حركة -السترات الصفراء- ينقصها فكر موجه

جمال الدين العمارتي
yasin97@yahoo.fr

2018 / 12 / 18

بقلم: إدغار موران – ترجمة: جمال الدين العمارتي
الصفار علامة على وجود أزمة في الكبد. و"السترات الصفراء" علامة على وجود أزمة ثقة. أزمة ثقة في الدولة، وفي المؤسسات والأحزاب والديمقراطية، وفي ما تسميه الأحزاب بالنظام الذي هي جزء منه.
إن الظهور المفاجئ لهذه الحركة غير المتوقعة، وحجمها وفوضاها والعنف الذي طبعها يوم فاتح دجنبر، يجبرنا على مراجعة أنماط تفكيرنا المتعالية حول مجتمعنا وحضارته، وحول عوزهما وبؤسهما المادي والمعنوي، وحول جمهوريتنا، وحول حاضرنا ومستقبلنا، ويدفعنا إلى إعادة النظر في سياستنا.
إن لامبالاة مواطنينا إزاء الكوابح والإلغاءات التي سميت إصلاحات، ولدت الانطباع بالقبول والرضوخ. لكن بمجرد ما اشتعلت جمرة داخل الطابق السفلي لبناية كنا نعتقد أنها مستقرة، جاءت الضريبة على الكربون فأحدثت تصدعات وألهبتها.
وقد نجحت الحركة في بدايتها لطابعها العفوي، وجدتها وانتشارها عبر الشبكات الاجتماعية. فتغيرت فجأة وظيفة "السترة الصفراء" وأضحت لواء للتمرد. فلا وجود لمسؤول أو قائد أو بنية أو أيديلوجية، مما مكن من لمّ الاستياءات والخيبات والإحباطات والسخط المتعدد غير المتجانس، من المتقاعد إلى المزارع، ومن عضو التجمع الوطني إلى الشاب الحضري المتمرد.
لكن هذه القوة البدئية صارت عائقا في اللحظة التي كان يتعين فيها إعلان برنامج أو على الأقل توجيها من أجل إصلاحات، وليس حذف الضرائب أو استقالة الرئيس. صحيح أن بعض المطالب التي تمت صياغتها هنا وهناك، تتضمن اقتراحات ملائمة ممزوجة بأفكار تتسم بالغرابة، غير أنها تفتقد كلية إلى فكر موجه، ذلك بأن مثل هذا الفكر قد يؤدي إلى تفجير المكونات غير المتجانسة لحركة حيث الاستياءات الموحدة من السلطة متنافرة فيما بينها. وبالتالي فإن كل العوامل التي ساهمت في إنجاح الحركة توشك على قيادتها نحو الفشل التام. وبطبيعة الحال، فإن هذه الحركة العفوية غير مسيسة في أصلها، غير أن طابعها غير المهيكل مكن أحزاب المعارضة من استعمالها، ومنح المخربين من كل حدب وصوب الوقت الكافي لإعداد اعتداءاتهم يوم فاتح دجنبر.
وقد كانت هذه الحركة كذلك منذ انطلاقتها أكثر من سياسية، على اعتبار أنها كانت تمتح من الأخلاق والعدالة، في بلد تعزز فيه السلطة حظوة المحظوظين وتعمق نكد غير المحظوظين.
سلطة الربح متعددة الأشكال
هذه الحركة كانت كذلك ذات طبيعة غير عنفية في بدايتها، رغم أنها فرضت قيودا على الجولان الحضري وفي الطرقات، لكن عنف المخربين غير المسبوق، والعنف الذي تعرضوا له في أماكن عديدة، أخد منحى غاية في السلبية ويوشك على تدمير حركة "السترات الصفراء". ما عدا إذا حصل لديهم، ومن خارجهم، وعي يتجاوز المطالب ويرسم الطريق من أجل مجتمعنا.
ويتمثل هذا الوعي في فهم بأن العائق الأساسي لا يكمن في سلطة الرئيس أو الحكومة، بل في سلطة الربح متعددة الأشكال التي احتلت هذه السلطة.
وأخيرا فإن المستقبل الوحيد لهذه الحركة، إذا كان لا يزال لها مستقبل، يكمن في تسلحها بتشخيص ملائم لأسباب شر، أكيد أن له خصوصياته الفرنسية، لكنه أكثر عمومية، فالانحطاط لا يمس فقط المحيط الإحيائي بل يشمل المحيط المجتمعي والمحيط البشري والمحيط العقلي، فالأمر يتعلق بأزمة هائلة للحضارة، وبأزمة هائلة للإنسانية ولدتها العولمة الهوجاء.
والحركة، على نحو مفارق، عندما عارضت الضريبة على البيئة التي انتقدت نقدا لاذعا، أصيبت بالعمى إزاء ما يشكل الخلاص: النضال من أجل تجديد المحيط الإحيائي، والقضاء على التلوث بالمدن، وإعادة إنعاش الأراضي من خلال إقامة زراعة عضوية غير صناعية. ويبدو لي أن الحكومة لو شاءت تقويض القضية البيئية، فإنها لن تفعل أحسن من ذلك.
ذلك بأن الخلاص يتمثل في تحديد الطريق من أجل سياسة جديدة موجهة بإرادة القضاء على التلوث، ليس فقط في مصادر الطاقة، بل في مدننا وأراضينا وغلافنا الجوي وتغذيتنا وحياتنا، وتتعاطى مع معالجة مشكل البيئة الكبير متعدد الأشكال باعتباره مصدرا للإنعاش. وبذلك ستتراجع تدريجيا سلطة الربح المهيمنة وغير المراقبة. وستتضمن هذه الطريق الجديدة سياسة للتحضر ستقلص تدريجيا نقائص حضارتنا وستبلور تدريجيا من داخلها الفضائل.
نيكولاس هولو كان مجبرا على تقديم استقالته أمام المقاومة العجيبة لسلطة المال والمؤسسات وعقول حكامنا. ف "السترات الصفراء" لم تواجه سوى الأعراض، وليس الأسباب.
وسنرى إن كانت ستظهر إمكانية للتطور الإيجابي في هذا المنحى، أو سيتعين لاحقا بناء طريق نحو المستقبل على نحو مختلف.
عن جريدة لوموند الفرنسية ليوم 4 دجنبر 2018



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن