التفكير النقدي في العقلانية المعاصرة

زهير الخويلدي
zkhouildi@gmail.com

2018 / 11 / 25

" لم تعد الفلسفة تصنع العلم بل صار العلم هو الذي يخلق الفلسفة" -غاستون باشلار-
تبدو العقلانية المعاصرة محاصرة من عدة أسوار دوغمائية ومجموعة من الممارسات النظرية المبتسرة ويهددها الإفراط في الاعتقاد في وجودها ويفتك منها السجال والتناطح والانتقاد أسلحتها الثورية في النقد.إذا كان الاعتقاد يقطن في المساحة التي ينشط ضمنها الظن والرأي بصورة ضعيفة وباهتة ويظل في حاجة إلى دليل من أجل إثبات وجاهة نظره وصدق دعواه فإن النقد يطرح كأمر حيوي ومطلب ضروري عند الشدائد والأزمات من أجل التشخيص العلل والوقوف عند الأمراض وتحديد الأسباب ومسح الآفات وامتحان القدرات والتثبت في المبادئ واختبار الأسس وإصدار أحكام رافضة للأخطاء ومثبتة للحقائق.على هذا الأساس تدور الفلسفة المعاصرة ضمن المنظور التاريخي حول مدار المراجعات الجذرية وتقوم بالتساؤل عن الجذور وتقوض طبقات الميراث التفسيري للطبيعة وتشتغل على نقد العقل والمثالية والثقافة وتتفقد الذات بعد تخليها عن التصور الحديث الذي يزعم التقدم والتحرر ودخولها إلى وضع مابعد حديث يتصف بتحولات في قيمة الحقيقة واستبدال تام لتقنيات تأويل النصوص والميتافيزيقا التأملية بمعقوليات ملائمة للفعالية العلمية والفيض المعرفي والثورة الرقمية والاختراعات الكبرى التي تمت في حقول معقدة.
لقد مضت العقلانية المعاصرة نحو محيطات غير مستكشفة ولم تقتصر على نقد العقل في جوانبه النظرية والعملية والذوقية ولا نقد اللغة والمجتمع والدين والاقتصاد والايديولوجيا في أبعادها القيمية وبعض بنياتها العميقة بل رصدت دلالات الثورات العلمية ورمزية استعادة المكبوت والاحتفال بالهامش وحاولت نطق المسكوت عنه والتعبير عن اللاّمرئي وهيكلة الذات بشكل سردي والخروج من عالم قديم نحو عالم مغاير.لقد أقلعت الفلسفة في الحقبة الراهنة عن تجميع المعارف ضمن رؤية موسوعية وعن بناء تصور نسقي للعلم بعدما استفادت من الدرس الكبير الذي قدمته لها العلوم وتفضيلها التخصص والحرفية على الشمولية.لقد تخلصت من وهم التأسيس الأنطولوجي وأسطورة النقاء المفهومي والفكرة الشاملة والحقيقة المطلقة واكتفت بالمتابعة الساخرة للأحداث والحكي المجازي للتجارب والمرافقة الضدية للأدب والعلوم والدين.لقد قامت العقلانية العلمية في القرن العشرين بمراجعة نظرية جادة للمعارف العلمية وشيدت عقلانية تطبيقية مفتوحة تؤمن بالجدل بين العقل والتجربة وبين النظرية والممارسة و بالدحضانية والتطورية.في البداية شهد النصف الأول من القرن العشرون عدة انقلابات في الكثير من العلوم الأساسية وخاصة الفيزياء والبيولوجيا والمنطق والرياضيات بينما خضعت الابستيمولوجيا في النصف الثاني للتعديل وتضاعفت خصوبتها وأصبحت أكثر تاريخية وواصلت عملية النقد الذي قامت به الوضعية المنطقية الجديدة للميتافيزيقا ولم تعد الفلسفة تؤسس العلم بل أصبح العلم هو الذي يخلق الفلسفة كما يرى باشلار.
لقد أعاد ماندل اكتشاف أهمية البيولوجيا وطرح توماس مورغان أسس علم الوراثة بوضعه نظرية الجينات بينما أوضح واطسن وكريك بنية الحمض النووي وتشكل ابستيمولوجيا الظواهر الحية على أساس الانكسارات المتواصلة التي تحدثها نظرية التطور وليس على أساس الثبات على الأنواع. أما في الفيزياء فإن الغزو الكبير هو الذي قام به آينشتاين عبر توقيع نظرية النسبية وظهور التموجية في الميكرو فيزياء مع شرودنجر ولوي دي بروي واكتشاف ماكس بلانك نظرية الكوانطية للمادة وملاحظة هيزنبرغ لوجود علاقات ارتياب في حركة الإلكترون حول نواة الذرة وقوله بمبدأ اللاّتعين واللاّحتمية وأيضا المحاولة التي بذلها نايل من أجل فهم تغير الواقعة وتبعثرت جهود نيوتن حول استمرار الواقعة المادية.لقد بدأ الحديث عن رؤية علمية للكون من طرف مدرسة فيانا والبناء المنطقي للعالم وولدت الوضعية من التحليل المنطقي للّغة العلوم واستندت المعرفة برمتها على التجريبية وعلى الذرية وعلى التثبت والتأييد واتجهت نحو توضيح المشاكل والعبارات والبحث عن معايير للتمييز بين القضايا التجريبية والعبارات الخيالية وبين المعرفة والخطأ وبين المشاكل الحقيقية والمشاكل الزائفة وبين اللغة الطبيعية والكلام العادي.
لقد ترتب عن تجديد الفكر الوضعي من طرف حلقة فيانا نفي الميتافيزيقا وتجاوز اللاّهوت واعتبار معظم القضايا الماورائية فارغة من المعنى ومشكلات زائفة يمكن التخلي عنها تماما واستبدالها بقضايا علمية وتم توسيع دوائر العلم والتخلي عن مصطلح فلسفة أو على الأقل يكتفى بربطه بالعلم ويصير فلسفة علمية.لقد كان نقد الوضعية المنطقية الجديدة جذريا وشمل عدة اعتبارات منطقية وإجراءات لغوية وتم التعامل مع الظواهر التي لا يمكن ملاحظتها على أنها اعتبارات غير واقعية وأن المحاولات الميتافيزيقية في فهم العالم ليست سوى قصائد شعرية رديئة وعبارات مقتضبة وغامضة أدت إلى إنتاج مشاكل زائفة وتافهة. إذا كان كارناب قد وقع في النزعة الاختزالية عندما افترض وجود قضايا أساسية تتطابق مع الواقع التجريبي فإن كواين رفض ذلك وكشف عن وقوع التجريبية في دوغمائيتين ودافع على الطابع الشامل للمعرفة وسانده بيير دوهام حول الطابع الشمولي نظريته العلمية وتشكل قانون دوهام – كواين حول تعذر التحقق بالتجربة من قضية واحدة وإمكانية التثبت من صدق مجموعة من الفرضيات بشكل استنتاجي.
على اثر ذلك قام كارل بوبر 1902-1994 بنقد الاستقراء الذي كان يمثل المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه النزعة التجريبية وبقي لفترة طويلة يعد المنهج العلمي الذي يضمن الوقاية الكافية من التوكيدات الزائغة والتأملات الفارغة وبين أن المغالطة التي يقع فيها الاستقراء هو زعمه القدرة على إثبات شرعية قانون كلي بالانطلاق من ملاحظة تجريبية لعدد كبير من الحالات الخاصة وادعائه متانة الاستدلال بالمرور من عبارات جزئية إلى عبارات كلية مثل الفرضيات والنظريات بالأخذ بعين الاعتبار بالتجربة بينما الاستدلال هو لحظة تفكير وعملية منطقية تتمثل في استنتاج قضية من قضية سابقة ويمكن أن يكون استدلالا غير مشروع ويقبل إمكانية التبكيت. لهذا رأى بوبر أن العلم يقترح تخمينات وفرضيات وليس يقينات وحقائق كونية ويرى أن نظرية لا تكون نظرية علمية بحق إلا إذا أتاحت فحص فرضياتها واختبار مزاعمها ودعاويها حول امتلاك الحقيقة وقدرتها على انتاج المعرفة الصحيحة ، وبالتالي تكون نظرية علمية مشروعة اذا ما كانت القضايا والفرضيات التي تكونها متاحة للامتحان النظري والتثبت التجريبي.لقد جعل مبدأ الدحضانية أو قابلية التكذيب هو المحرك الفعلي للبحث العلمي وليس التطابق أو التأييد وتعامل مع هذا نقد الحقائق ورفض الخطأ من حيث هو معيار للتمييز بين العلوم الأصيلة والعلوم الزائفة.هكذا يصبح الاستقراء عند بوبر في منطق الكشف العلمي تعميما تجريبيا لنطاق مختزل ولم يتم تأسيسه منطقيا بالشكل اللازم وإنما هو مجرد استدلال بواسطة العقل، بينما لا يمكن تأسيس العلم على التفكير الاستقرائي لأن هذا الأخير يدور في حلقة مفرغة ويقع دائما في نوع من الدور المنطقي ويصادر على المطلوب وكذلك لا يمتلك قيمة إلا عندما نعتمده كمبدأ عام لضبط وتنظيم الظواهر الطبيعية، ولا يمكن أن نقر بصلاحية مبدأ معين عن طريق الاستقرار بل يجب التسليم بذلك قبليا أي دون العودة للتجربة والقول بأن النشاط العلمي يشتغل ويحرز تقدما حينما ينطلق من فرضيات واستدلالات وليس عبر أداة الاستقراء.
هذا التشكيك في القيمة المعرفية للاستقراء واصله نيلسون غودمان1908-1998 كتابه "وقائع وتخيلات وتخمينات" حيث صاغ اللغز الجديد للاستقراء بالتساؤل عن تعريفه والطريقة التي يتم فيها تبرير هذا التعريف على النحو التالي: كيف يتم الاستقراء؟ ولماذا نختار إجراء استقراء لخصائص دون أخرى؟
تقوم مفارقة غودمان على الربط بين نظرية الاستقراء والملاحظة التي تجريها على الظواهر واللغة التي تعبر بها عن هذه العملية التجريبية مستعملة الدلالة والإحالة والتضمين ولكنها تصطدم بصعوبة استقراء كل شيء وبالتالي فإن المقولات التي تساعدنا على بلورة الاستقراء لا تتطابق قبليا مع العناصر الواقعية بل تصدر من العالم الثقافي الذي نعيش فيه وتعتقد بشكل ضمني أنها تلعب وظيفة أساسية أثناء الاستقراء.
لقد نقد غودمان أيضا الصورية المنطقية التي وقعت فيها حلقة فيانا ورسم حدودا للتصور التجريبي والاستقرائي الصارم للعلم الذي أوجدته وأعاد الاعتبار الى التفكير الفلسفي ومشروعية وجوده في العلم وبين أن النشاط العلمي هو فعالية معقدة ومتشابكة أكثر مما كان يتصور الوضعيون الجدد والمنطقيون.
لقد حازت الابستيمولوجيا التاريخية بعد التطور الهائل والثراء النظري النتائج الحاسمة التي أحرزت العقلانية المعاصرة على قيمة معيارية أقل وقدرة تفهمية أكبر وحاولت تجميع عدد من الاختصاصات في رؤية معرفية مشتركة تتفهم شغل العلماء بإدراجهم ضمن سياقهم التاريخي وفي مناخهم الثقافي وأطرهم الاجتماعية وتشتغل على استثمار الأزمات ومعالجة العراقيل والاستفادة من التحولات واستخلاص القيم.
يتنزل العمل الكبير الذي قام به غاستون باشلار 1884- 1962 في هذا الإطار التاريخي الذي قام بانتاج تصور جديد للعلم عن طريق فلسفة الرفض والعقلانية التطبيقية والبحث في شروط تكوين العقل العلمي عن الروح العلمي الجديد وذلك بالمراوحة بين فكرة الابستيمولوجيا العقلانية ونظرية المخيال الشعري.
ان الانقلابات التي حدثت عبر التاريخ في العلوم تمثل قطائع ابستيمولوجية دارت فيها معارك بين الجهل والمعرفة وحطم فيها الفكر العلمي الفكر اللاعلمي ولم يعد العلم بمقتضاها مجرد ملاحظة سلبيى للواقع وانما أصبح تكاملا بين النشاط التجريبي والجهد الفكري ولا يتطور العلم بشكل تراكمي بل اشكاليا أي يتطور بقدر تمكنه من صياغة مشاكل جديدة واستطاعته التغلب على المشاكل القديمة وتخطي العراقيل. في العقلانية التطبيقية لا شيء معطى وكل شيء مبني والعلوم تتوصل الى نتائج عندما تتغلب على الآراء العفوية والمعارف المشتركة والحدوسات المضللة وتزرع في مسيرتها الكثير من الحيرة والشك والندم.ان العلم يشتغل بوضع المفاهيم وانتاج المصطلحات التي تسمح بتعويض التجارب والعقائد ولا يوجد وقائع معطاة وانما وقائع أعيد بنائها واحتبارات مبلورة عن طريق التقنية من حيث هي تطبيق للنظريات العقلية.
في الأثناء ظهرت محاولة طوماس كوهن 1922-1996 في مناهضة الوضعية ومعالجة العلوم عبر تحليل العبارات ومن خلال الأخذ بعين الاعتبار للسياق التاريخي والثقافي الذي يشتغل فيه العلماء ورصد التصور الحاسم في صورة العلم الذي بلغته الإنسانية من خلال الأزمات الحادة في بنيات للثورات العلمية.لقد عمل بناء ابستيمولوجيا خارجية تدمج البعد التاريخي والعامل الثقافي في صلب النظرية العلمية ولا تكتف الحلقة الضيقة التي تحاصرهم داخل مخابرهم وتدرجهم في تاريخ المجموعة العلمية التي تحددهم.
لقد قدم كوهن فهما أصليا لتاريخ العلم ابتعد به عن التمثل التقليدي للتقدم التدريجي والتراكمي عبر الزمن وأقر بتعرض تاريخ العلم للقطائع والانكسارات والثورات التي تتوج بتغيير في نمط البراديغم المهيمن.
لقد وقع كوهن مصطلح العلم المعياري ودل به على إجماع العلماء في عصر معين وارتكازهم على صلاحية نظريات قائمة ومتعارف عليها والانطلاق منها بغية إجراء بحوث جزئية في مجالات جديدة. كما يفيد العلم المعياري حسب كوهن البحث الذي يتأسس بشكل صلب على استكمالات العلمية الماضية والتي تعتبرها المجموعة العلمية كافية من أجل توفير نقطة انطلاق لجملة من البحوث العلمية الجديدة وبعبارة أخرى هي مجموعة المشاكل المثارة والمناهج الشرعية في ميدان بحثي بالنسبة للأجيال القادمة.
يتقاسم العلماء الذي يشتركون في العلم المعياري الباراديغم الذي يسمح لهم بتطوير أعمالهم وتجويدها ويمكن تعريف البراديغم بأن مجموعة المبادئ والقواعد والآراء والقيم المتعارف عليها والتقنيات المتداولة ويمثل مجمع متشابك من المعارف والتطبيقات التي يتم تقاسمها وتشاركها بين أعضاء المجموعة العلمية. إذا بدأت الإخفاقات والتعثرات تظهر في نظرية علمية معينة فإن العلم المعياري يدخل في أزمة تقتضي إحداث تغيير ضروري وتدارك التشوهات الحاصلة في النظرية والانتقال إلى باراديغم جديد عبر تفجير ثورة علمية وتوجه جديد وإطار جديد في البحوث العلمية لكي يتمكن من توضيح المشاكل المستجدة.لقد فتح كوهن بهذا التنظير الدقيق الطريق نحو تشكل مقاربة سوسيولوجية للعلم وراهن على التزام جماعة الباحثين في عصر معين بممارسة بحثية مشتركة حول موضوع معين للنشاط العلمي وليس بحثا منعزلا.
كما ثمن البعد التاريخي في العمل العلمي عندما أعطى قيمة الاستمرارية في تنظيم العمل العلمي حول بارديغم معين عصر معين من جهة وتأكيده على اللاّتجانس والانفصال عند الانتقال من جيل إلى آخر ونادى بضرورة تغيير الباراديغمات والتعامل مع الحقيقة العلمية تعاملا نيبيا حسب تغير السياق الفكري والتاريخي التي تندرج ضمنه وكشف عن العلاقات المعقدة بين العقل ومجهوداته في معرفة الواقع.بهذا الفهم لتاريخ العلوم يثير كوهن مشكل المقارنة بين النظريات العلمية على جهة السابق واللاحق وعلى جهة التزامن والمعاصرة ويطرح للدرس مسألة المعايير التي تسمح للمؤرخ بالتمييز بين الحقيقة والخطأ ويوقع مفهوم اللاّمقياسية أو عدم قابلية قياس نظرية على أخرى سواء كانت سابقة عنها أو متزامنة معها.جملة القول أن العقلانية المعاصرة هي عقلانية مفتوحية وديناميكية تضم الأبعاد الصورية والتجريبية وتجمع بين الرمزي والمادي وتؤلف بين القبلي والبعدي وبين الرياضيات والفيزياء وبين المنطق والنحو. كما صار المجهود العلمي موجها نحو التصويب والتعديل للتجارب والنظريات ومعرفة تقريبية ومتغيرة. لكن كيف يمكن معرفة حصول تقدم في العلوم؟ وماهي الشروط التي تحدد الحقيقة في النظرية العلمية؟
كاتب فلسفي



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن