الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 2

دلور ميقري
dilor7@hotmail.com

2018 / 12 / 18

حل الصمتُ بينهما على الأثر، وربما كانت " للّا منيفة " تنتظر جوابه. تطلع متعمداً إلى جسد فتاة أجنبية، شبه عارٍ، وكانت راقدة على بطنها، مستسلمة لأشعة الشمس. مع أنّ المظلة تظلل حماته، انتبه لحركتها التلقائية بوضع الكف فوق الحاجبين كي تنظر إلى جهة الفتاة. فلما لم يصدر عنها تعليق ما، فإنه تكلم بنبرة مبيّتة: " يا لهم من أناس غريبين.. ". كان واضحاً أنه يعني الفتاة، المستلقية بالقرب منهما مع شاب في مثل سنّها. أضافَ متسائلاً مع التفاتة خفيفة من رأسه إلى ناحيتهما: " أتعتقدين أنه زوجها؟ "
" وهل يعرفون الزواج، هؤلاء الكَوَر! "
" بالرغم من ذلك، ينجبون الأطفال ويربونهم أحسن تربية ولا يبخلون عليهم بشيء "، قال ذلك وبقيَ يراقب ملامحها. أكتفت بهز رأسها في حركة أسى، توحي بفهمها مغزى القول. راحَ من ناحيته ينقل بصره بينها وبين تلك الفتاة، دونما هدفٍ معيّن. ولكنه تذكّرَ مرةً أرته فيها زوجته صوَراً لأمها، عائدة إلى فترة الشباب. في إحداها، بدت صبيّةً متوافقة مع موضة السبعينات، بتنورة قصيرة وقميص بلا أكمام، وهيَ تحت أشجار النخيل في رفقة فتاة تضاهيها عُمراً.
" كانت مليحة حقاً، أليسَ كذلك؟ الوالد المرحوم، تحمّل خصامَ أسرته حينَ صممَ على الزواج بها "، كانت امرأته قد كررت هذه الكلمات على مسمعه. فكرة أخرى، ستشعره بشيء من القشعريرة هذه المرة، وهوَ ملتزمٌ الصمتَ في حضرة الحماة: " ألا تخشى على ابنها لوحا من مصيرٍ مشابه لأبيه، الذي كاد أن يدفع حياته ثمناً لأحقاد عائلية؟ ".

***
ظهرت إذاً الفتاةُ المليحة، " منيفة "، في حياة الرجل كي يُسْتَهل منذئذٍ لحنُ المكائد في أجواء بلدته الأولى، المعزولة في رصانة عند أعتاب الجبل الأزرق ذي القمم البيضاء. بإرادته الحازمة وقدرته الواثقة، تمكن من إسكات ذلك اللحن النشاز والالتفات من ثم لبناء الأسرة الجديدة. ما أهمل أبداً، في المقابل، أسرته الأصل، بل عدّها كحديقة البيت، الخلفية. سوى أنّ العشب الضار، ما عتمَ أن أمتد إلى الحديقة الأمامية: إنها الابنة الكبيرة، " زينب "، مَن تعهدت الحيلولة دون حلول الوئام مع امرأة أبيها حتى حين أنجبت له الولد بأثر الآخر. أبدى الأب حزماً معهوداً هنا أيضاً، حيث أوعز لزوج ابنته بنقل بيته وعمله من مراكش إلى البلدة الأولى. لاحقاً، مع انتقال الأب بدَوره إلى فرنسا بغيَة العمل، لاحَ أنّ كل شيء سيكون على ما يرام في العلاقة بين الأسرتين. ولكن الأحقاد اشتعلت أكثر من ذي قبل، حينَ عاد الرجل في إجازة صيف بعد قضائه نحو ست سنين متواصلة في الغربة. إذ أشرفَ على تشييد عمارة جديدة للأسرة في حي باب أغمات، الكائن في المدينة القديمة، والمنفتح مدخلاه على قصرين قديمين، الباهية والبديع، اللذين يُعتبران من أهم المعالم السياحية في مراكش. الزوجة الأولى، فقدت تماماً تحكمها بذاتها لما سمعت أن تلك العمارة ستكون من نصيب ضرّتها بموجب عقد بيع صوريّ. ويقال، أنها هيَ مَن أوعز للابنة الكبيرة بدس السم في طعام أبيها، آنَ كان في زيارتهم خلال ذلك الصيف. على أثر إيابه لمراكش، صارت علامات المرض تتضح رويداً على الرجل. غدا شاحباً، عصبياً، شفتاه ترتعشان عندما يبدأ الكلام. لحُسن فأله، أن إجازته كانت قد أشرفت على الانقضاء وحانَ وقت مغادرة الوطن. فما هيَ إلا بضعة أيام على وصوله باريس، إلا وانهار وسط مساعديه في مكان العمل. بقيَ في غيبوبة لما يزيد عن الشهر، متقلباً بين الحياة والموت. فلما أفاق بفضل العناية الفائقة، فإن الأطباء أطلعوه على صورة أشعة لمعدته، يظهر فيها ما يُشبه خثارة متفحمة: " إنها بقايا خلطة مشئومة، مكونة من عدة سموم ذات مصدرٍ نباتيّ ".

***
أخيراً، تمتمت " عجوزته " دون أن يزايلها الغم: " المهم أن تنتبهوا لأنفسكم في الغربة، وألا تدعوا ولد حرام يفرّق بينكم! ". أطرقت برأسها قليلاً، قبل أن تستطرد بجمل متقطعة تُنبي عن وضع ما متأزم تُجاهد في تجاوزه: " أنا حزينة، محتارة. ولكنني فوضتُ أمري لله. أتكلم عن وضع لوحا وامرأته "
" الله يصلح الحال! "، قالها بطريقة توحي معرفته للموضوع. ثم سأل بحذر: " هل مشكلتهما بشأن إنجاب طفل؟ ". عبّت الهواء بعمق، ثم زفرته متنهدة: " إنها لم تعُد تطيقه، وهذا هوَ سبب رفضها إنجاب طفل له. كانت تتناول حبوب منع الحمل، أما الآن.. الآن.. "، قالت ذلك ثم سكتت مترددة عن إكمال جملتها. ولم يكن ينتظر البقية، كونه يعرف ذلك حق المعرفة. إلا أنه تركها تواصل القول، وكانت ما تنفك مترددة: " أنت مثل ابني.. ويشهد الله أنك عزيز عليّ. بلى، إنها لم تعُد تطيقه. وحين يأتي من الخدمة، تبقى ملتزمة حجرة البنات أو المطبخ. أنت فاهم عليّ، ها؟ ". حرك رأسه من فوق لأسفل بحركة إيجاب، متخذاً مظهرَ الأسف. أما عقله، مُخرج هذا الموقف التمثيليّ، فإنه كان راضٍ تماماً عن نتيجة الحوار. هكذا لم يكن عسيراً عليه طرح نفسه كوسيط، بالتوجه إليها مقترحاً: " أتريدين أن أجرب الحديث معها، علّ ذلك يجعلها تعيد حساباتها؟ إنها تكن لي كثيراً من الاحترام، وأنا أيضاً أعتبرها أختاً صغيرة! "
" لقد فات الوقت، يا بني "، أجابته بلهجة تبجيل وكما لو كان أحد أولياء الله الصالحين. ثم أردفت موضحة: " كلاهما يبغي الطلاق، والخلاف على كيفية دفع مصارف المحامي والمحكمة ". كل ما ذكرته تقريباً، كان على معرفة به وعلى لسان " الأخت الصغيرة ".



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن