من ذاكرة التاريخ / وثبة كانون الثاني المجيدة/ 1/2

حامد الحمداني
Ahamdany34@gmail.com

2018 / 10 / 27

ممهدات الثورة :
منذُ أن أقدم الإمبرياليون البريطانيون على احتلال العراق من جديد ،في مايس عام 1941، وإسقاط حكومة رشيد عالي الكيلاني ، وتشكيل حكومة المدفعي بأمر من السفارة البريطانية ، اصبح الشعب العراقي وحاكميه على طرفي نقيض ، وتباعدت الهوة بينهما إلى أبعد الحدود ، وخصوصاً بعد الإجراءات الانتقامية التي قامت بها حكومتي المدفعي ، ونوري السعيد ضد كل من شارك أو ساند حركة الكيلاني ، والعقداء الأربعة ، أو وقف ضد الاحتلال البريطاني .

لقد أدركت السلطة الحاكمة أن الأمور لا بُدّ وان تؤدي إلى الانفجار إذا ما سارت على ذلك المنوال، وبغية امتصاص الغضب الشعبي العارم ، أقدم الوصي عبد الإله على تأليف وزارة توفيق السويدي، وأعلن في خطاب العرش عن عزم الحكومة إعادة الأوضاع الطبيعية للبلاد، وإنهاء الأحكام العرفية ، وإطلاق حرية الصحافة، والسماح بتأليف الأحزاب السياسية، وخلال فترة حكم تلك الوزارة تنفست الصحافة الصعداء، وظهرت العديد من الصحف الوطنية ، وتم إجازة خمسة أحزاب معارضة، وهكذا خلق توجه الحكومة انفراجا نسبيا في أوضاع السياسية للبلاد .
لكن هذا التوجه لم يرق للمحتلين وأزلامهم، وعلى رأسهم نوري السعيد وشلته التي سعت بكل الوسائل والسبل لإسقاط وزارة السويدي، وتصفية كل مظاهر الديمقراطية، واضطهاد الصحافة والأحزاب، والعودة بالأمور من جديد.

لقد تم لنوري السعيد وأسياده المحتلين ما أرادوا، وسقطت وزارة السويدي، ليؤلف أرشد العمري وزارة جديدة ادعى حين تأليفها أنها جاءت لإجراء الانتخابات النيابية، لكنها في حقيقة الأمر جاءت لتصفية الحياة الحزبية وشل الصحافة، وقمع الشعب ومصادرة حقوقه وحرياته العامة، وبدأت وزارة العمري تمارس سياسة القمع، مما دفع بالأوضاع نحو التدهور من جديد، وتصاعد التناقض بين الشعب وحاكميه.
القضية الفلسطينية:
وجاءت قضية فلسطين، وقرار اللجنة البريطانيةـ الأمريكية القاضي بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود الصهاينة القادمين من مختلف أنحاء العالم، تنفيذا لوعد [بلفور] بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وقد أدى ذلك القرار إلى إثارة الغضب الشعبي العارم في كافة أنحاء العالم العربي، وقيام المظاهرات الجماهيرية الواسعة في بغداد وسائر المدن الأخرى ضد السياسة البريطانية والأمريكية، وضد حكومة ارشد العمري الممالئة للإنكليز، وقد لعب الحزب الشيوعي دوراً طليعيا في تلك المظاهرات الكبرى، التي جرت في 28 حزيران والتي قابلتها الحكومة وأجهزتها القمعية بالرصاص، حيث استشهد العديد من المواطنين، وجرح أعداد كثيرة أخرى، وقامت الحكومة باعتقال المئات من المحتجين على سياستها، ثم تلتها [مذبحة كاور باغي] التي نفذتها حكومة العمري ضد عمال شركة النفط في كركوك لتزيد الغليان الشعبي إلى درجة خطيرة .
أزمة الخبز:
وجاءت أزمة الحبوب وفقدان رغيف الخبز في مطلع عام 1947 لتصاعد من حدة التناقض بين الشعب وحاكميه، ولترفع من حرارة الغليان الشعبي. فبسبب سياسة الحكومة الاقتصادية الرعناء، حيث سمحت بتصدير كميات كبيرة من الحبوب إرضاءً لكبار الإقطاعيين والملاكين الزراعيين على الرغم من سوء الموسم الزراعي ذلك العام بسبب شحة الأمطار، ورغم كل التحذيرات التي وُجهت للحكومة من خطورة الوضع، وضرورة منع التصدير ذلك العام .
إلا أن الحكومة أغمضت عيونها عن تلك التحذيرات، واستمرت في سياستها المتعارضة ومصالح الشعب وحياته المعيشية، مما سبب فقدان الحبوب في الأسواق، وارتفاع أسعارها، وقد لاقى الشعب صعوبات بالغة في الحصول على رغيف الخبز الذي اشتهر في تلك الأيام ب [ الخبز الأسود ] لكثرة ما خلط فيه من مواد غريبة وكانت صفوف المنتظرين أمام المخابز تثير الأسى والحزن على ما يلاقيه الناس للحصول على الخبز.
لقد كانت أزمة الخبز أحد الأسباب الرئيسية لقيام وثبة كانون الثاني المجيدة في مطلع عام 1948، فقد بلغ السيل الزبى، كما يقول المثل، وكانت الأوضاع تنتظر من يشعل الشرارة لتنفجر ثورة عارمة ضد نظام الحكم القائم .
المفاوضات مع بريطانيا لتوقيع معاهدة جديدة:
وجاء تسرب أنباء عن وصول وفد بريطاني بصورة سرية لأجراء مفاوضات مع حكومة صالح جبر لوضع مسودة معاهدة جديدة تحل محل معاهدة 1930، وضم الوفد البريطاني نائب مارشال الجو السير [بريان بيكر] والبريكادير[ كيرتس ] ونائب مارشال الجو[كراي] والمستر [ بسك ] والميجر [ رنتن ] والميجر [برتواك ] فيما كان الوفد العراقي قد تألف من [صالح جبر ] و[شاكر الوادي] و[ صالح صائب الجبوري ] رئيس أركان الجيش، وتبين أن المفاوضات بين الطرفين كانت قد بدأت في 8 مايس1947 واستمرت حتى 17 منه (13)
وتم إجراء المفاوضات في قصر الرحاب، تحت أشراف الوصي عبد الإله الشخصي. كما سافر عبد الإله إلى لندن في 15 تموز، وأجرى مباحثات مع المستر [ بيفن ] استكمالاً للمحادثات التي بدأت في بغداد، وبعد عودة الوصي إلى العراق استأنفت المباحثات بين الطرفين في 22 تشرين الثاني، واستمرت حتى 4 كانون الأول، وكان الجانب البريطاني يتقدم بمسودات متعددة للمعاهدة الجديدة، وسافر[نوري السعيد] و[ فاضل الجمالي] وزير الخارجية إلى لندن، وأجريا لقاءات متعددة في وزارة الخارجية البريطانية، حيث قدم لهما مساعد وزير الخارجية مسودة جديدة للمعاهدة، وقد اتصل نوري السعيد برئيس الوزراء [صالح جبر] داعيا إياه إلى الحضور إلى لندن لاستكمال المباحثات حول مسودة المعاهدة، وقد لبى صالح جبر الدعوة، وغادر إلى لندن وبصحبته وزير الدفاع [شاكر الوادي ] و [توفيق السويدي] بعد الاجتماعين الذين تمم عقدهما في قصر الرحاب ،برئاسة عبد الإله وكان الاجتماع الأول في 28 كانون الأول، وضم ذلك الاجتماع 7 رؤساء وزارات سابقين، و12 وزيراً بالإضافة إلى رئيس الديوان الملكي [ أحمد مختار بابان ]، ثم تلاه الاجتماع الثاني في 3 كانون الثاني حيث نوقشت فيه النقاط الأساسية التي سيتم التفاوض بشأنها.

ويقول السيد توفيق السويدي في مذكراته أن صالح جبر كان قد وزع على الحاضرين مسودة المعاهدة باللغة الإنكليزية، وعندما طالبته بنسخة عربية أجابني أنه لم يتسنى لنا ترجمتها إلى العربية، ويضيف السويدي قائلا: {بأنه لم يجد ما يستوجب الاعتراض من الجانب السياسي، ولكن وجدت الجانب العسكري عليه الكثير من الاعتراضات، وقد رد عليّ صالح جبر بان هذا الأمر مدروس من قَبلْ ومتفق عليه بهذا الشكل، وليس فيه ما يستوجب الاعتراض}، الأمر الذي دل بوضوح على أن المعاهدة قد وضعت واتُفق على موادها سلفاً وإن الوصي أراد إضفاء الشرعية عليها، وفي نهاية الاجتماع تم تخويل الوفد برئاسة[صالح جبر] صلاحية التوقيع على المعاهدة. (14)

وعندما سرت أنباء اجتماعات قصر الرحاب سارعت الأحزاب الوطنية إلى الاحتجاج عليها بسبب استبعاد الشخصيات الوطنية منها، وأصدرت بيانات تندد بالحكومة وتستنكر سعيها لربط العراق بمعاهدة جديدة اشد وطأة، وتمتهن سيادة واستقلال البلاد، مستهترة بإرادة الشعب وحقوقه المشروعة، وظهرت تلك البيانات في الصحف في اليوم التالي.
لكن الحكومة مضت في خططها لإتمام الصفقة مع المحتلين البريطانيين متحدية إرادة الشعب، حيث أعلن عن سفر الوفد العراقي إلى لندن في 5 كانون الثاني 1948.

وجاءت تصريحات وزير الخارجية فاضل الجمالي ، والتي أشاد فيها بالمعاهدة العراقية البريطانية الموقعة في حزيران 1930، وبجهود الحكومة لعقد معاهدة جديدة مع الحليفة بريطانيا، وأهمية وضرورة عقدها، لتشعل أول شرارات الوثبة، فقد كانت تصريحات الجمالي استفزازية وقحة دفعت طلاب الكليات إلى الخروج في مظاهرات صاخبة تستنكر سعي الحكومة لعقد هذه المعاهدة الجديدة، وقام طلاب كلية الحقوق بدور بارز في تلك المظاهرات .
لكن الحكومة سارعت إلى دفع قوات الشرطة للتصدي للمظاهرات مستخدمة أساليبها القمعية المعروفة لتفريقها، وقد أصيب عدد من الطلاب في الصدام واعتقل البعض الأخر، وأقدمت الحكومة على تعطيل الدراسة في كلية الحقوق في 5 كانون الثاني، وقد احتج أساتذة الكلية على إجراءت الحكومة وأساليبها القمعية في تعاملها مع الطلاب المتظاهرين.
لكن الحكومة ردت باعتقال عدد من أساتذة الكليات والطلاب، واتهمتهم بحمل المبادئ الهدامة .
ونتيجة لسلوك الحكومة هذا إزاء الطلاب وأساتذة الكليات أعلن طلاب الكليات والمعاهد العالية إضرابهم عن الدراسة، وخرجوا في مظاهرات صاخبة سارت حتى بناية مجلس النواب للاحتجاج على الحكومة.
وبسبب تسارع الأحداث وتطورها، حاول وكيل رئيس الوزراء [ جمال بابان ] تهدئة الأوضاع فأمر بإعادة فتح كلية الحقوق، وإطلاق سراح الطلاب، وأساتذتهم المعتقلين.

توقيع معاهدة بورتسموث في 15 كانون الثاني 1948:
وصل الوفد العراقي المفاوض إلى لندن في 6 كانون الثاني، حيث عقد الوفدان العراقي والبريطاني في مقر وزارة الخارجية اجتماعاتهما حول المعاهدة المقترحة، والتي كانت قد أعدت سلفاً، واستغرقت الاجتماعات أربعة أيام، وانتهت في 10 كانون الثاني بعد أن جرى الاتفاق على بنودها، وتقرر التوقيع عليها في 15 منه في ميناء [بورتسموث].

وبادر صالح جبرإلى إرسال نسخة من مسودة المعاهدة المتفق عليها باللغة الإنكليزية، طالبا عدم نشرها لحين ترجمتها إلى العربية، وتم بالفعل ترجمتها وإذاعتها في 16 منه، وتناقلت الصحف نشر نصوصها، وبدأت في التعليق عليها ومهاجمتها، وإدانة الوفد المفاوض بالتواطؤ مع الإنكليز، وقد أحدث نشرها غليانا شعبياً واسعاً ينذر بالانفجار في أية لحظة .(15)



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن