كَهِينَا (8)

سلام محمد المزوغي
freeprocess@hotmail.com

2018 / 10 / 28

عادت كهينا بسرعة، سمعتُ وقع خطاها.. صغيرتي كانت تهرول.. تجري، كانت سعيدة وكنتُ أسعد..
قالت: "هيا، قم يا كسول، لنتعشى.."
قلتُ: "حسنا فعل زوجكِ عندما رحل سريعا، وحسنا فعلتِ بمحو كل ذكرى له عندي"
قالت: "وحسنا فعلتَ بأن لم تكن ككل الأطفال.. ككل الأبناء.. أنا جائعة وأنتَ؟"
قلتُ: "سأجوع الوقت التي أحضّر لكِ فيه شيئا.. لا تقلقي"
قالت: "سأفعل"
قلتُ: "كانت ماما تقول أني يجب أن أتعلّم كل شيء لأستطيع التعويل على نفسي، أجادتْ تعليمي لدرجة أني اليوم أستطيع العيش في غابة دون أي تموين.. دعيني أعوّل على نفسي إذن، وفي نفس الوقت أردّ لها القليل.."
قالت: "أستسلمُ!"

قفزت من مكاني، وأسرعت للمطبخ.. لم تأكل طوال اليوم.. كنتُ مطالبا بتحضير شيء يعجبها وفي أسرع وقت، رهان تدربتُ عليه كثيرا منذ سنوات.. بدأ ذلك في السنة الأخيرة من مكوث كريمة معنا، في سنتي الخامسة عشرة.. اليوم كبرتُ وصرتُ أعرف كل شيء، جل الفضل يعود لها وبعضه لي؛ كانت المعلِّمة المتمرسة وكنتُ التلميذ الذكي..
لم نتكلم، لم تقل شيئا لكنها غنّتْ.. ثلاث أغنيات، اعتدتُ سماعها عندما كنت صغيرا، في الفراش قبل النوم.. لم أكبر، لا أزال صغيرها، رضيعها، ولا تزال تُغني لي مثلما كانت تفعل كلما أخذَتْني للفراش عندما كنت صغيرا.. كنت سعيدا؛ أسعدُ دائما عندما تُشعرني أني صغيرها وتسعد دائما عندما أشعرها أنها الأصل.. المصدر.. صغيرتي.
بعد أن أكملنا الأكل، استغربتُ من سؤالها عن كريمة، لكني أجبتها وقلت لها كل شيء؛ قلت أني أعرفها منذ خمس سنوات، قصصت عليها كل ما حدث عبر الشات، وكيف وجدتُ نفسي أمام منزلها في صباح ذلك اليوم.. استغربتُ أكثر لردها: "اتصلْ بها واعتذرْ منها".. قلت أني لم أخطئ لأقدّم اعتذارات، ردتْ: "افعلْ ما قلتُ لك ثم قَبِّلها في أقرب فرصة، لا تجعلْ صبرها ينفذ فتندم".. لم أفهمْ موقفها، لكني عزمتُ على فعل ما قالت.

شاهدنا فيلما بعد ذلك، والتحق كل بغرفته.. الموبايل كان على سريري، وجدتُ أن كريمة اتصلتْ عديد المرات وأرسلتْ رسائل عديدة.. اتصلتُ بها واعتذرتُ، قلتُ لها أنها إنسانة جيدة وتستحقّ كل خير لكني لا أعلم هل سأستطيع اسعادها أم لا.. قالت لي كلاما جميلا، قالت أني أسعدتُها ذلك اليوم وأنها لا تأمل أكثر، قالت أنها ستقبل مني كل شيء وستتفهّم كل شيء، طلبتْ أن نلتقي في الغد فلم أعدها، لكني سألتها هل ستُقَبِّلني إن التقينا؟ فلم تعدني لكنها قالت: "اصنع لي قلادةً من الياسمين، وواعدني في مكان جميل وسنرى.."

عندما أفقتُ في الغد، وجدتُ أنها لم تنمْ؛ أمضتْ الليلة تكتب لي، الرسالة الأخيرة قالت فيها أنها تنتظر متى أستيقظ لأتصل بها.. أعجبني ذلك منها، لكني شعرتُ بضيق؛ رائعة أخشى ألا أستطيع مبادلتها ما تشعر به نحوي، رقيقة أخاف أن تسقط آمالها في أي لحظة..

لم أتصل.. حملتُ معي إبرة وخيطا أبيض، قطفتُ الياسمين من عند بعض الجيران وصنعتُ عقدين..
عندما وصلت لمكتب كهينا، أعطيتُ عقدا للسكرتيرة وطلبتُ منها أن تقول لها "هدية من رجل يرغب في لقائكِ".. عندما عادتْ، كانت مبتسمة وقالت: "أظنها تعرّفتْ عليكَ".. عندما دخلتُ، وجدت كهينا واقفة أمام النافذة تنظر إلى الخارج، والعقد فوق مكتبها.. قالت: "أكملْ.."، فأخذت عقدها، وقفت وراءها، وضعته مكانه، ثم ربطتُ الخيط من تحت شعرها وقبلتُ العقدة ورقبتها.. استدارتْ وسألتني عن كيف سأمضي يومي، فأعلمتُها أني سأعمل بنصيحتها فباركتْ.. ثم ناولتني مفاتيح السيارة وبعض الأوراق النقدية، وقالت: "لا تُقبِّلها أنتَ، دعها هي تفعل.."، فذكّرتُها أنها البارحة قالت العكس فردتْ أنها غيّرتْ رأيها: "كلنا نخطئ ونتعلّم من أخطائنا، ليس عيبا أن نقول خطأ؛ العيب أن نواصل دون أن نتعلّم فنخسر كل شيء".



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن