الإصلاح في الفكر الإسلامي وعوامل الفشل

الحجاري عادل
adilhajjari22@gmail.com

2018 / 10 / 30

الإصلاح في الفكر الإسلامي وعوامل الفشل.


تختلف درجة الإصلاح عند مفكري الإسلام في الحقبة الحديثة والمعاصرة، نظرا للواقع الذي اهتز البيئة الإسلامية لما أصابها من تخلف وانحطاط وركود في جل الميادين، إذ يكاد يتساءل العامة عن مغزى وجدوى مواجهة هذا التخلف الذي أعقبه الإستعمار إبان الحملة الفرنسية على مصر سنة 1789م، وبعد ذلك مهد الطريق أمام سلسلة من الصراع الأروبي داخل البلدان الإسلامية ولو سمح لهم الأمر بذلك.
يظهر أن التدخل الأروبي السافر في رقعة الإسلام، هو بمثابة عودة لعجلة التاريخ وانتقال الحرب إلى دار الإسلام، هذا التدخل يظل نتاجا عن تفوق أروبا في الثورة العلمية والصناعية التي حال بها الأمر أن تبحث عن مستعمرات خارج حدودها، ولكونها تعيش الخوف من جراء وجود قوة العثمانيين الأتراك في الضفة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، والذين يسيطرون على الشرق الأوسط وشمال إفريقيا باستثناء المغرب، حيث رأى المستشار الألماني بسمارك أنه من الواجب على أروبا أن تنتقل المعركة خارج حدودها لكي تغزوا أمم خارجها، بعد الصراع الأروبي المرير حول تشكيل أحلاف عسكرية واقتطاع سيادة الدول، كانت فرنسا وإنجلترا وألمانيا والنمسا وروسيا من أبرز الدول التي تتصارع من أجل أروبا تارة وتتصالح تارة أخرى .
إن سياق هاته الأحداث التاريخية التي كانت أروبا محطة مهمة لها، هي السبب في ظهور الإصلاح في الفكر الإسلامي، استجابة للبيئة والظروف التي تمر منها الدول الإسلامية، واستجابة لما احتك به مفكري الإسلام بالثقافة الأروبية والأمريكية أثناء ارتدادهم المدارس والجامعات الأروبية، هو بمثابة انتقال التنظيم الأروبي إلى دار الإسلام الذي لا يزال مقبولا لدى الأوساط الفكرية والسياسية خوفا من انفتاح الإسلام على العقلنة الأروبية والسير بها نحو العقلنة والحداثة.
لقد ولد الفكر الإسلامي جملة من المواقف والأفكار والتناقضات التي صارت اليوم تشتبك بين المجتمع والسياسة، وتبلورت إلى وجود مواقف مؤيدة للإصلاح وأخرى معارضة لها، وهو ما خلق سجالات واسعة من الفضاء الإعلامي والفكري وتمحورت عنه تساؤلات وجدليات بنيوية هزت الساحة الإجتماعية في العالم الإسلامي، وهي تتساءل عن جدوى الإصلاح من أجل السير إلى دمقرطة المجتمع وحقوق الإنسان والحريات العامة في مشروع الإصلاح الإسلامي(1).
الظاهر أن الرؤية الإسلامية للإصلاح لا تهدف إلى انفتاح المجتمع على المساواة العامة، سيما إذا ولدت هاته الرؤية التيار السلفي ذو النزعة الأصولية التقليدية، بل من تنوع المقاربات الإصلاحية التي شكلت خريطة من الحركات والشخصيات والتصورات والرؤى المتوافقة أحيانا والمتخلفة أحيانا أخرى، والمتضاربة في كثير الأحيان(2)، ورغم أن اختزال المقاربة الإسلامية للإصلاح ينعكس في المجال السياسي، أعني به الحركات الإسلامية الطامعة في السلطة بشقيها السياسي تارة والجهادي تارة أخرى، وهو ما ينم عنه وجود خلخلة في البنى الإقتصادية والأوساط الإجتماعية، فيتم تجاهل المجتمع وضعف الإقتصاد كأبرز تحديات يعاني منها الفكر الذي تنقصه الرؤية في الإصلاح.
إذا اعتبرنا الإصلاح في الفكر الإسلامي المعاصر مجرد تناقضات وتخمينات يختزل أهدافها في برامج لا تكاد تخلو من الأسس النظرية، لكنه في نفس الوقت انحصر في السقوط والفشل، وحاول أن يبحث عن البديل الجديد للنهوض من أجل إشراك كافة المقاربات من ثقافة وسياسة ومجتمع واقتصاد في بوتقة تدعو إلى الإصلاح الجذري، إلا أن التدخل الخارجي السافر في شؤون الدولة الدينية قد حال الأمر بالإصلاح إلى درجة من الانهيار والفشل.
إن من أهم المقاربات التي يستند إليها الإصلاح تتجلى أولا في الإصلاح الثقافي كمدخل رئيسي في استراتجية الإصلاح السياسي والإجتماعي وأولوياته لدى روافد متعددة في الخطاب الإسلامي المعاصر(3)، لأن الثقافة هي مفهوم واسع أحصاها بعض الباحثين في 164 تعريفا لغويا واصطلاحيا للثقافة، وعلى ضوء ذلك يمكن القول أن المثقف هو الفطن والذكي الثابت المعرفة بما يحتاج إليه، وتعني الثقافة كذلك " التهذيب والتشذيب وتقويم بعد اعوجاج"(4)، ورغم أن الإنسان لا بد أن يكون الفاعل والهادف بل المستخدم مهنيا لذهنه في انتاج المعرفة(5).
على هذا الأساس تكون المسألة الثقافية في مفهوم الإصلاح في الفكر الإسلامي، تتمحور أساسا حول طريقة الأفكار، الذي هو مظهرها الأول والمباشر ينطلق من المادة المعرفية المستهلكة وطريقة استهلاكها وإعادة إنتاجها، والتي تكون في نفس الوقت مسألة الفكر كمحتوى والفكر كأداة(6)، ذلك أن بداية محاولات الإصلاح الفكري وجدت في الثقافة نوع من الإشتباك مع الغرب، لا سيما الإفادة من الخبرة الغربية الحديثة مع حملة نابليون بونابرت على مصر سنة1798م (7)، ولا ريب أن المناظرات الفكرية عن الإصلاح في الفكر الإسلامي وعلاقته بالمسألة الثقافية، لا تزال لحد الآن تناقش، بحيث طرحت قضية النهضة والإصلاح والتقدم والمدنية في البدايات، هذا إشارات إلى سؤال شكيب أرسلان: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ وهو سؤال يعد من أهم وأبرز المناظرات الفكرية التي لقيت صراعا فكريا بين الخطاب السلفي والخطاب الليبرالي.
لقد مثل صدور كتاب علي عبد الرزاق " الإسلام وأصول الحكم " تتويجا جديدا لإنهيار الخلافة العثمانية، ومحاولة ميلاد نظام جديد يستجيب لإلغاء السلطنة، وعلمنة الدولة كما ذهب إليه مصطفى كمال أتاتورك، وهو ما مثل بدايات جديدة للمناظرات التي تدور حول الإسلام وشموله وصلاحيته للمكان والزمان، وبدأ سؤال الهوية يحتل مساحة واسعة بعد الحرب العالمية الثانية، وقد حال بذلك إلى صعود الصراع الإيديولوجي العالمي، وبروز الإسلام الحركي منذ عقد الثلاثينات بصورة عامة(8).
إذا كان كتاب علي عبد الرزاق قد أثار موجة واسعة من الإنتقادات، رغم محدودية ما جاء به من أفكار أصيلة وطريفة بالمقارنة مع ما كان الفكر العربي السياسي قد طرحه في الحقبة السابقة، وهو ما كاد أن يفجر المعركة الفكرية السياسية داخل الإجتماع التقليدي الذي حاولت السلفية الإصلاحية أن تجعل منه وعاءا للتجديد ومستندا له(9)، لذلك نرى رواد الفكر الإصلاحي العربي، يبادرون إلى بناء مشروع فكري يكون فيه الإسلام السياسي غطاءه الجديد تارة، والاتجاه العلماني تارة أخرى، إذ أن الخطاب الذي يعزز مقولاتهم ويروج أخبارهم يتناول عدة قضايا منها الصراع ضد الإستبداد ومن أجل الدستور الكامل المتفاهم بين كافة الشعب، لكن الصبغة الدينية غلبت على هاته المشاريع وعكست الرؤية الإصلاحية لتنفرد نحو تأسيس زعامة سياسية جديدة تتسم بالقداسة والهبة.
إن انتصار الأفكار الحرة لا بد أن تستند إلى مقومات أخلاقية، بحيث يكون الشأن الإجتماعي ذات أبرز القضايا التي يتمحور حولها الإصلاح، كما أن الشأن السياسي الذي يعكس مقاربات الإصلاح الإجتماعي يهدف أساسا إن لم نقل عنه الإنفراد من أجل الزعامة، ولا أساس لنا أن نجد اليوم الدولة التقليدية كما كانت في السابق، لأن انتصار الفكر التحرري من النزعة الإستعمارية قد حال به الأمر أن يعكس صورة الزعامة من أجل وطن لا يكاد يخلو من مسلسل الإصلاحات في جل الميادين.
إن أهم ما كان يعيشه العالم الإسلامي انطلاقا من النصف الثاني للقرن التاسع عشر، من بروز تيارات فكرية اصلاحية في شخصية جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، فقد تميز هؤلاء بالنزعة السلفية الإصلاحية التي تدعو بالعودة إلى السلف السابق وضرورة إصلاح الشأن الديني، وانفتاح الأمة الإسلامية على النموذج الأروبي خصوصا في الجانب التقني والعلمي كما دعا إليه الأفغاني وعاكسه محمد عبده، هذا في الوقت الذي برز فيه مفكرون أخرون ذات اتجاه ليبرالي مثل عبد الرحمان الكواكبي ونجيب عازوري، الذين أكد ضروريا الأخذ والإقتباس من المدنية الأروبية، ودعا الكواكبي إلى إصلاح شامل مقارنا إياه بما قام به فلاسفة التنوير في أروبا، وأكد من جهة أخرى على ضرورة الإقتباس من الدستور الفرنسي فيما يخص الحياة المدنية.
ليس من الصدفة أن تكون هاته الأفكار هادفة إلى تغيير الوضعية العامة، من جراء الإنحطاط وسقوط الأمم الإسلامية في مخالب الإستعمار، وإنما الباعث منها نقل المعركة الفكرية إلى مستوى جديد لم يكن الكثير من الناس يدرك في ذلك الوقت خطورته بعد، وقد جاء ذلك تعبيرا عن انهيار التوازن الداخلي للفكر السلفي الإصلاحي الذي كان يعمل منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر على التوفيق بين القيم الإسلامية القديمة والقيم الغربية الحديثة(10)، ويبدو أن استيراد الفكر القومي ذات طابع علماني، ليبرالي، اشتراكي من طرف رواد الإصلاح في العالم الإسلامي الذين درسوا في الغرب، قد فجر الكثير من المعارك الفكرية حول بلورة الإصلاح الديني، ليس من قبيل الصدفة أن تنطلق الطلقة الأولى التي سوف تفجر هذا الصراع داخل جامع الأزهر الذي تحول في بداية القرن العشرين إلى بؤرة الصدام الرئيسية بين نموذجين من التفكير والرؤية السياسية(11).
الواقع أن الإصلاح في الفكر الإسلامي يظل بين الفينة والأخرى ناكرا لبرامج يكون فيه عامة الشعب مشاركون، وقد ينحصر برنامجهم في الصراع الفكري بين ما هو سلفي وما هو ليبرالي، أي الصراع بين الدولة الدينية والدولة المدنية، وهو صراع لا يزال لحد الأن مستمر في المنابر الإعلامية، ومع أن الشعوب الإسلامية لا تزال تدفع ثمن هاته المعارك الفكرية، لا تزال إذن في عوامل الفشل دون الوصول إلى الإصلاح الشامل يرضى لكافة الشعب، ودون أن تجد نخبة جديدة واعية وساعية إلى التغيير، إلا أن ميلها إلى التنظيم السياسي قد حال بها الأمر إلى نسيان هذا المشروع الإصلاحي، إن لم نقل عنه السباق نحو الزعامة كأبرز الدعايات التي ولدت مجتمع جديد غير ساعي للوصول إلى استراتجية الإصلاح.
هناك مفارقات كبرى بين الإصلاح القديم والإصلاح الحديث، وكان الدافع إليهما هو وجود خلل أصاب المجتمع الإسلامي الذي لم يميز بين الإسلام الإجتماعي والإسلام المعياري، وقد مرت هاته المفارقات إلى ما تشبه بالقطيعة على اعتبار الخلل داخلي والإصلاح ذاتي بالنسبة للإصلاح القديم، أو أن الخلل مزدوج يرجع إلى ضعف المسلمين من خلال الفارق الفاصل بين مجتمعاتهم وبين الإسلام، هذا فضلا عن انقلاب العلاقات بينهم وبين أروبا من التفوق إلى الإنحطاط بالنسبة للإصلاح الحديث، هذا الإنقلاب لم يكن ناتجا عن السقوط في فخ البدع، وإنما الخوف من التحديث والإنفتاح على العقلانية هو الذي مهد الطريق أمام الفشل، أعني به التفوق الأروبي في نظامه السياسي الضامن للحرية والمقيد للسلطة، عكس تخلف بلدانهم فإنهم راجعوا إلى نظامه المستبد المتوافق مع الإستعمار أو ما نسميه التسليم بالآراء الخارجية دون التفكير في إصلاحات داخلية شاملة ومندمجة(12).
لقد انطلق مفكروا الإصلاح من التسليم بالفكر السلفي تارة والفكر الليبرالي تارة أخرى، رغم أن أفكارهم تظل محصورة في قاعدة واحدة وهي القبول بمسألة الخلل والتأخر، وفي هذا يعكس هؤلاء الصورة التي كونها مفكروا الإصلاح في أروبا، كما أن حصر المشكلة في نظام السلطة من طرف السلفيين الذين أعتبروا الإستبداد الطرف والمشكل في الإنحطاط، كما دعوا إلى تقييد السلطة بأصول العدل الإسلامي (13)، صحيح حقا أنهم يحاولون الإستحواذ على السلطة بإسم إسلام سياسي لا يرضى المشاركة الشعبية العامة، ولا بد أن نستثني بعض حركاتهم الإسلامية التي نشأت خارج المناطق الحضرية كالوهابية في نجد، والمهدوية في السودان، والسنوسية في ليبيا، وحركة التوحيد والإصلاح في المغرب.
لا بد أن يتفق مفكروا الإصلاح حول مسألة التأخر والإنحطاط الذي أصاب مجتمعهم، وليس من الواجب الرجوع إلى مسألة السياسة وعلاقتها بالإصلاح، وإنما الجوهر ينحصر في المجتمع والثقافة أولا قبل أن يشمل السياسة، هذا المجتمع أعني به أنه لم يوافق على تشكيل نواة إصلاحية تنطلق من كبار النخبة، سميا وأن الهوس إلى مشكل التنظيمات السياسية والحزبية، وإعلان ميلاد أحزاب إسلامية، يسارية، ليبرالية، قد حال الأمر بالإصلاح إلى مجرد قطيعة بينه وبين المجتمع، فسواء قاموا بالدعوة إلى أفكار سياسية ليبرالية أو إسلامية، فإنهم حولوا المجتمع إلى بؤرة تركز على الجانب السياسي بين ما هو ليبرالي أو سلفي، ومن هنا نجد ضعف الفكر الإقتصادي والإجتماعي والثقافي في الفكر الإسلامي المعاصر.

الهوامش:
1- محمد أبو رمان، الإصلاح السياسي في الفكر الإسلامي، منشور الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، طبعة 2010، ص 15.
2- نفسه، ص16
3- نفسه، ص23
4- نصر محمد عارف، الحضارة، الثقافة، المدنية " دراسة لسيرة المصطلح ودلالة المفهوم"، سلسلة مفاهيم ومصطلحات، طبعة 2، منشور المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فرجينيا، 1994، ص22.
5- وجيه كوثراني " عندما تكون الثقافة عامل تغيير للنهوض أو عامل جمود للإنهيار" مجلة التسامح، العدد11، صيف2005،ص 31، مسقط.
6- محمد عابد الجابري، المسألة الثقافية، سلسلة الثقافة القومية، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية،1994، ص19.
7- ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، ترجمة كريم عزقول، دار نوفل، بيروت، 1997، ص93.
8- رضوان السيد " المسألة الثقافية في العالم الإسلامي، منشور حوارات القرن الجديد، صص119-137.
9- برهان غليون، نقد السياسة للدولة والدين، الطبعة الرابعة 2007، منشور المركز الثقافي العربي، بيروت، ص6.
10- نفسه، صص6-7.
11- نفسه، ص7.
12- علي أومليل، ماهو الإصلاح، سلسلة ندوات ومناظرات حول الإصلاح والمجتمع المغربي في القرن التاسع عشر، سلسلة رقم 7، منشور كلية الآداب، الرباط، ص27-28.
13- نفسه، ص28.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن