العدالة والانتقام – مطاردة النازيين الهاربين في فيلم -العملية النهائية-

كلكامش نبيل
the_sumerian_king_7_8_1988@yahoo.com

2018 / 11 / 10

تزخر السينما بالعديد من أفلام الجاسوسية والعمليات السرية، وليس آخرها فيلم العملية النهائية Operation Finale الذي أطلق عرضه الرسمي في 29 آب/ أغسطس 2018. يحكي الفيلم قصة مطاردة الموساد لضابط نازي هارب والسعي لمحاكمته على دوره في التخطيط لترحيل الملايين من اليهود في أوروبا ليلقوا حتفهم بطرق وحشية.

فيلم Operation Finale من إخراج كريس ويتز، وتأليف ماثيو أورتن، ومن بطولة ميلاني لورنت، وأوسكار إسحاق، وهالي لو ريتشاردسون، وجو ألوين، ونيك كرول، وبن كينغسلي، وغريتا سكاتشي، وليور راز.

راق لي اخراج الفيلم منذ البداية، بتصوير اختطاف ضابط نازي من منزله وهو يقيم حفل عيد الميلاد، ومن ثم المقدمة الابداعية التي تظهر خرائط أوروبا ومدنها التي شهدت فظائع بحق اليهود، فضلا عن الأوراق المبعثرة بالألمانية والعبرية والقواميس والألوان التي استخدمها بطل الفيلم في رسم لوحة تعبر عن مأساة شقيقته كما سيتكشف لنا فيما بعد.

يبدأ الفيلم بشكل مؤثر في مشهد في احدى صالات السينما في بوينس آيرس، ونلاحظ تأثر الشابة سيلفيا بمهاجمة شاب لحبيبته لانه عرف بأن لها جذور سوداء من جهة والدتها، وأثار الفتاة أيضا ضحك شبان بيض يجلسون في مقاعد الى الخلف منها. عرفت مباشرة أن هذه الفتاة لا بد أن تكون يهودية وأنها تأثرت من عنصرية المشهد في الفيلم ومن ضحك أولئك الشبان. تتعرف الفتاة الى أحد أولئك الشبان، ويكتشفان بأنهما من ألمانيا في الأصل. في منزل الفتاة، يلتقي الشاب بوالدها الضرير ويحكي له عن قصة قدوم أسرته الى الارجنتين وتعلمهم 100 كلمة اسبانية كل يوم. في هذا اللقاء، يكشف الشاب حقيقة والده، الضابط النازي، ويعبر عن معاداته للسامية عندما يقول بأنه لا يريد العودة الى ألمانيا لأن اليهود قد نشطوا من جديد والوضع يفسد كما كان في السابق وقال عن اليهود بعنصرية، "انهم ينبتون كما ينبت الفطر "المشروم" بعد المطر". لم تكن الفتاة تعرف بأنها يهودية وكان الوالد قد رباها على أنها كاثوليكية وحرص على اخفاء هويته.

في المشاهد التالية، تصل الأخبار الى تل أبيب من خلال الوالد الضرير، ويدور حوار حول سبب مواعدة الفتاة لإبن ضابط نازي وعن الأسباب الداعية لتصديق الرجل ومبررات مطاردة النازيين – رغم انشغال اسرائيل بمشاكل أكثر جدية في الداخل – لاسيما وان احداث الفيلم تدور في ستينيات القرن الماضي، بعد خمسة عشر عام على انتهاء الحرب العالمية الثانية.

يتحدث الفيلم بطريقة مشوقة عن اشكالية البقاء في الماضي او تجاوزه والتركيز على الحاضر والمستقبل، ولكن تحقيق العدالة يظل هاجس الكثيرين، ولاسيما ان الضابط النازي "أدولف آيخمان" يعتبر مهندس الحل النهائي الذي أدى لمقتل ملايين اليهود. يتذكر عميل الموساد بيتر ماكلين – في مشاهد مؤثرة – تفاصيل قتل شقيقته في الغابة مع اطفالها، وهو المشهد الذي يرسمه في دفتره ويكرر رسمه.

يوضح الفيلم أن الأسرة النازية لم تتغير، حيث يصطحب الشاب سيلفيا الى تجمع يتضح بأنه تجمع نازي، ويتم فيه تكرار شعارات العداء لليهود ووصفهم بأنهم يوالون أنفسهم فقط ومستعدين لخيانة البلاد وتسميم الأرجنتين، مع ان هذا البلد يتمتع بتواجد يهودي مميز. تشعر سيلفيا بالذعر من ترديد تلك الشعارات العنصرية وتسارع لمغادرة المكان.

قبيل العملية، يظهر المخرج الكثير من مبررات القيام بها بشكل غير مباشر، من خلال رؤية بيتر لوشوم بأرقام الاحتجاز في المعسكرات النازية على يد بعض كبار السن في اسرائيل في المقهى، وتحطم صورة شقيقته وبكاء والدته عليها. ترفض الوالدة ان يقوم ابنها بالرد على الهاتف، فقد كان يوم السبت وشمعتي العشاء موجودتين على المائدة. لكن بيتر يرد وتبدأ مهمته السرية، التي لن يخبر والدته عنها حتى وفاتها. في احد المشاهد يظهر رئيس وزراء اسرائيل وهو يخاطب فريق تنفيذ المهمة ويحثهم على النجاح لأن فشل المهمة قد يعني "اهانة اسرائيل وترهيب المجتمع اليهودي المحلي هناك وخسارة أفضل عملاء الموساد". وقال لهم، "سنحاسب من قام بقتلنا لأول مرة في التاريخ، بخلاف ذلك، قد يهرب المجرم من العدالة الى الأبد، من أجل شعبنا لا تخسروا".

تدور الحبكة الرئيسية حول متابعة الضابط النازي والتحقق من شخصيته بطريقة ذكية من خلال احتفاء زوجته بذكرى زواجهما في 21 آذار. من المواقف المؤلمة، مراقبة بيتر للضابط آيخمان برفقة ابنه في الغابة وتذكره لشقيقته وقتلها في الغابة أيضا وسط ضحك الجنود. يخطط الموساد لنقل الضابط الى منزل يهودي ارجنتيني ريثما يتم نقله الى اسرائيل. عند تنفيذ العملية، تحصل لحظات من الاثارة – لكننا نعرف مسبقا أن آيخمان قد نقل الى هناك – وهذا ما يقلل من تصور المشاهدين لفشل العميلة وبالتالي من التشويق المتعلق بهذه الفقرة.

تزداد الحبكة فيما بعد، بزعم الضابط بأنه يهودي ويتلو صلاة "شماع يسرائيل" ويصرّ على تقديم نفسه باسم آخر، لكنه يضطر للاعتراف في النهاية. قد يبدو اصرار فريق الموساد على الحصول على موافقة خطية من آيخمان بنقله الى اسرائيل غير مفهوما، لاسيما بعد اغلاق المطار واضطرار الفريق للتأخر وسط بحث الارجنتينيين عن المختطف. تدور حوارات طويلة بين بيتر وآيخمان، ويحاول الأول اقناع النازي بالموافقة على المحاكمة في اسرائيل، لكن آيخمان يصر على الرفض متذرعا بأن الجرائم حصلت في ألمانيا ويجب أن يحاكم هناك، ويبدأ في التشكيك بإمكانية تحقيق العدالة وأن ينصت له أحد أو أن يموت في بلاد لا يمكن لأسرته ان تزوره فيها. أثار الفيلم موجة استياء في اسرائيل بسبب تصوير النازي بشكل انساني قليل العدائية، وذكره لفقرات مثل "انه يفضل الموت على أن يقص شخص آخر تاريخه" وأنه كان يعتقد بأنه يحمي الوطن الذي يحبه من أن يتعرض للتدمير. لكنني أعتقد بأن الأمر مفهوم ولاسيما أنه تحت يد الموساد ولا يمكن أن يكون شديد العدائية تجاههم.

يسأل آيخمان بشكل متكرر عن أسرته وان كانت بأمان، ويصرّ بيتر على تجاهل السؤال في البداية، لكنه يخبره فيما بعد بأنهم بخير، ويذكره في مشهد لاحق بأن الفرق بينهم وبين النازيين أن "أسرته بخير، فيما فقد اليهود أسرهم". ربما تكون هذه الحوارات الثرية الجزء الأكثر جمالية في الفيلم وحبكته، حيث يبدأ بيتر بأخذ مناوبات اطعام آيخمان نيابة عن زملائه. في مشهد للحلاقة، ذكرني بمقطع معكوس في رواية شوشا للكاتب البولندي الأميركي اليهودي إسحاق باشيفز سينجر، يسأل بيتر آيخمان ان كان سيجيبه على سؤاله، فيقول، "لست في موقع يسمح لي بالرفض" في اشارة الى كونه تحت موس الحلاقة. سأله عن المحارق وان كان آيخمان يريد معاملة المحتجزين كحيوانات، فيقول آيخمان، "كلنا حيوانات في النهاية".

يصرّ آيخمان على معرفة القصة الشخصية لبيتر، والذي كان يكلمه من دون علم بقية الزملاء، ويسأله، "هل خسرت أحدا في الحرب؟" فيقول له بأنني خسرت ستة ملايين شخص، فيقول، "أنا أتحدث عنك أنت؟". يقوم بيتر باطلاع آيخمان على صورة شابة، فيقول الأخير، "جميلة"، فيقول له بأنها لم تكن شقيقته فحسب بل معلمته وصديقته وكل شيء وانها ماتت وهي تحمي اطفالها. كان المشهد مؤلما، وذكرني بقصص الكثير من الأصدقاء من كبار السن الذين قصّوا عليّ قصص نجاتهم من المذابح في الشرق الأوسط وأوروبا، ممّا جعلني أذرف الدموع بغزارة. يبدأ آيخمان في تذكر الموقف – ولا أدري ان كان حقا قد صادف بالذات مقتل شقيقة بيتر – لكن الفيلم يتحدث عن تلك الذكرى البشعة لمقتل 5000 يهودي في خندق وان امرأة شابة رفعت طفلها تتوسل بهم لانقاذ حياته لكن الجنود قتلوه قبل الآخرين. يسأل آيخمان عن أسباب عدم وجود أسرة لدى بيتر ويقول له، "هل تخشى ان يكون المستقبل مثل الماضي؟". كانت هذه العبارة مؤلمة ومؤثرة وتحاكي مخاوف الناس في الشرق الأوسط اليوم.

في النهاية، ينجح بيتر في الحصول على التوقيع بأن يعد آيخمان بتسهيل قدوم زوجته الى اسرائيل لرؤيته قبل الموت ويقسم بشقيقته على تحقيق ذلك، وهو ما سيفي به فيما بعد. تزداد الحبكة في المطار، بعد ان تداهم الشرطة المنزل، ويتم أخذ ورقة الاقلاع من قبل الشرطة الأرجنتينية، لكن المهمة تتم بنجاح بفضل بيتر مرة أخرى.

تصور المشاهد الأخيرة نجاح المهمة ومقاطع محاكمة آيخمان وتحقيق العدالة لمشاركته في التسبب في قتل ستة ملايين شخص. وقد يشير اصلاح زجاج صورة شقيقة بيتر وفرح والدته بها الى ذلك الانتصار وحفظ ذكرى الضحايا. لكن المشهد في الارجنتين يظهر استمرار الكراهية، حيث يعلق ابن آيخمان علم نازي على منزله في اشارة الى استمرار مخاطر العنصرية والكراهية في هذا العالم.

كانت مشاهد بكاء ذوي الضحايا والناجين مؤثرة، في أول محاكمة متلفزة لمجرمي الهولوكوست، وذكرني ذلك بحديث صديقة أميركية من أصول ألمانية تكلمت عن اغلاق والدها للتلفاز عند عرض شيء يتعلق بالهولوكوست لتجنب اثارة والدتها الناجية من أوشفيتز. يشعر بيتر انه حقق العدالة وان شقيقته ستشعر بالارتياح الآن، لكن آيخمان – الذي اعدم عام 1961 – لم يحظ بذلك حيث نثر رماده في البحر حتى لا يكون لديه مكان ليرتاح فيه كنوع من الانتقام.

الفيلم عظيم ويستحق المشاهدة وفيه نقاش جريء للعلاقة بين الضحية والجاني، ونقاشات حول العدالة والانتقام، والحب والكراهية، والسعي لطي صفحة الماضي او الاستمرار في العيش فيه.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن