حَكَمَ فَعَدَلَ

عبدالرزاق دحنون
daahnoonabd63@gmail.com

2018 / 10 / 29

(إن أخلاق الناس تتبع سلوك الحاكم, فإن كان عادلاً مستقيماً عدلوا واستقاموا وإن جار وسرق جاروا وسرقوا)
كونفوشيوس

1
في أحد أندر التماثيل المصنوعة من حجر "الديوريت" الأسود يظهر وجه حمورابي الكهل وسمات الحزن تعصف في محياه مع تجاعيد الجهد الشاق الذي بذله في أعوام حكمه المديدة. و لا نغالي إذا قلنا: إن حمورابي البابلي بسنوات حكمه التي تزيد عن الأربعين عاماً و الممتدة بين (1792 - 1750) قبل ميلاد السيد المسيح يعد أبرز حُكّام العصر البابلي القديم, و أشهر حاكم في أرض الرافدين والهلال الخصيب على مرِّ التاريخ المدوَّن. وقد خلَّد اسمه وصورته على المسلَّة التي عرفت باسمه عند اكتشافها منذ عشرات السنين على يد المنقبين الفرنسيين في مدينة سوسا الإيرانية.ما الذي فعله هذا الحاكم حتى حُفظت سيرته وتناقلتها الأجيال ؟
في بداية سنوات حكمه لم يكن في مقدور هذا الحاكم الشاب منافسة جيرانه من حوله. ومع ذلك فإن الأختام الاسطوانية والنقوش البارزة على الحجر والفخار تصوره شاباً يفيض حماسة وموهبة، يُحسن الانقضاض و يُتقن المراوغة، لا ترده عقبات الطريق ووعورة الجبال. من أجل هذا كله لم يخسر في حياته معركة خاضها. وقد جمع تحت لوائه -بحكمته التي عرفت عنه- تلك الدويلات التي عاشت في نزاع وخصام و وحَّد ما يعرف ببلاد الرافدين والهلال الخصيب, وهيَّئ لأهلها حياة آمنة وادعة بما سنَّ لها من قوانين تكفل العدل والمساواة.
2
يقول في كلمات ختم بها شريعته:
"إنَّ هذه الشرائع صنعتُ لها دعائم في الأرض, حكومة صالحة طاهرة, ورعاية دائمة, وحب أسبغته على أهل وادي الرافدين, وبحكمة ضبطتُ أحوال الرعيَّة, ورفعتُ الظلم والبغي عنهم, بحيث أمن الضعيف القويَّ, ونال اليتامى والأرامل حقوقهم. وها أنا أترك أعمالي و شرعي كي يُسترشد بها, ولسوف يذكرني الذاكرون فيقولون: حقاً إنَّ حمورابي كان الأب الرحيم لشعبه"
بالطبع لم يكتب هذه الكلمات بنفسه وإنما أملاها على كتبته، وإذ قدَّم نفسه كرجل دولة من الطراز الرفيع، وعدد إنجازاته التي تجعل منه سيد بلاد الرافدين, فنحن نرى أنه لم يستخدم تلك المفردات لتكون خطاباً حماسياً غنياً بالألفاظ الأدبية تمجد الحاكم وتسبح بحمده، وتخلد اسمه للأجيال القادمة, بل أزعم أن حمورابي لم يكن نقشاً في حجر, أو حبراً على ورق, كما نقول اليوم. و القراءة الجادة لشخصية هذا الحاكم الهمام تظهر امتلاكه إرادة رجل صالح قد أفلح في مسعاه.ويتساءل المرء عن سر ولع حمورابي بتدوين كل ما عمله بما تيسر من أدوات حفظ التاريخ في زمانه من رقم طينية ونصب حجرية. أكان يؤمن نفسه ويحرص على ذكر سيرته؟
3
يمكننا تأكيد فكرة بسيطة في هذا المجال تقول: إن شخصية حمورابي لا يمكن تقييمها بمعزل عن المؤثرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة في عصره، فهو قبل كل شيء نتاج هذا المجتمع الذي ساهم في تكوين هذه الشخصية الفريدة.ومن الأمور التي تحسب له أن اسمه في المدونات المكتوبة كان مجرداً من أي رمز يشير إلى تأليهه. بل أصر أن يكون راعياً وخليفة الله على الأرض ليعُلي شرع الله ويكون رسوله إلى الناس. لذا هو راع وخادم ومسؤول أمام الله عن أحوال الرعية.و قد أدرك بفطنته وفطرته الفكرة القائلة: "إن أخلاق الناس تتبع سلوك الحاكم, فإن كان عادلاً مستقيماً عدلوا واستقاموا وإن جار وسرق جاروا وسرقوا"
4
يقول في مستهل دساتيره المدونة المشهورة بقانون حمورابي: "عهد رب الأرض والسماء إلى حمورابي الخادم المطيع كي ينشر العدل في الأرض ويحول بين الأقوياء وبين أن يظلموا الضعفاء ويرعى مصالح الخلق". كان الإنتاج الزراعي شغل حمورابي الأول, فهو يشرف على توزيع الأراضي على المنتفعين بوساطة وثيقة من الطين مختومة تتضمن اسم المالك الجديد ومساحة الأرض الممنوحة له، والملاك هم من سويات اجتماعية ووظائف مختلفة, يحصلون على أرض لزراعتها لصالحهم لقاء عملهم في مرافق الحاكم.والثابت عندي أن هذا الحاكم كان على دراية بالقوانين القديمة السابقة لعصره، ومنها استمد فكرة جمع هذه القوانين في مجموعة واحدة، لتكون دستوراً عاماً يحفظ حقوق البلاد والعباد. ودارس شخصية هذا الحاكم العظيم اليوم يكتشف أن حمورابي أدرك بفطنته وتعلمه من أعوام حكمه المديدة أن الناس تحتاج الأمن والاستقرار والعدل كي تبني وتنتج و تعيش ، لذلك تعامل مع هذا الأمر بكل حزم وشدة وهذا ما ظنهّ الدارسون الغربيون استبداداً، مع أن هناك فكرة صريحة حكمت تاريخ الشرق تقول: إن الإنسان مستخلف على هذه الأرض ولا يملكها بل هي من حق الراعي المستخلف على الرعية. وفكرة الراعي قديمة تعود إلى أجدادنا الأوائل في سومر,وقد فهم حمو رابي الفكرة وتمثلها في أقواله وأفعاله، فهو مستخلف ومن حقه التصرف في أمور البلاد والعباد، وأغلب من درس تاريخ الشرق من أهل الغرب، تاه عن هذه الفكرة الجوهرية.
5
هل يسعني في ختام هذا القول التقدم بمطلب أو اقتراح:
علينا أولاً أن لا نستكبر العودة إلى تجارب أوائل حكام الشرق على حدِّ تعبير المفكر العراقي هادي العلوي-طيَّب الله ثراه- فقد نجد عندهم ما ينقص حاضرنا، وكما يقول المثل العربي القديم (ماحك جلدك مثل ظفرك) ويكون أفضل من استدعاء الغير لحك جلودنا بالحراب.وثانياً على القادة في جميع جبهات الكفاح أن يدرسوا التاريخ. وهم عموماً جهلة في هذا المضمار الحيوي، والتاريخ الوحيد الذي تعرفه أغلبيتهم الساحقة هو تاريخ أوروبا الحديث الذي لا يُصلح ما نحن فيه. أما تاريخنا، وعموم تاريخ الشرق، فيعرفونه عن طريق الكتب المدرسية التي قرؤوها في شبابهم المبكر.ثالثاً لابد من استيعاب تراث منطقتنا بطريق مباشر، والعودة بذهن مفتوح إلى المصادر الكبرى لهذا التاريخ. ورابعاً آمل أن يتنازل حكامنا وقادتنا فيدرسوا تجارب حكام الشرق القديم, بما فيها من مشاعية وحرص على العدل، وحين نأتيها من هذا الباب ستكون مشروطة بتاريخيتها وستجعلنا أحراراً في معالجتها نقدياً حتى يسهل دمجها في منظومة معارفنا في سياسة الرعية. وعندئذ قد نشطب ونعدل ونضيف كي نصل بهذه التجارب إلى الفائدة القصوى، وبذلك نوزع احترامنا وتقديرنا على بناة الوعي والحضارة البشرية.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن