-أوغاريت ذاكرة حقل- زهيرة زقطان

رائد الحواري
read_111@hotmail.com

2018 / 9 / 20

"أوغاريت ذاكرة حقل"
زهيرة زقطان
عندما يُقدم التاريخ بصيغة أدبية، مظهرا ما فيه من عظمة ومن تنظيم ومن عطاء، بالتأكيد فإن هذا الشكل من التقديم ممتع بشكله المجرد، فما بالنا أن كان متعلق بجذورنا، بماضينا العتيق، بما قدمناه للإنسانية جمعاء، مذكرنا بما أنجزناه من وضع أسس الكتابة، الحروف الأبجدية، النصوص الأدبية والدينية، التشريع والقوانين، النظام الأدري وما يتبعه من حفظ الوثائق والمراسلات بين الدول، النظام الاجتماعي وما فيه من عدالة لعامة الشعب، انظمة الدفاع والحرب، الأفكار عن الكون وما فيه تغييرات، كل هذا نجده في كتاب "أوغاريت ذاكرة حقل".
الكتاب مقسم إلى خمسة فصول، الأول: "أوغاريت ذاكرة حقل، الثاني: آلهة أوغاريت، الثالث: عقود تحت مظلة الآلهة والملوك، الرابع: المرأة في أوغاريت، الخامس: البريد والرسائل، فنجد في الفصل الأول حديث عن جغرافية أوغاريت، الجغرافية التي أثرت على الإنسان، وتفاعلا معا، ليكون هناك توحد بين أرض أوغاريت والكنعاني/الفينيقي، تصف لنا ميزة أوغاريت فتقول: "أوغاريت .. ذاكرة حقل كما ينبغي اسمها، حقل ممتلئ بالسنديان والأرز والكرمة والسرو والنخيل والزيتون، أشجار في حقل حرسته رعاية بعل" وحبوب منتقاة من القمح الخاص" ص7، الجغرافيا هنا خصبة وتعطي الإنسان الذي يتقدم منها بالعمل والعطاء، فتعطيه بدورها من خياراتها ما لذ وطاب: " ...قطاف العنب يولد في "مهرجان العنب" الذي تحتفل به المدينة كل عام... في كل منزل في أوغاريت سنشعل شمعة بزيت الزيتون" ص8، لكن هل اقتصرت العلاقة بين الإنسان والجغرافيا في المسائل المادية فقط؟ بالتأكيد لا، لأن هناك انجازات روحية وثقافية وحضارية وأدبية ما زالت المجتمعات الإنسانية تنعم بها، فنجد هذا العطاء فيما قاله خطه أحد تلاميذ "زينون" الفيلسوف الفينيقي الذي اثر في الثقافة والفلسفية اليونانية كما هو حال سقراط وارسطو وافلاطون:
"إذا كانت بلادك الأصلية هي
فينيقية،
فهل يجب أن يضرك شيء؟
ألم يأت قدموس من هنا،
الذي أعطي اليونان كتبها وفن كتابتها؟" ص11، فأوغاريت كانت المدينة الأهم في زمانها، والأكثر سلاما وهناء، وهذا ما نجده فيما جاء على شاهد قبر "زينون" الفينيقي.
الفصل الثاني يتحدث عن الآلهة الفينيقية والتي كانت متعلقة بالأرض وبالتغييرات التي تجري فيه، فالإله "إيل" والذي يعني الأول فينيقي وتم أخذه من قبل العبرانيين لهذا نجدهم يسمون "إسرائيل" أي قوة الرب، و"إسماعيل" أي سماع الرب، وكانت الفكرة عن الإله تكمن في تفسير ونسب التغييرات في الطبيعية إلى إرادة الإله، مما يجعل "الفينيقي" مؤمن بأن ما يجري في الكون هو من الإله، لكن هذا لم يمنعه من أن يفكر بحالة الموت وما بعد الحياة، فنجد الفينيقيين كانوا يضعون الطعام والشراب للموت حتى يستقوى بها في العالم الآخر
ونجد الفينيقيين اهتموا ببناء المعابد التي كانت تقام في أعالي الجبال: "... إن روح الآلهة تجوب التلال، تبحث عن رعيتها، فهنا أهم مكان يمارس فوقه الكنعاني عبادته وصلاته في طقوسه الدينية ونذوره الخاصة وأضاحيه المرتبطة بعلاقته بالرب" ص16، ولكن الفينيقيين لم يتوقفوا عند هذا الإله، بل هناك العيد من الآلهة مثل: "دموزي "البابلي" وتموز أو أدونيس أو أدون الفينيقي، وهو اتحاد من بعل أوغاريت، ولتمتد فكرته في صراع الحياة من الموت الأهم في حياة الإغريق" ص18، كل هذه التسميات هي لإله واحد "بعل" فالصفات والقدرات والأفعال التي يقوم بها واحدة، لكن تتعدد تسميته، وهذا يؤكد على وحدة العقائد الدينية في المنطقة.
"البعل" هو رمز الخصب ويمثل حالة الصراع في الطبيعة بين الخصب والجذب، الربيع والخريف، لهذا من صفاته "راكب السحب، صوته الرعد وبهاؤه البرق "ص 20.
ونجد هناك آلهة مثل "عناة، عشتروت" والتي تتماثل مع البعل في عودة النماء والخصب، حتى اننا نجد هناك تماثل بين نواح "عناة" على البعل وشق ثيابها بما يقوم به الفلاح السوري: "... يرتبط نواح "عناة" بعملية الحرث في الحقول، والتي تتم قبل فصل الربيع، انها تحرث صدرها وتدميه، كما الفأس في قلب التربة" ص30، هناك مقاطع حفظها الفينيقي لنا تتحدث عما كان يقول في عملية ندب البعل الغائب في العالم الآخر:
"إنها عشتارت .. امرأة قد نال الإعياء منها..
تنوح على نهر عظيم .. حيث الصفصاف لا ينو
تنوح على نهر عظيم .. تنح على حقل، حيث القمح
والأعشاب لا تنمو
تنوح على حرش أقصاب .ز حيث لا قصب ينمو
تنوح على عذابات ... حيث لا طرفاء تنمو" ض31، وهذا النواح ما زال مستمر في الهلال الخصيب من خلال المآتم التي تجري للحسين وآل بيت الرسول، بعد أن قتلوا وسبوا في كربلاء، لكن روح الندب والبكاء واحدة، رغم أخذها أشكالا جديدة.
الفصل الثالث يتحدث عن العقود بين الملوك والأفراد، وكل هذه العقود كانت تتم باللغة الأكادية، اللغة الرسمية بين الدول، والتي تتعلق بكل نواحي الحياة.
الفصل الرابع يتحدث عن المرأة الفينيقية والتي اخذت مكانتها كما هو حال الأرض، فعلاقة الفينيقي مع المرأة تتماثل بعلاقته بالأرض: "أن نحكي عن المرأة في المجمع أوغاريت فهو حديث عن الارض، والأشجار، والعائلة والأولاد، وأهمية الولادة ومجيء طفل إلى الحياة تبشر الجداول بفرحة حضوره إلى الدينا...هو الخوض في قصة النسيج الأحمر، ومغازل النساء الخشبية، والخبز وحقول القمح، والزبدة، والخمر، والعسل، وزيت الزيتون وضوء للصباح" ص58، كما ان المرأة لم تكن متاحة لأي كان، فالوصول إليها يحتاج إلى جهد وعمل وبذل النفيس:
" سيذهب إليها ويقرع باب والدها
وسيقول ما قاله "إيل" في الحلم:
أذهب هناك يا كارت وقل لقابل
أعطني الأنسة حورية
إن نعومتها كنعومة عناة
وجمالها كجمال
عشتارت
أعطتني ما ليس في بيتي" ص59و60،
وبعد أن يحصل كارت على حورية نجده بهذه النشوة:
" إني لأسلو (أجد عزاء وسلوى)
بصفاء عينيها
حورية التي في الحلم وهبني
إياها إيل
وفي رؤيا (أعطانيها) أبو البشر" ص70و71، وطبعا هذا يعطي صورة على أن المرأة كان يتغزل بها أدبيا، فهذا النص أولا وأخيرا يبقى ضمن الأدب الفينيقي الذي وصلنا، وهذا ما يشير إلى المكانة التي أخذتها المرأة في المجتمع الفينيقي.
الفصل الخامس يتحدث عن البريد والرسائل، تقدم لنا الكاتبة نموذج من هذه الرسائل:
"إلى رئيس رعاتي
سلام ...سلام أيها الأبناء
يحل السلام (أو ليحل السلام)
سلام شاملا
سلام عليكم من بعل أيها الطيبون الابناء والأمهات، والآباء والأطفال ... سلام عليم ايتها المدينة الحقل." ص89و90، بهذه البداية كانت تكتب الرسائل، وهي تشير إلى أن "السلام" هو الحالة العامة السائدة في المجتمع، وتكرار السلام في بداية كل سطر يعطنا فكرة عن طبيعة هذا المجتمع الذي ينشد السلام والخير.
ونجد ايضا في هذه الرسائل خلاصة تجربة الأب المرسل عن الحياة:
"كتب الأب فوق لوح الطين:
في الشارع المأهول لا تتكلم،
لا تتحدث بالسوء عن الناس،
فقد تحصد ثمار عملك ثمارا عاجلة،
اختقار .. حيل .. أحقاد لا تزول،
لا تهزأ بالرب الذي لم تتوجه إليه بالدعاء، فلتكن قواك خير ناصح لك،
لا تجرب نفسك مع القوى ... شديد البأس...لا تشتري ثورا في الربيع
لا تتخذ زوجة فتاة تراها في العيد،
فالثور السيء يتحسن في الفصل الجيد
والفتاة السيئة تلبس في العيد ثوبا جميلا يليق بها" ص94و95، بهذه الوصايا التي تمثل حكما في زمانها، ينصح بها الأب، فنجد هناك جانب اخلاقي يحرص عليه، كما نجد جانب متعلق بالعبادة أيضا، وهذا يشير إلى ان الأخلاق والسلوك مقترن مع العبادة عند الفينيقي.
الكتاب من منشورات المؤسسة الفلسطينية للإرشاد القومي، رام الله، فلسطين، الطبعة الأولى 2003.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن