الشاعرُ والتَّناصُّ (النصّ التصحيحيّ)

حكمت الحاج
hikmat.tn@gmail.com

2018 / 8 / 22

قد يكون من الصحيح أنّ الحياة غير مُرْضية، وفيها الكثير من المنغصات والإحباطات، لكن وعن طريق العقل، يستطيع الإنسان أن يغيّر من واقعه. لا ينبغي للإنسان أن يستسلم. الإنسان بعقله ومخيلته عملاق لا قزم، أمّا تقزّمه فيظهر عندما يتهيّأ له أنّه كذلك. ومن هنا يقول الشاعر الأمريكي الفذ "والاس ستيفنز" أنّ أفضل طريقة للتعامل مع الحياة هي أن نعيشها، ولكن، خارج إطار التصوّرات الموروثة. يجب أن يكون الإنسان مستقلا في فكره وفي مواقفه ويجب عليه ألا يتقبّل أفكار الآخرين ولا تصوّراتهم، دون هضمها أولا، و"ستيفنز" هنا متأثّر دون شك بفلسفة "امرسون" الذي يؤكّد أنّ موطن القوّة في الذات البشرية إنّما يكمن في الجانب الروحي منها وأنّ الإنسان إذا ما نظر إلى العالم بمنظار عقلي أو روحي، فإنّه يستطيع تغيير عالمه بكل سهولة. يقول امرسون أنّ للمحيط والبيئة تأثيرهما، ولكن، للعقل أيضا تأثيره، البيئة تقيدنا والعقل يحرّرنا. ومن هذه الزاوية يمكن النظر إلى شعر "ستيفنز" على أنّه تجسيد حي لقصّة التفاعل بين العقل والبيئة ذلك التفاعل الذي يطوع البيئة ويظهرها لنا بالصورة التي نرغب.
لقد كان شاعرنا يحسّ بالإحباط والفشل والمعاناة والمأساة الذاتية والإنسانيّة، غير أنّنا يجب ألا ننسى وربّما كان هذا هو ما يميزه في النهاية أنّ في نظرته إلى الحياة الكثير من التفاؤل والأمل. الإنسان في نظر الشاعر قد فقد الكثير، لكنّه لم يفقد كل شيء، فهنالك قدرته على خلق عالم خاص مستقل يغنيه عن العالم الـُمـعاش، العالم الخارجي. وهذا ليس بالأمر السهل على الإطلاق.
النقطة الأخرى التي تهمنا في مسيرة الشاعر "والاس ستيفنز" وهي نقطة تهمنا دون غيرها بالتحديد وذلك لمساسها بشعريتنا العراقية الراهنةـ هي أنّ نصوص هذا الشاعر هي "تصحيحية" في معظم جوانبها، فماذا نعني بهذه اللفظة؟
يعرف عن "ستيفنز" أنّه كان يقرأ الكثير وأنّه كان قارئا بعين فاحصة ناقدة. يضاف إلى ذلك أنّ قراءاته كانت تشكّل في الغالب نقطة البداية للمشاعر والآراء التي يبلورها فيما بعد في قصائده. وتكمن أهمية أعماله التي تنتمي إلى هذه الطريقة ليس فقط في مضامينها، بل في طريقة كتابتها ذاتها، إذ أنّ "ستيفنز" يفتح هنا، أمام الشاعر المعاصر، بابا مهمّا يفضي إلى مملكة الكتابة. كذلك يعطينا منهجا مفيدا في التعامل مع التراث عموما، التراث الذي يعني في هذا السياق، كل ما سبق من تدوين. فلقد عاش الشاعر في زمن ظنّ فيه معاصروه أنّ كل ما يمكن أن يُكتبَ قد كُتبَ، وأنّ كل ما يمكن أن يقال قد قيل، وأصبحت قضية التعامل مع التراث تشغل بال الكثيرين، وإذا كان "ت. س. إليوت" قد قدّم لنا طريقة في معاملة التراث تتلخص في أن نأخذ ما يناسبنا منه، وأن نترك جانبا ما لا يناسب، فإنّ "ستيفنز" يقدم لنا طريقة أخرى تقوم على تدعيم بعض جوانب التراث وإبراز ملامحها وإعادة تقديمها للقارئ في تعابير وأشكال جديدة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإنّه يجب في نفس الوقت مخالفة هذه الملامح وهدمها وطمس معالمها. ولا شك أنّ "ستيفنز" يخالف ويهدم، أكثر ممّا يعزّز ويبلور. ويقول في هذا الصدد: "لربما يكون أكثر فائدة أن نغضب الفلاسفة من أن نمالئـهم". وهذا هو الطابع المميّز لقصائده. فكان بناءِ عملٍ أو نصٍّ جديدٍ، كليا أو جزئيا، يعتمد على هدمِ عملٍ أو نصٍّ قديم.
وهذا هو بالضبط ما نعنيه بمصطلحنا "النص التصحيحي" كمرآة نرى من خلالها شعرنا العراقي الجديد، ولكن ربما سيكون ذلك في مناسبات قادمة.
ومن هذه النقطة نقول بأنّ القارئ المؤهّل لفهم قصائد "ستيفنز" فهما جيّدا هو القارئ واسع الإطلاع، الذي عندما ينظر إلى نص من نصوص "والاس ستيفنز" يستطيع أن يسترجع في ذهنه، أو أن يتذكّر في الأقل، ذلك النص الأصلي الذي بنى الشاعر قصيدته على أنقاضه. فمثلا، قصيدته العظيمة "إمبراطور الآيسكريم" ما هي إلاّ قصيدة قد كتبت لتكون هيكلة جديدة لبناء شعري قديم تمّ تشييده قبل ما يقارب الثلاثمائة سنة من تاريخ كتابتها. وكلتاهما تتحدثان عن موضوع واحد، وهو: الموت، ولكن، شتان ما بين طريقتـَيْ التناول. وهذا طبيعي جدّا إذا وضعنا بالحسبان ما يفصل من زمن بين العملين، تغيرت خلاله كثير من الأشياء، وبضمنها طبعا الموقف من الموت، وأسلوب مواجهته، عبر الشعر والحياة.
ونحن إذ نحاول أن نقدّم للقارئ الكريم ترجمة للعملين الشعريين الكبيرين، نلفت انتباهه إلى أنّ القصيدة موضوع حديثنا في التأثّر والتأثير هي للشاعر الإنكليزي الميتافيزيقي الشهير "جون دون" بعنوان "لا تكنْ متفاخراً يا موتُ"، نقول أنّ هذه القصيدة قد لا يجمعها جامع، في الظاهر على الأقل، مع قصيدة "إمبراطور الآيس كريم"، ولكن هذا الرأي سيكون انطباعا أوليا فقط، وبإمعان التفكّر وإعادة القراءة، لابدّ أن يعثر المرء على ما يؤيد الفرضية النقدية القائلة بوجود "تناصّ" بين القصيدتين، علما أنّ هذه الفرضية ليست من عندياتنا، بل هي من معروفات ومسلمات التاريخ الأدبي للأدب الأنكلوأمريكي المعاصر.
ولنبدأ بالأقدم زمنا، قصيدة الشاعر "جون دون":

لا تكنْ متفاخراً يا موتُ

أيها الموتُ
لا تتباهَ بنفسكَ
وإنْ سمّاكَ البعضُ الجّبّارَ المرعبَ
لأنكَ لست كذلكَ
وأولئك الذين تظن أنك تقهرهم
هم لا يموتون
يا أيها الموت المسكين
بل إنك حتى لعاجز عن قتلي
الراحة والنوم وما هما إلا صورتان منك
لنا فيهما مسرة كبرى
إذن لابد من مسرات أكبر تفيض منك
لذلك فان أكابرنا يتسابقون لنيل رفقتك
وذاك من اجل الراحة لعظامهم
والخلاص لأرواحهم
أنت أيها الموت
عبد للقدر وللصدفة وللملوك اليائسين
أنت والسم والحرب والأمراض أصدقاء بعض
الخشخاش أو الأدعية يمكنها ان تجعلنا ننام
مثلك
بل أحسن منك ومن وقعك
فلماذا إذن تزهو بنفسك؟
ما هي إلا إغفاءة قصيرة سرعان ما تمضي
ثم نصحو منها نهائيا
ولن يكون بعدها موت
أيها الموت
بل إنك أنت حينئذ من سيموت.

ودعونا نقدم لكم بعدها قصيدة الشاعر والاس ستيفنز:

إمبراطور الآيس كريم

ادْعُ لفَّافَ السيكار الكبير
ذلك الفحل
واطلب اليه أن يخفق في أواني المطبخ
زبَد الشهوة..
دعِ الغانيات يتبذلْنَ في ملابسهن المعتادة
ودعِ الشبان يأتون بالأزهار ملفوفة
في جرائد الشهر الماضي
ضَعْ حداً لكلِّ ادعاءٍ عقيمْ
فإن الإمبراطور الوحيد
هو إمبراطور الآيسكريمْ.
خُذْ من خزانة الخشب التي
تنقصها أُكَرٌ زجاجية ثلاث
ذلكَ الشرشفَ الذي
قد طُرِّزَتْ عليه مرةً
حمائمَ بذيول مروحية
وافرشهُ حتى يغطي وجهها
وإذا ما بانتْ قدمُها التي تشبه القرون
فإنها إنما تُظهرُ كمْ هي باردة وصماء
دعِ المصباح يركِّز نوره العميمْ
فإن الإمبراطور الوحيد
هو إمبراطور الآيسكريمْ.

عزيزي القارئ، والآن، وبعد الاطلاع على القصيدتين، يبقى سؤالي لك ماثلا للعيان، فيا هل ترى ما هي السبل الكفيلة بإقناعنا بأن ثمة تشابه بين القصيدتين المذكورتين أعلاه؟ وكيف تسنى للشاعر والاس ستيفنز أن يبني قصيدة جديدة على أنقاض قصيدة أقدمَ منها زمناً؟ هذه الأسئلة وغيرها مما يعترض القراءة، هي موضوع الفاعلية النقدية التي يجب أن يتوفر عليها كل قارئ عادي للأدب، وإن هو رامَ المزيدَ من التعمق والفهم، فما عليه إلا بالنقد الأدبي المختص كمرشد ودليل.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن