العلّة الغائبة

محمد ابداح
mohamadibdah@yahoo.com

2018 / 9 / 24

إن الخطاب الأيديولوجي نخر جاذبية الحس الإنساني للبشرية ممّا حوّل مركز دورانها عن محوره، فرسائل القديس بولس في القرن الأول الميلادي مثلا؛ دفعت المتعصّبين لفكرة الخلاص لقتل مئات الآلاف من الأنفس البريئة في أوروبا الوسطى وبلاد الشام الطبيعية كيلا يخلفوا موعدهم مع أرض المعياد ( أورشليم)، وإنه لمن المفارقات أن المسلمين الأوائل فعلوا الشيء ذاته لاحقا ليلتحقوا بجنة البهائم التي ترعى بنهمٍ أنهار العسل واللبن والحور العين، لكن الأمر الذي لايخلو من العجب أن الخطاب الأيديولوجي لا يتأصل بذاته مطلقا، وإنما هو نتيجة لعلة غائبة على الدوام، فالبحث عن معنى تلك الخطب يُفضي للخروج عن مضامينها والإبتعاد عنها بقدر مايراد القرب منها، إذ أن متحف التاريخ يدل على أن رجال كأتباع داوود إن كانوا قد فكروا مثل (بوذا) لما استطاعو الإستيلاء على فلسطين وطرد الكنعانيين منها، كذلك أصحاب محمّد في استيلائهم على مكة، ولاحقا إجتياح فارس وإسبانيا والقسطنطينية.
لقد كانت صكوك الغفران ومفاتيح الجنة و(الكفّار السّفلة) أخبارا مُزيّفة، لكن الحروب التي شنّت تحت ألويتها والنفوس التي أزهقت بسببها كانت حقيقية، ولنقولها دفعة واحدة: تلك هي الأسباب التي من أجلها تهمّ الأخبار المزيّفة (الفكر السّياسي) بأكثر ممّا تهمّه عويل الأمّهات وأنين المحرومين وويلات الحروب، ورغم شدة الهيجان الأيديولوجي وتأثيره البالغ في الواقع الإجتماعي المحسوس، إلا أنه لم يمسّ يوما موضوعية ومادية النهج السّياسي على مر التاريخ، كما لم تشوّه عمليات الترهيب والترغيب الديني صور النتائج الكارثية للعقلية السياسية بشكل يثير الدهشة حقا، وعلى النقيض من ذلك لاتزال عمليات التهميش والتسطيح الديني لمكتشفات العلوم الإنسانية وخصوصا فيما يتعلق بعلوم الطبيعة والفلك وعلم الوراثة والأجنّة ، فهل يمكن لنا تقبل العفوية الساحرة والقول ( إن الأمر هكذا ببساطة...)، وهل يجب تقبل سيادة الأيديولوجيا التامة على العقل في أشدّ مستويات لزوجتها كثافة؛ لابوصفها رواسب فكرية أو بديلا عن التطوّر؛ بل كمالا صافيا وإيجابية؟
كيف يتسنّى لنا الحُكمُ على أي جناية أو فظاعة من الفظاعات تحت أي معيار والعلة دوما غائبة؟ فلا وجود هنا لمحكمة العقل أو المنطق، وبماذا يكون إذن إتباع مذهب وتصديق مُعتقد والعمل بسرده، إن لم يكن العقل البشري المؤدلج قد أُفرغ حتى آخر قطرة من سيادته الذاتية واستقلاله الفكري. إن كافة معامل الإنتاج الديني تبدأ باحترام سيادة واستقلال مظاهر الطبيعة انتهاءا بأدق الكائنات الحية وتنتهي باستعباد البشر، فالدين يُعدّ هدفا بذاته والإنسان لايزال (وسيبقى) موضوعا، ويستحيل مع ذلك الأمر تفكيك الوقائع الموضوعية التي تهدف للوصول إليها أيّ فكرة أيدولوجية دون التعثر بالنقائض التي تكون قد تشكلت منها تلك الفكرة أصلا؛ فعذاب القبر مثلا ليس كعلم الطب والهندسة، وليس ثمة أيّ منافسة بينهما شريفة كانت أم غير شريفة، وهما لايسيران بنفس المضمار، ولا يستجيبان للمؤثرات ذاتها، فهدف أحاديث عذاب القبر هي تهدئة نفوس الناس أو ترويعهم تبعا للقيام أو عدم القيام بلائحة من الأعمال المعيّنة، بشكل لايتوصّل (ولن يتوصل) معه أبدا أي اكتشاف طبّي أو أيّ علمٍ ماديّ عرفهُ البشر باعتبار (عذاب القبر أو ماذا سيحدث لي غدا؟) بابا من أبواب العلوم المنجزَة، والتي يمكن التحقيق والبتّ بصحتها، كما أن علوم الطب والهندسة والوراثة وكافة العلوم المادية ليست معينة بترويع أو تهدئة نفوس البشر، أو بمدى ذكاء وعبقرية الأفراد بالتبشير أو التنذير، وليس لديها ماتقوله عن تلكم العبقريات لمن هو مع أو ضدّ، بل ببساطة تفضّل العمل بعيدا عن ذلك كله.
إن غياب العلة قد يستتبعه رفض المرء لأيّ خطاب معياريّ ( تقييمي، مثلا:منطقي/ غير منطقي)، مع حرمان نفسه من لذة نرجسية لنقده، أو حتى كشف النقاب عنه، فالأنبياء والأولياء والزعماء السّياسيين ليسوا بحاجة إلى أوصياء، فهم بالجملة على علاقة (روحية) بممارساتهم، ويعلمون أكثر ممّا نحن نعلم عمّا يفعلون، وعن معاني خطاباتهم، وكما أن على كل سياسي أن يتعلم من نظريات الدين، بصرف النظر عن حقيقة الفحوى السياسية لممارساته، وعلى سبيل الإيضاح فإن خطابا ديوسياسي قد يصنع قهوة صباحية رائعة من سيرة زعيم عربي، غير أن نقدا للعقل يجعل من سيرة ذات الزعيم سمادا عضويا للقمع والظلم.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن