًا على مصر، وهي تحاولُ الخروجَ من عنق الزجاجة، نحو انفراجة الغد المشرق بإذن الله، بل يؤمن الرئيسُ بأن المواطن لابد أن ينخرط في تلك العملية التنموية، لأن هذا حقُّه، وواجبه كذلك.
المشاكل الاقتصادية التي نعيشها اليوم، لم تهبط علينا من الفضاء، إنما هي ميراثٌ طويل الأمد نتج عن عقود وسنوات من الاستهلاك، دون إنتاج تقريبًا، تزامن مع وتسبب في حالة التضخم الاقتصادي، تزامنت مع ونتجت عن الانفجار السكاني المخيف، والبطالة، وانخفاض الكفاءة الانتاجية على مدى العقود الماضية.
عبر هذا المشهد التاريخيّ الخاطف، الذي لم يستغرق دقيقتين، أرسل الرئيسُ السيسي رسالة واضحةً ومباشرة لجميع وكلّ مسؤول في الدولة المصرية. تقول ما يلي: أولا: أن يكون كلُّ مسؤول على دراية كاملة بكل ما يجري في حقله السلطوي من برامج زمنية ومُدخلات ومُخرجات ومشكلات وحلول بالأرقام الدقيقة. وثانيًا: أن يكون جاهزًا بها في رأسه وليس في الدفاتر والأوراق والمستندات. وثالثًا: أن يعرف المسؤول أن من حق المواطن أن يسأل، ومن واجب المسؤول أن يجيب.
أما الفلسفة الأهم في ذلك المشهد، فهي أن الرئيس كأنما هدم "الحائط الرابع" الوهميّ الذي يقفُ بين النظام الحاكم، وبين المواطن. “هدم الحائط الرابع" اصطلاحٌ فنيّ أطلقه بريخت، الكاتب المسرحي الألماني، ينادي بأن يتعمد الممثلون على خشبة المسرح، أن يُشركوا الجمهورَ معهم في أداء العرض، ليكونوا جزءًا من العمل الدرامي الدائر أمام الستار وفوق الخشبة. الحائط الرابع هو الفاصل الشفاف الوهمي بين الأبطال فوق الخشبة وبين النظّارة في قاعة العرض. فبدلا من أن يجلس المتفرجون على المقاعد ينظرون إلى صناع العمل، وينتظرون النهاية، وهم في حال كسل وتراخ، ينخرطوا مع الأبطال في الدراما. وخشبةُ المسرح هي نموذج مصّغرٌ للحياة، بكل دراماها ومشاكلها وتسلسل أحداثها والعقدة العليا (Climax ) التي تتفكك بعدها الأحداثُ حتى تحين لحظة حل المشكلات جميعها. هكذا فعل الرئيس وهكذا يفعل في مجمل خُطبه وكلماته السريعة وتعليقاته التي يوجهها للناس في كل مناسبة. كل تلك الكلمات يريد الرئيسُ أن يوجه عبرها رسالة للشعب تقول: “أنتم وأنا وصنّاع القرار في هذا البلد، نقود سفينةً واحدة، وعلينا جميعًا مسؤولية سلامها وسلامتها ووصولها إلى برّ الأمان. لستُ وحدي المسؤول، بل كل إنسان من ملايين المصريين يحمل دورَه في تلك السفينة، لو أردنا لها نجاةً. غير مسموح بالإهمال في العمل، غير مسموح بتخريب ممتلكات الوطن، غير مسموح بإنجاب أطفالا دون حساب، غير مسموح ألا نراعي الله والضمير وحق الوطن في كل خطوة نخطوها.
الشفافية هي الفلسفة المهمة التي طرحها الرئيسُ على المسؤول أثناء عرضه لبرنامجه التنموي. “الشفافية" هي السبيل الأوحد إلى وأد الشائعات التي يطلقها البلداء من أجل تحطيم الطاقة المعنوية لدى المصريين. الشفافية هي التي ستجعلُ المواطن المصري يشعر أنه ضالعٌ ومُشارك في أزمات مصر وفي أفراحها. فيعمل المواطن على ألا يكون سببًا في المشكلة، ثم يصبرُ على المشكلة إن حدثت موقنًا بأنها مؤقتة، ثم يحاول أن يساهم في سرعة الخروج منها وحلها ولو بالترشيد والحفاظ على المكتسبات، والحفاظ على ثروات مصر وعدم العبث بها أو تخريبها. وكذلك الفرح بما أنجزناه حتى الآن من أطوار التنمية المجتمعية في مصر خلال السنوات الماضية. الرئيسُ يود أن يتحول المواطنُ المصري من "متفرج لا يدري" إلى "راوٍ عليم"، ثم "مشارك ضالع" في صنع دراما النهوض بمصر وتنميتها في غدٍ طيب وقريب بإذن الله.
(التتمة يوم الاثنين القادم)

***



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن