الفرق بين الموضوعية والأيديولوجية

طلعت رضوان
talatradwan@yahoo.com

2018 / 10 / 8

يختلف الباحثون الذين يتناولون تاريخ الخلافة الإسلامية، بين باحث يلتزم بالموضوعية (بمعنى النقل الأمين من أمهات كتب التراث العربى/ الإسلامى، والأكثرأهمية هوتعليقاته على الواقعة التى ذكرها) وهوما فعله عميد الثقافة المصرية (طاها حسين) فى سلسلة كتبه عن تاريخ الخلافة الإسلامية..وكذلك د. عبدالهادى عبدالرحمن فى كتابه (جذورالقوة الإسلامية) وأيضـًـا الراحل الجليل خليل عبدالكريم، فى كل كتبه عن التاريخ الإسلامى..ويوجد فريق ثالث يلتزم بالنقل الموضوعى (فى بعض فصول الكتاب) ويتغاضى عن وقائع أخرى..كما أنّ التعليقات تتراوح بين الموضوعية والأيديولوجية..وهذا ما لاحظته فى كتاب (إعادة قراءة التاريخ) تأليف د. ياسرشحاتة الصادرعن هيئة الكتاب المصرية- عام2018.
فهو- على سبيل المثال- بعد واقعة التحكيم للقرآن- كان موضوعيـًا عندما ذكرأنّ على بن أبى طالب ذهب إلى الكوفة..وحاول جمع شتات فريقه وأتباعه، بهدف معاودة القتال (بعد أنْ اكتشف خدعة التحكيم) ولكن أتباعه رفضوا دعوته. والأكثر فداحة أنْ خرجتْ من بينهم جماعة ((تتهم عليـًـا بالكفر)) لأنه وافق على التحكيم، بالرغم من أنه رفضه فى البداية، بينما هم الذين أجبروه على قبول التحكيم..وهؤلاء هم الذين اتفق المؤرخون على تسميتهم بالخوارج..وقد حاول على معهم باللين وأنْ يكفوا عن لغة التكفير..ولكنه فشل فى كل محاولاته ((فاضطرلملاقاتهم عسكريـًـا فى معركة نهروان حيث سحقهم تمامًـا)) (ص169نقلاعن طه حسين- الفتنة الكبرى)
انتهزمعاوية الأحداث وعمل على القيام بمناوشات على حدود دولة على بن أبى طالب (على طريقة حرب العصابات) وفى هذا الوقت كانت الجزيرة العربية والعراق ومصرتحت ولاية على..والشام تحت ولاية معاوية..وقد حدثتْ بعض المناوشات التى كادت تقضى على إمارة محمد بن أبى بكرالتابع لعلى فى مصر. فأرسل الأشترلمساعدة محمد بن أبى بكر..ولكنه مات فى الطريق..وفى هذه الأثناء انتهزعمروبن العاص الفرصة (بدعم من معاوية) فتوجه إلى مصربجيش وقبض على محمد بن أبى بكروقتله..وأعلن عمروبن العاص أنه هوالوالى على مصر، وبذلك أصبح الشام ومصرتحت ولاية معاوية.
ولم ينته الحظ العاثرالذى طارد عليـًـا، فقد خرج عليه أقرب الناس إليه وهوابن عباس، ابن عمه وولى البصرة، بعد أنْ سرق كل ما كان فى بيت المال..ووصل الأمرإلى حد أنّ ابن عباس اتهم عليـًـا بالسبب فى الحرب مع معاوية والخوارج. وحمّـله مسئولية إراقة دماء المسلمين، فقال له على: وأنت يا ابن عباس يا ابن عمى، ألم تكن معنا فى سفك دماء المسلمين؟ (نقلا عن طه حسين فى الفتنة الكبرى- من ص166- 168ود. ياسر- ص169)
التعليق الوحيد الذى كتبه د. ياسرهو((من الممكن تصورالطعنة المُـرة التى شعربها على نتيجة غدرابن عمه به..وهوالذى كان يثق فيه..وولاه على البصرة ورشحه للتحكيم أمام عمروبن العاص)) بينما باحثون آخرون كانت لهم تعليقات أكثرعمقــًـا وجرأة فى كشف الصراع بين مسلمين مُـوحدين ومسلمين مُـوحدين مثلهم..ومن بينهم أقارب ومن صحابة الرسول..ومن بين هؤلاء الباحثين عميد الثقافة المصرية (طاها حسين) ود. عبدالهادى عبدالرحمن فى كتابه (جذورالقوة الإسلامية) والمستشارمحمد سعيد العشماوى فى (كتابه الخلافة الإسلامية) والراحل الجليل خليل عبدالكريم فى كل كتبه عن التاريخ الإسلامى.
وذكرد. ياسرشحاته ما جاء بكتب التراث العربى الإسلامى، عن خطط الخوارج لقتل كل من: على ومعاوية وعمروبن العاص..ولم ينجحوا إلاّفى قتل على (فقط) بمعرفة عبدالرحمن بن ملجم..والسبب كما يرى الباحث (تدخل القدر) ولكنه لم يطرح السؤال البديهى- كما هومفترض فى الدراسات الموضوعية الجادة: لماذا نجح قاتل على فى مهمته؟ ولماذا فشل الموكول إليهما قتل معاوية وقتل عمربن العاص؟ ولماذا كان (القدر) مع قتل على؟ ولماذا تغاضى (القدر) عن قتل الآخريْن؟
أعتقد أنّ تلك الأسئلة غاية فى الأهمية لأنها تكشف عن مفارقة تستوجب توقف العقل الحرأمامها وهى: لماذا كان القتل مصيرعلى بن أبى طالب؟ الذى حازعلى شعبية كاسحة من أهالى الشعب العراقى..ومن شعب الجزيرة العربية، بصفته أنه الأقرب إلى تطبيق العدالة الاجتماعية..وذلك عكس الشخصيْن الآخرين: معاوية الذى أصرّعلى تنصيب ابنه للخلافة ولوبحد السيف..كما جاء فى أمهات الكتب التراثية..والذى نهب أموال الشام ووزعها على أقاربه وأتباعه ليضمن خضوعهم الدائم. أما الثانى (عمروبن العاص) فإنّ ذات الكتب التراثية ذكرتْ الكثيرمن الوقائع عن فساده وحبه لسفك الدماء..وعقليته التآمرية كما حدث فى التحكيم..وأنّ ولاءه لمعاوية قبض مقابله ولاية مصر.
توالتْ الأحداث لدرجة أنّ الحسن بن على دخل فى طاعة معاوية..وأنّ معاوية عيـّـن على البصرة واليـًـا يدعى (زياد ابن أبيه) أو(زياد بن سميه) بسبب الشكوك حول والده..كما حدث (بالضبط) مع والدة عمروبن العاص. أما (زياد بن أبيه) فقد ذكربعض المؤرخين أنه من أب (عبد رومى) اسمه (عبيد) وكان زيد هذا ذا فراسة أعجبتْ الكثيرين..وقد منحه عمربن الخطاب ألف درهم، فأعتق بها زياد أباه..وظلّ زياد فى البصرة يكتب لأمرائها أيام عمر وعثمان..واستطاع أنْ يكسب احترامهما. وبعد موقعة الجمل كاد على بن أبى طالب أنْ يوليه على البصرة..ولكنه ولى ابن عباس..وبعد مقتل على وتولى معاوية الخلافة، تصالح زياد مع معاوية..وأطلق زياد إشاعة انتشرتْ بسرعة أنه ابن أبى سفيان بن حرب، الذى زنا مع أمه سمية فأنجبته..والأكثرأهمية أنّ معاوية أيـّـد الإشاعة..ولأنّ هذا الشخص (زياد بن أبيه) رضى لنفسه أنْ ينعتْ أمه (بالزانية) لمجرد أنْ ينال رضا معاوية..وأنْ يكتسب الانتساب للعرب..والتنازل عن جنسيته الأصلية (الرومية) لذلك قال العرب عليه (زياد بن أبيه) أو(زياد بن سمية) وبعد أنْ تولى ولاية البصرة كان من أشد المدافعين عن معاوية..وأكثرهم بطشـًـا ودموية ضد معارضيه أومعارضى معاوية (طه حسين- الفتنة الكبرى- ج2- ص212، 213)
تطورتْ الأحداث بعد موت الحسن بن على الذى قتلته زوجته..وهنا لاحظتُ أنّ د. ياسرشحاتة تغاضى عن ذكرتفاصيل مقتله..وهى تفاصيل غاية فى الأهمية لأنها تكشف للقارىء (لعنة السلطة والرغبة فى المنصب والتحكم) والقصة بدأتْ بخطة وضعها معاوية مع زوجة الحسن..وقد بدأتْ الأحداث بعد وفاة على..وتولى ابنه الحسن الخلافة لمدة قصيرة (حوالى ستة أشهر) ثم نشب صراع بينه وبين معاوية، وهذا الصراع انتهى بتنازل الحسن عن الخلافة..وبايع معاوية..وقد اندهش كثيرون من أتباع الحسن لهذا التنازل واستنكروه، لدرجة أنْ قام رجل وقال للحسن بعد مبايعته لمعاوية ((سوّدتَ وجوه المؤمنين. يا مسود وجوه المؤمنين))
وجاءتْ الخطوة الأخيرة..والتى كان معاوية يخطط فيها لتولية ابنه يزيد..وخشى أنْ يحدث نزاع بين ابنه وبين الحسن، فكان (العلاج الحاسم) هوالتخلص من الحسن، فاتفق مع زوجة الحسن (جعدة بنت الأشعث بن قيس) أنْ تضع له السم فى الطعام، مقابل مائة ألف درهم..ووعـْـد بأنْ يـُـزوّجها لابنه يزيد..وبعد أنْ أدّتْ (جعدة) دورها وقتلتْ زوجها الحسن بالسم، أرسل لها معاوية مبلغ المال..ولما سألته عن وعده بالزواج من ابنه قال لها: من قتلتْ ابن على بن أبى طالب، يسهل عليها قتل ابن معاوية (عزالدين بن الأثير- فى موسوعته: أسد الغابة فى معرفة الصحابة- مطابع دارالشعب- عام1970- ج1- ص118، وج2- ص14، 15)
فلماذا تجاهل الباحث ذكرتلك التفاصيل؟ أليستْ هى الأيديولوجيا التى طغتْ على وعيه وتفكيره وهويكتب، بهدف إخفاء بشاعة أحداث الخلافة الإسلامية؟
بعد موت معاوية أعلن يزيد نفسه خليفة للمسلمين..وبايع العرب يزيد، البعض عن اقتناع والغالبية عن خوف..وكان موقف الحسين شديد الوضوح حيث أعلن رفضه مبايعة يزيد..وبدأ يستقبل احتجاجات أهل الكوفة..وأرسل ابن عمه (مسلم بن عقيل) للتأكد من رغبة أهلها فى عزل يزيد ومبايعة الحسين. سارع يزيد بن معاوية فضم ولاية الكوفة لزياد بن أبيه (أوزياد بن سمية) ليكون هوالوالى على البصرة، حتى يسيطرعلى الأمرهناك، خاصة بما عرف عنه من قسوة ودموية (طه حسين فى كتابه: الفتنة الكبرى- ج2- ص212، 213)
كان تعليق عميد الثقافة المصرية (طاها حسين): وهكذا تشاء الظروف أنّ أنبل شخص فى الجزيرة العربية (الحسين بن على) وأكثرهم مثالية، أنْ يوضع فى مواجهة مع أكثرشخص فى الدولة الإسلامية وضاعة..وأذلهم أصلا وأكثرهم حقدًا وغلا..وقد تأكد ذلك بما فعله زياد بن أبيه، أوزياد بن سمية (بعد أنْ أصرّعلى أنه ابن زنا) وأنْ يتمسح فى أصول عربية، حيث سجن ابن عم الحسين (مسلم بن عقيل) فكانت النتيجة أنْ تسبب فى ثورة قام بها أهل الكوفة..ولكن ثورتهم فشلتْ ولم يستطيعوا حماية ابن عقيل، فقتله زياد..وبعد أنْ علم الحسين بما حدث، تأهب للسيرإلى الكوفة، فى مسيرة جمع فيها أهل البيت من نساء وأطفال، أكثرمما بها من جنود، فأرسل زياد بن سمية جيشـًـا (قوامه من ألف رجل بقيادة شخص اسمه الحربن يزيد) لإيقاف مسيرة الحسين..وبالفعل نجح فى مهمته (وبدون قتال) فأرسل زياد رجلا آخرهوعمربن سعد بن أبى وقاس، على رأس جيش قوامه أربعة آلاف مقاتل، تقابل مع الحسين الذى أخرج له مكاتبات أهل الكوفة..والتى تطلب منه الحضور، ولكن البعض ممن كتبوا هذه المكاتبات تنكروا لها..وادّعوا أنهم لم يكتبونها..وهكذا وجد الحسين نفسه متورطــًـا نتيجة من خدعوه من أهل الكوفة (طاها حسين المصدرالسابق- ص240 ود. ياسرشحاتة- ص172)
***



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن