خطابٌ إلى الأمةِ الأمريكية

عبدالرزاق دحنون
daahnoonabd63@gmail.com

2018 / 10 / 3

قلتُ لصديقي المُترجم غسَّان غنُّوم –رحمه الله- وأنا اتفحَّص صورة ببرواز مُذهب رقيق الحواشي لنصِّ مكتوب بالإنكليزية ما هذه؟ قال: هذه صورة الخطاب المشهور لقائد الهنود الحمر سياتل, ألا تعرفه؟ قلتُ: ومن أين لي معرفته. قال:
على أثر المعاهدة التي أبرمت بين حكومة الولايات المتحدة الأمريكية والهنود الحمر وجه زعيم الهنود الحمر سياتل خطاباً تاريخياً إلى الأمة الأمريكية أبرز في مضمونه اختلاف وجهة النظرين لكل من البيض الأمريكان والهنود الحمر فيما يتعلق بتصور كلّ منهما للطبيعة والحياة. هذا الخطاب يُحتفظ بنسخة منه في مكتبة الكونغرس الأمريكي, وقد بادر الأمريكان بتكريم هذا الزعيم, بان خلدوا اسمه على مدينة تعرف بسياتل, وهي من أشهر المدن الأمريكية كما تعلم.
لقد تميَّزت عبقرية هذا الهندي الأحمر بقوة فلسفية هائلة. وهو لا يتمتع فقط بالقدرة على ملاحظة تفاصيل الحياة بألوانها وروائحها وكلماتها المميزة ودقائقها, بل وأيضاً بالتفكير في مغزى الحياة. تلك هي قوة هذا الخطاب. فعندما نقرأ كلماته أو نسمعها يعترينا الخجل من أنفسنا, أنت هنا في محراب الكلمات التي تهز الوجدان هزاً عنيفاً وتوقظه, وهذه أغلى سمة من سمات الخطاب. فكلمات الهندي الأحمر تُجبرنا على أن نستحي, وتقضي على كافة محولات التهرب وتبرير الشر والفساد الخلقي. أخرج صديقي نصَّ الخطاب من بقايا مكتبته التي ضاعت مع الأيام وراح يقرأ وأنا أسمع بذهول:
إن القائد الكبير الذي يقيم في مدينة واشنطن وجَّه خطاباً عبَّر فيه عن رغبته في شراء أرضنا. كما بعث بعبارات الصداقة وحسن النّيّة بالرغم من أنه لا يرى حاجة إلى صداقتنا وبالتالي يتوجب دراسة مقترحه, مع وضعنا في الحسبان أن عدم قبوله يعني مجيء الرجل الأبيض بسلاحه للاستحواذ على أرضنا.
سيادة القائد الكبير هل يمكن شراء وبيع السماء وحرارة الأرض!؟ مثل هذا التصور يبدو غريباً عنّا, وفوق هذا ليس في وسعنا امتلاك برودة النسيم و عذوبة المياه. فكيف يمكنكم شراء ذلك منّا؟ مع ذلك سوف نتدبر الأمر في حينه. أما بالنسبة لشعبي فكل حفنة تراب من هذه الأرض مقدسة, كل لقمة خبز إشعاع, كل ضفة نهر وكل غيمة ضباب تتخلل أشجار الغابة, وكل حشرة مهما كانت تافهة, مقدسة في ذاكرة شعبي.
نحن على يقين أن الرّجل الأبيض لا يفقه منطقنا. فقطعة الأرض بالنسبة إليه هي شبيهة بأيّ قطعة أرض أخرى. ولأنه غريب عن هذه الأرض التي وصلها ليلاً واستوطنها, فالأرض ليست في منزلة الأم بالنسبة له بل كانت كعدوّ ساعة اغتصابه لها, وبالتالي يواصل الرجل الأبيض المسير غير عابئ بقبور أجداده, ومتجاهلاً حق أولاده فيما تحمله الأرض من ذكريات بالنسبة لهم. إنّ منظر مدائنكم سيادة القائد الكبير يكدّر بصر أهلنا.
لا يوجد مكان آمن في مدن الرجل الأبيض, ولا مكان واحد يسمح بالتّمتع بسماع وشوشة أشجار الربيع أو حفيف أجنحة الحشرات فماذا يعني الجمال إذا كنا في الأماسي ليس في مقدورنا سماع صوت طائر الليل ولا حوار الضفادع في البرك؟ إنّ الهندي الحمر يفضّل تنفّس النسائم الطريَّة وهي تداعب صفحة المياه, وعبير الرياح المحمّلة بالعطر أمطار منتصف النهار ممزوجة برائحة خبزنا الزكية.
سيادة القائد الكبير لو قرّرتُ في النهاية قبول عرضك فإنّه يتوجّب وضع شرط على الرجل الأبيض يلتزم عهد شرف بأن يتعامل مع حيوانات هذه الأرض كأخوة له. أدرك إنّني إنسان متوحش لكنّني لا يمكن أن أتصوّر غير ذلك. لقد عاينت جثث الثيران البرية وهي تتعفّن في المروج المهجورة وذلك بفعل الرجل الأبيض الذي قتلها وهو على متن قطار عابر. إنّني متوحش ولكنّني لا أفهم كيف يمكن أن يكون هذا الحصان الحديدي أهم من ثورنا البري الذي لا نلجأ لقتله إلا في أمس حاجتنا للغذاء فكيف يكون مصير الإنسان يا ترى بمعزل عن الحيوان؟ لا شكّ أنّ البشر سيموتون جرّاء الوحشة لأنّ كلّ ما يلائم الحيوان يلائم البشر أيضاً.
لقد عاين أطفالنا آباءهم وهم يُهانون عَقِب الهزيمة, وعاينوا هَوَانهم بعد الهزيمة, لقد أغرقونا في رذيلة الخمول وأوُهَنوا أجسامهم بغذاء حلو المذاق ومشروبات كحولية. لا يهمُّ كثيراً كيف يمكن أن تكون نهاية أيامنا. إنّها معدودة, لكن هناك شيء واحد نعرفه ويمكن للرجل الأبيض أن يكتشفه, في يوم ما, هو أنّ إلهنا في هذا الوجود هو إله واحد. يمكنكم أن تعتبروه الآن إلى جانبكم كما فعلتم بأرضنا التي أصبحت ملكاً لكم, لكنّه يمكن أن يكون إلى جانبنا أيضاً لأنّه يسكن في جسد الإنسان, وهذه الأرض عزيزة عليه ولا يريد أن يلحقها الضرر, ولو حصل ذلك فإن سيطال خالقها. البيض أيضاً سيدركهم الفناء ولو كانوا في بروج مشيدة.
بوسعكم مواصلة تلويث موطننا لكن لا يجب أن تنسوا أنه سيأتي اليوم الذي ستختفون فيه بنفاياتكم وعلامة ذلك اليوم هي اغتيال كلّ الثيران البّرية وترويض كلّ الخيول الوحشيّة, اليوم الذي سيطال فيه التّلوث البشريُّ أكثر المناطق ستراً في الغابات. فكيف سيكون مصيرها ؟ دون شكّ فإنها ستندثر .ومصير البشر؟ سيصبحون أثراً بعد عين. ليتنا كنّا ندري آنذاك بما كان يحلم الرّجل الأبيض وأية آمال كان يتبادلها مع أطفاله خلال ليالي الشتاء الطويلة وماذا كان ينقش في ذاكرتهم؟
لا شكّ أنه في حالة قبولنا لعرضكم سيادة القائد الكبير سيكون المقابل هو سجننا في موطن ضيق, وهناك يمكن أن ننهي ما تبقّى من حياتنا مثل ما نتمنى. لكن اليوم الذي سينقرض فيه الهنود الحمر من على وجه الأرض وذِكْرَاهم ستبقى مجرّد سحابة تجوب المروج والضفاف والغابات, فإنها ستذكركم بأنفاس شعبي. لأنّ شعبي كان يعشق تلك الأرض كما يحبُّ الطفل سماع خفقات قلب أمه ساعة ولادته. إنّنا لو نبيعكم أرضنا عليكم أن تُبادلوها المحبّة ذاتها التي كنّا نكنّها لها, عليكم أن تحفّوها بالرعاية التي كنُّا نحفُّها بها, عليكم ان تحافظوا على مشهد الأرض في مخيلتكم وتعملوا على توريثها لأجيالكم بكلّ ما أوتيتم من قوة وعزم. حافظوا عليها من أجل أبنائكم وامنحوها المحبّة مثلما يمنح الإله الحب لنا جميعاً, وهناك شيء نؤمن به هو أنّ إلهنا هو إله واحد للجميع. وهذه الأرض عزيزة عليه, وفي النّهاية حتى الرجل الأبيض لا يمكنه النجاة من المصير المقدّر للجميع.
أنهى صديقي الكلمات الأخيرة من هذا الخطاب والدموع تسيل على وجنتيه, كان يبكي, نعم بكى بحرقة وحسرة وهو في السبعين من عمره. وها أنا تتلعثم كلماتي و تستعجم, وتنتابني الحيرة كحاطب ليل. كيف أصف تلك المشاعر النبيلة التي فاضت من نفس هذا الصديق الذي يحمل الجنسية الكندية ؟ هل كان يبكي ذكرياته مع ما تبقى من الهنود الحمر في الأراضي الكندية, أم كان يبكي لوعة على فراق زوجته البلغارية سفيتلانا و أولاده في كندا ؟ وهل استحضر هذا الخطاب ذكرياته في مونتريال مع أسرته التي هجرها في تلك السفوح المكلَّلة بالثلوج الأبدية؟ أم كان يبكي وحدته هُنا تحت قصف الطائرات في مدينة إدلب مسقط رأسه.
ملاحظة: ترجم الدكتور عبد الله حمادي هذا الخطاب لأول مرة إلى العربية ونشره في مجلة "النهج" التي كانت تصدر عن مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي شتاء عام 2002 وقد استرشدتُ بهذه الترجمة لتقييم ترجمة صديقي.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن