مدخل إلى الفلسفة الماركسية (12 والأخيرة) العلمانية والديمقراطية

غازي الصوراني
cdideology@hotmail.com

2018 / 10 / 6


مدخل إلى الفلسفة الماركسية (12 والأخيرة)
العلمانية والديمقراطية
العَلْمانية هي : مفهوم يقتضي الفصل بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، الدولة لا تمارس فيه أية سلطة دينية، كما أن المراجع الدينية لا تمارس أية سلطة سياسية، بمعنى الفصل بين الزمني والروحي، بين الدولة والدين ، أي بين الاختصاصات الدنيوية والاختصاصات الدينية، كما أن الدولة العلمانية ليست دولة لا دينية ، بل هي دولة لا طائفية ، فالدولة العلمانية الديمقراطية ليست هي الدولة التي تنكر الدين ، بل هي الدولة التي لا تميز دينا على دين ، ولا تقدم أبناء طائفة على أبناء طائفة أخرى، ولا تخص بعض وظائف الدولة بأبناء طبقة بعينها دون سائر الوظائف .
هذا من الناحية القانونية ، أما من الناحية الفلسفية و المعرفية ، فإن أقصى ما تعنيه العلمانية ليس الإلحاد أو نفى وجود الله بل " تأسيس حقل معرفي مستقل عن الغيبيات و الافتراضات الإيمانية المسبقة".
وبكلمة واحدة ، إن العلمانية ليست نفيا للاعتقاد ، بل هي تحرير له من القيود و الإكراهات الخارجية. ولا غرو بالتالي أن يكون الفكر الديني الحديث قد عرف في ظل العلمانية تطورا في العمق ما أتيح له أن يعرفه في ظل الأنظمة الثيوقراطية . ووفق هذه الرؤية، فإن موقفنا الموضوعي تجاه مفهوم العلمانية يقوم على الأسس التالية:
1- تامين الحرية الدينية.
2- فصل الدين عن الدولة.
3- اعتبار الشعب أو المجتمع مصدر التشريع و القوانين .
4- تعزيز المحاكم المدنية العامة لضمان المساواة التامة في الحقوق والواجبات.
5- عقلنة الدولة والمجتمع وتعزيز الثقافة العلمية العقلانية وفق آلاليات الديمقراطية والتعددية الفكرية والسياسية.
6- تحرير الدين من سيطرة الدولة وإساءة استعماله لأغراض سياسية، وكذلك تحرير الدولة من هيمنة المؤسسات الدينية.
فالعلمانية بالنسبة لنا كماركسيين تعني أيضاً، على الصعيد المعرفي تحرير العقل من المسبقات، والمطلقات، او تحرير الفكر من الاوهام والخرافات وتحرير الانسان من العبودية التي تمتد جذورها الى تقسيم العمل وظهور الملكية الخاصة وتركز الثروة وظهور الطبقات (تحريره من نظام الاستغلال) ... العلمانية ليست ضد الدين، لكنها ضد الوثنية الدينية وضد سلطة رجال الدين وتدخلهم في حياة الانسان، فالعلمانية عملية تاريخية او سيرورة تقدم في التاريخ والمعرفة، وهي لغوياً مشتقة من العالم الدنيوي او عالم البشر الذين يصنعون تاريخهم بأنفسهم، وهي بذلك تقيم سلطة العقل والمنطق، وتعلن نسبية الحقيقة وتاريخيتها وتغيرها، وذلك هو جوهر الحداثة التي ندعو رفاقنا إلى وعي جوهر حركتها اللانهائية من ناحية، ووعي سماتها الرئيسية المرتبطة -كما يقول الصديق د.هشام غصيب - باكتشافين جوهريين هما:
- اكتشاف الطبيعة بوصفها كياناً مادياً مستقلاً.
- واكتشاف الإنسان بوصفه فرداً خلاّقاً وتاريخاً ومجتمعاً.
هكذا نفهم أن مفهوم الدّولة الإسلاميّة الذي ترفع شعاره قوى الإسلام الطّائفي السّياسي، لا علاقة لها بمعتقد الشّعب المقهور المسلم، أي لا علاقة لهذه القوى بالإيديولوجيّة الدّينية، بل هي ممارسة سياسيّة تستهدف فرض التّمثيل السّياسي بأقنعة دينيّة، كالحاكميّة والشّريعة والخوف من الله، على الفئات الشّعبيّة التي دفعتها ظروفها الاجتماعيّة الصّعبة، وأوضاعها الاقتصاديّة المزرية، وإلغاء وجودها السّياسي وتطلعها إلى الثّورة والتّغيير. وكما يقول المفكر الراحل مهدي عامل " إن ما تهدف إليه الطّبقة البرجوازيّة: أن تظلّ هذه الطّبقات الكادحة بلا قوّة سياسيّة، من غير أن تعي ذلك، أي من غير أن تكتشف بوعيها انعدام وجودها السّياسي الذي يُوَلدِّ عند تلك الطّبقات الكادحة الوهم الطّبقي بأنّ لها قوّة سياسيّة"[20].
وعلى الرغم من كل ما تقدم ، علينا أن ندرك في ضوء المستجدات والمتغيرات المتلاحقة راهناً، إلى أننا سنواجه –مع حركات الإسلام السياسي- ظروفا وأوضاعاً معقدة, ما يفرض على قوى اليسار العربي أن تتمسك برؤيتها الموضوعية إلى أبعد الحدود في العلاقة الديموقراطية وقضايا الصراع الطبقي والسياسي، ومفاهيم الاستنارة والعقلانية مع هذه الحركات بمختلف مذاهبها، كما عبر عنها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعلي عبد الرازق وطه حسين ولطفي السيد وأحمد أمين .. وغيرهم، بحيث نحرص على أن لا تصل الاختلافات معها ، إلى مستوى التناقض التناحري، وأن تظل الخلافات محكومة للعلاقات الديمقراطية.
وفي هذا السياق، نؤكد على أن احترامنا للأديان عموماً والتراث الديني الإسلامي خصوصاً، يتطلب منا –عبر الحوار الديمقراطي- رفض استخدام الدين كأداة لقمع حرية الفكر والإبداع والبحث العلمي وحرية الرأي والرأي الآخر، وكذلك رفض اختزال الإيمان الديني إلى تعصب حاقد ضد الآراء والأفكار والعقائد الأخرى.
وفي كل الأحوال ، يجب أن تظل علاقة اليسار العربي مع قوى الإسلام السياسي ، علاقة متحركة وجدلية تبعاً لتناقضات الواقع والصراعات الطبقية الاجتماعية والسياسات الداخلية، وطبقاً للموقف من العدو الامبريالي الصهيوني ، دون أن نتجاوز مخاطر تطبيق الرؤية الأيديولوجية الدينية على الصعيد الاجتماعي، حيث يتجلى التعارض والتناقض بصور أكثر حضوراً، سواء على صعيد فهم الديمقراطية كقيم وآليات وممارسة لبناء المجتمع ومؤسساته أو تجاه القضايا الاجتماعية الرئيسية للعمال والفلاحين ، والشباب، والمرأة، وحرية الاعتقاد والرأي والتعبير والاجتهاد والإبداع الثقافي وقضايا العدالة الاجتماعية والاقتصادية بمختلف تجلياتها .إن وضوح هذه الرؤية، ومن ثم البناء عليها بالنسبة لعلاقة القوى اليسارية مع القوى الإسلامية (بدون شرط التحالف معها) يتطلب من هذه الأخيرة أن تتخذ موقفاً واضحاً من التوجهات التالية:
أولا: تكريس أسس الدولة المدنية الديمقراطية ، والالتزام بمفاهيم وآليات الديمقراطية السياسية والاجتماعية وترسيخها كنهج حياة مجتمعي يضمن الحرية بكافة أنواعها وفي مقدمتها حرية المعتقد.
ثانيا: رفض التبعية للقوى الامبريالية بأشكالها المختلفة السياسية والاقتصادية والثقافية .
ثالثا: رفض الاعتراف أو التطبيع مع دولة العدو الصهيوني .
رابعا: تغليب التناقضات الرئيسية على الثانوية، والالتزام بقواعد الحوار الديمقراطي ، والاحتكام للجماهير، مع نبذ استخدام العنف وكل وسائل وآليات الجبر والإكراه في إدارتها .
ففي مشهد الإسلام السياسي الراهن، نلاحظ بوضوح كيف استطاعت جماعة الإخوان المسلمين، بعد أن نجحت في قطف ثمار الانتفاضات الثورية في تونس وليبيا واليمن و مصر ( قبل وبعد سقوطها في 30/6/2013 على يد الجماهير)، تعمل لإثارة النزعات الطائفية ، وتعمل أيضاً على تغييب الاقتصادي الاجتماعي بإعطاء الصّراع بعدا نمطيّا دينيّا، من خلال التنكّر للوجود السّياسي للشّعب كقوّة سياسيّة مستقلّة ونقيضة في ممارستها السّياسيّة للطبقة البرجوازيّة بكلّ أقنعتها الطّائفيّة السّياسيّة، مهما أخذت من أشكال دينيّة و اثنيّة ومذهبيّة. هذه القوى الطّائفيّة الإسلاميّة في ممارستها السّياسيّة ليست مسلمة دينيّا -كما تريد أن توهم- بتضليل إيديولوجي، الفئات الاجتماعيّة المسلمة الكادحة لتسلب منها حقّها في التّنظيم السّياسي المستقل، وتأسرها في تبعيّة سياسيّة طبقيّة للبرجوازيّة الكولونيالية.
صحيح بأن الممارسة الاجتماعية الإنسانية تجعلنا نقول بنوع من الحس التاريخي بأن الحل الوطني الديمقراطي العلماني الحديث، يحتاج إلى مسيرة معقدة ومركبة من التضحيات الجسام، في وجه حل التفتيت و التجزيء الطائفي الفاشي الدموي الذي ينتصب في أفق التناقض المأزقي الطائفي السياسي، المدعوم من قبل القوى والطبقات الرجعية وسيدها الإمبريالي.
إن الحديث من قبل حركات الإسلام السياسي عن أسلمة الدولة والمجتمع، وسقوط الدولة وتفكك المجتمع، لا يمكن أن يخفي عداء هذه الحركات وقوى الإسلام الطائفي الصريح لشعوبها حتى للفئات المسلمة منها، لأنها في نظرها مدانة كافرة ، أو ما تطلق عليه "جاهلية القرن العشرين" ، كما لا تخفي عداءها لمفهوم الدولة الوطنيّة الديمقراطية الحديثة التي تتفاعل فيها كل المكونات السوسيو- ثقافية، والانقسامات العمودية اللغوية والدينية والاثنية والمذهبية. فمشروعها ماضوي نكوصي يعود إلى ما قبل الدولة.
والمفارقة هنا أنها تمارس الضحك على الذقون، إذ تحلم بالخلافة من خلال سياسة القروض الأجنبية، أي الخضوع للمؤسسات المالية التي تفرض اختياراتها وتوجهاتها التي تتناقض وأهداف وتوجهات واختيارات الطموحات الشعبية من ثوراتها، والغنيمة واضحة هنا هي شعوبها وأوطانها، لأنها بذلك تتنازل مجانا عن حقها في امتلاك سيادة قراراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وهي بذلك تتكامل مع المشاريع الاستعماريّة التي تهدد وجود الدولة والكيانات الوطنية، من خلال إعلان فتوحات في شكل حروب أهلية عنصرية طائفية داخلية، و تدمير لحمة التنوع والتعدد واختلاف النسيج المجتمعي، وتفتيت الوحدة الوطنية، كما جرى في العراق و السودان وكما يجري الآن في سوريا، ويزحف تدريجياً في مصر .
الخاتمة:
تتجلى أهمية استخدام مفاهيم الحداثة و التنوير والعلمانية والثورة الديمقراطية ، من كل رفاقنا في كافة الفصائل والاحزاب الشيوعية والماركسية العربية ، في مجابهة استقطاب القوى اليمينية بشقيها، الليبرالي الرث والتابع المتمثل في أنظمة التبعية والتخلف والاستبداد وشرائحها البيروقراطية الكومبرادورية الحاكمة ، واليميني الديني السلفي المتمثل في قوى وحركات الإسلام السياسي، إلى جانب المجابهة الثقافية والفكرية والسياسية ، لكافة الجوانب السلبية والرجعية في تراثنا، إذ لا يمكن انضاج وتوليد مفاهيم العقلانية والعلمانية والديمقراطية من أوضاع تابعة ومستبدة من ناحية، ومن هيمنة قوى ماضوية سلفية جامدة ، بل من القطيعة المنهجية والمعرفية معها من جهة ، ومع كل مظاهر التبعية والتخلف السائدة في بلادنا من جهة ثانية .
بمعنى آخر، لا يكون العقل ثورياً، ولا يُجسَّد في السلوك، إلا إذا انطلقنا من الفعل والتفاعل مع احتياجات وتطلعات الجماهير الشعبية والاندماج في مساماتها، وخضوعنا لمنطقها ومستقبلها، من خلال عملية التجريد والتوضيح والتعقيل، لكي نتمكن من استبدال وتجاوز أوضاع الاستبداد والاستغلال الطبقي، واستبدال المنطق الموروث أو سلبياته المعرفية تحديداً التي تتمظهر وتتجلى منذ القرن الرابع عشر، حيث تعيش المجتمعات العربية حالة من المراوحة الفكرية على تراث الغزالي وابن تيمية وابن القيم الجوزية والتواصل المعرفي مع هذه المحطات السالبة في التراث القديم (خاصة بعد إزاحة ابن رشد وابن خلدون والفارابي والكندي والمعتزلة فرسان العقل في الإسلام) من جهة، ومع الأنماط الاقتصادية والاجتماعية القديمة والحديثة او الرأسمالية الرثة التابعة من جهة ثانية، وهو تواصل حَرِصَت عليه الطبقات الحاكمة في مجتمعاتنا العربية بمختلف أشكالها وأنماطها التاريخية والحديثة والمعاصرة حتى يومنا هذا، وهو حرص استهدف دوماً إبقاء الوعي العفوي للأغلبية الساحقة من الناس في حالة من الجهل والتخلف بما يضمن استمرار مصالح الشرائح البيروقراطية الكومبرادورية والطفيلية الحاكمة، عبر دور متميز لحركات الإسلام السياسي -كما هو الحال في مساحة كبيرة من الانتفاضات العربية راهناً .
فعلى الرغم من دخولنا القرن الحادي والعشرين، إلا أن مجتمعاتنا العربية مازالت في زمان القرن الخامس عشر قبل عصر النهضة، أو في زمان ما قبل الرأسمالية، وبالتالي غربة مفاهيم الديمقراطية والعلمانية والمواطنة عن هذه المجتمعات ، وذلك يعود إلى رثاثة العلاقات الرأسمالية في بلادنا وتبعيتها وطابعها التجاري الوسيط – الكومبرادوري والخدمي غير المنتج ، علاوة على أن معظم شرائح "البورجوازية" في بلادنا هي وليدة الطبقة شبه الإقطاعية وامتداد لمصالحها، وهي بحكم تبعيتها وطابعها التجاري، حرصت على تكريس مظاهر التخلف الاجتماعي عبر تكيفها مع الأنظمة الاوتوقراطية والثيوقراطية الحاكمة ، والشواهد على ذلك كثيرة، فالمجتمع العربي لم يستوعب السمات الأساسية للثقافة العقلانية أو ثقافة التنوير، بمنطلقاتها العلمية وروحها النقدية التغييرية، وإبداعها واستكشافها المتواصل في مناخ من الحرية والديمقراطية، ففي غياب هذه السمات، يصعب إدراك الوجود المادي والوجود الاجتماعي والدور التاريخي الموضوعي للتطور أو التبلور الطبقي، الآمر الذي أدى إلى إضعاف الوعي بالظلم الطبقي لدى جماهير العمال والفلاحين الفقراء واستمرار هيمنة أوضاع التخلف الاجتماعي في أوساطهم ، وتعطيل إدراكهم بوجودهم الطبقي المتميز، إدراكاً ذاتياً جمعياً يلبي احتياجات التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي على المستوى ال قطر ي أو على المستوى العربي العام، ولعلنا نتفق أن السبب الرئيس لهذه الإشكالية الكبرى، يكمن في طبيعة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية التاريخية والمعاصرة، باعتبارها نتاج وامتداد لأنماط اقتصادية /اجتماعية من رواسب قبلية وعشائرية وشبه إقطاعية، وشبه رأسمالية، تداخلت عضوياً وتشابكت بصورة غير طبيعية، وأنتجت هذه الحالة الاجتماعية/الاقتصادية المعاصرة، المشوهة، والمتخلفة، والتابعة .
أمام هذا الواقع المعقد والمشوه، وفي مجابهته، ندرك أهمية الحديث عن مفاهيم العلمانية والديمقراطية والمجتمع المدني ، والنضال من أجل تطبيقها وتوعية الجماهير بها ، ولكن بعيداً عن المحددات والعوامل الخارجية والداخلية، المستندة إلى حرية السوق والليبرالية، لأننا نرى أن تعاطينا مع هذه المفاهيم وفق النمط الليبرالي، فرضية لا يمكن أن تحقق مصالح جماهيرنا الشعبية، لأنها تتعاطى وتنسجم مع التركيبة الاجتماعية-الاقتصادية التابعة والمشوهة من جهة، ويتم استخدام مضامين هذه المفاهيم في الإطار السياسي الاجتماعي الضيق للنخبة الطبقية ومصالحها المشتركة في إطار الحكم أو خارجه من جهة ثانية.
وهنا بالضبط تتبدى الضرورة التاريخية التي تستدعي من القوى اليسارية الثورية في كل بلد عربي، تركيز أهدافها ومهماتها النضالية، السياسية والمجتمعية، باتجاه تغيير وتجاوز هذا الواقع ، وان تتحمل مسؤلياتها الكبرى، في كونها تشكل في هذه المرحلة طليعة الحامل الاجتماعي الديمقراطي الثوري على طريق النهوض والتقدم الديمقراطي والعدالة الاجتماعية وتحقيق أهداف الثورة الوطنية الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية، شرط أن تبادر أولاً إلى نشر وتعميق الوعي داخل تنظيماتها، بمفاهيم التنوير والعلمانية والديمقراطية والحداثة، والثورة والفكر الماركسي المتجدد واستخدامه من أجل تغيير الواقع الراهن وتجاوزه .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن