أنا وأنا

سمر المحمود
summer.rrr@hotmail.com

2018 / 8 / 19



أنا وهو رجلان في جسد واحد، لا أقصد أنني أمتلك وجهين، لكنني أمتلك شخصية ثانية قد تباغتني في موقف ما ، كما قد تخيف الآخرين، وأحيانا تهدأ وساوسي باختفائها فأشك بوجودها، ولكن حدثا ما يجعل شعورا لدي غامضا بوجود آخر، (أنا آخر) ، يفتح فمه رويدا رويدا ليباشر في الاعتراض .. ربما
أو إبداء رأيه رغم أني لا أطلبه، وقد يمعن في إهانتي أمام الآخرين ويرغي ويزبد بالشتائم كلما وضعت يدي على فمه محاولا إسكاته، لكنه شخص عنيد لا يعرف اليأس ويصر على وضعي في موقف محرج قد يصل لمأزق حقيقي عندما يكون تدخله في شأن سياسي ما، فصرت أشك بانتمائه ولا انتمائه وتدينه وحتى علمانيته
وكادت فرائصي ترتعد حين اكتشفت ميله للخروج على القانون، رغم إلحاحي المتكرر على إقراره بحقيقته في ليالي الأرق الطويلة التي أجالسه فيها مقدما له فنجان قهوتي وسيجارتي وصوت أم كلثوم يصدح من إذاعة محلية
- تحب أم كلثوم ؟
- نعم ..ألا تحبها ؟
- جدا مممم .. يصمت طويلا مرهفا السمع .. يتململ ثم يحك رأسه ويردف بابتسامة تنم عن خبث:
أم كلثوم أم كلثوم أم كلثوم .. من في هذا الزمن يعرفها غير جدك وجدي .. من ينتظر الغد كما انتظرته، من يهدد بحدود الصبر الآن، دارت الأيام ومرت وأنت تعيش تلك الحقبة يا صديقي فلتضع أغنية حديثة ..
وهو يتمتم : لا أفهم إدمان مثل تلك الإذاعات على ما أكل الدهر عليه وشرب
- حسنا ما رأيك بأغنية .......
يشتمني بغضب كمن فقد رشده: ألا تخجل من نفسك كيف تستمع لتلك المغنية التي تؤدي بجسدها .. و.. و ..
يصيبني تقلبه بالذعر في حين يغرق في نوبة ضحك مرتفع
كيف أتفاهم معه؟ لا أعرف؟ كل ما أحسه أن هذا الرجل سيقضي على مستقبلي
أقضي أياما كثيرة مبتعدا عما يسبب له الانفعال فأنقطع عن الأخبار المحلية والدولية، وأنزوي في غرفتي مقاطعا العائلة لأجيب على استفساراتهم بصوت خافت كأن روحا شريرة تتنصت أقوالي،
وفي العمل أنكمش بشكل مضاعف يثير حفيظة الموظفين، وأشعر بخوف طارئ حين يستدعيني المدير لشأن ما، فآخذه لزاوية مخفية أتوسله همسا ألا يدخل معي، مذكرا إياه بالعشرة والسهر والقهوة والدخان حتى أن زملائي في العمل لكثرة ما لمحوني أتحدث مع نفسي بدأوا ينصحونني بابتسامة تجمع بين المواساة والشعور بالشفقة، بمراجعة طبيب نفسي
- نعم يا أستاذ ، بينما أغالب ارتباكي .. تعرف إرهاق العمل والوضع المادي السيء والحَرَّ الشديد وانقطاع الكهرباء الدائم المؤرق، مع ازدحام وسائل النقل في الصباح ..
هكذا أجيب المدير الذي كان يسوي جلسته وراء المكتب ومال برأسه على كتفه اليسرى متفحصا أوراقا ما ليرفع بصره إليَّ، بعد إنصاته لتبريراتي في تأنبيه العنيف لتأخري المتكرر عن العمل ليقول بجفاء وقد عقد حاجبيه وبدت شواربه الكثة المصبوغة ترتجف مع شفتيه:
- ولكنك تأخذ راتبا جيدا يحقق لك الراحة النفسية والطعام والمواصلات ... يحمحم ويردف باقتضاب: وربما شراء الثياب والذهاب في العطلة إلى الحديقة .. مم تشتكي الحدائق؟ ولم أستطع تتبع حديثه عند هذا التساؤل شاعرا بالذنب بدناءتي، ومع احتفاظي بمظهر الخضوع أفكر بأنني موظف يتقاضى راتبا عن تقاعسه
ليجفلني تدخل (الآخر) الذي لم يسمع تضرعي، وبوقاحته جعلني ألعن اليوم الذي ولدت فيه، يحشر نفسه سائلا مديري بعجرفة وغدة: فندق فخم أليس كذلك؟ مشيرا بإصبعه نحو صورة معلقة على جدار المكتب: متى كنت والعائلة هناك حضرة المدير؟
المدير الذي أحمر وجهه وتصبب عرقا، نهض وهو يصرخ غاضبا رافعا سبابته أمام عيني: موظف وقح
" لا أعرف لم أبقيك في العمل حتى الآن " .. لكن قلبي رقيق ووضعك يثير شفقتي أخرج قبل أن ينفذ صبري .. وبأساريره الدالة على خطورة ما حدث توّا أهُمُّ بالخروج عاقدا يداي كأسير بظهر منحني، وما زلت موليا له وجهي من باب اللطافة وحسن التقدير أتلعثم في الاعتذار شاكرا الله على كونه رحب الصدر عطوفا متسامحا
ثم مكررا اعتذاري بجزع محاولا أن أعطي تفسيرا لما حصل ..يا للمصيبة .. وأدخل إلى غرفة مكتبي ألتقط أنفاسي بعناء وقبل أن أنتهي من السب والشتم
- أتشتمني؟ .. يستفسر بجفاء زميلي ذو النظارات السميكة الذي يجاورني في المكتب
- لا لا ..أجيبه وأنا أترنَّح مرددا اعتذاري آسف آسف
- مممم إنك تشتم .... وبابتسامة ساخرة غامزا كأنما يوحي بتواطؤ ما يسترعي انتباه الزميل ذو الجسم الضخم الذي يصر دائما على التوقيع قبلي والانصراف قبلي والذي يوحي بأنه توظف لإضفاء جو من الرفاهية على الموظفات بإلقاء النكات وتلبية طلباتهن المتعددة أثناء العمل .. والذي يرمقني باستنكار مبطن بالوعيد والتهديد ملوحا بيده ذات العضلات المنتفخة بطريقة مستفزة
تجعل ( أنا الآخر) يكح ويكح بفم مفتوح مطلقا الرذاذ حتى وجهه ولن أخبركم ما حصل بعدها .... لكنه حتما الرجل الذي سيقضي على مستقبلي
إنه لا يتوقف عن إثارة ارتباكي في أي مجلس كان، يوجه أسئلة وملاحظات مفاجئة قد تصل للوقاحة مسببا إحراجا قد يؤدي إلى توريطي في مشكلات، ومع ذلك لا أملك إلا أن أتجاهله منتظرا المحتوم باستسلام،
لكنَّ حبيبتي التي أَحسَبُها ساذجة، تخبرني في هدوء لطمأنتي :
أن لا مشكلة لديها مع الآخر وقد تتقبله وتتعايش معه ..... بعد الزواج
فأكاد أقفز من فرحتي معانقا إياها بكل امتنان قائلا: شخص مثلك فقط سيتحملني، مضحيا بالعيش مع أثنين .. وأردف بانفعال بالغ أوقعه لطفها : كم حبك بالغ يا عزيزتي
- لكنها تبتسم في مكر .. هكذا يهمس ( الآخر) في أذني متدخلا
- لا لا ابتسامتها رقيقة وطيبة أنت الشرير أنت .. أنت .. أجيبه
فيتحول موجها الحديث لخطيبتي التي شحبت مع اختلاج فكها الأسفل وكادت عيناها من الدهشة تقفزان من محجريهما:
- لا تنكري أنك فقط تريدين الزواج ولو برجل أعور؟ أبرر خوفك من العنوسة؟ لا تظني أني أحمل لك ضغينة .. هذا لا يمنعني من إبداء رأيي، أنت منافقة متملقة .. أجل أجل أعرف ذلك
كم مرة تركتني بسببه ؟؟ مئات المرات، رغم أني غير قادر على تقديم عذر يَعفيني، أجاهد في سبيل إرجاعها ليكون جهادا مضاعفا مع تدخلات (الآخر) وبتره لكل محاولة سواء بالركوع تحت شرفتها والقنوط بكل كآبة عند باب منزلها أو إرسال آلاف الرسائل الإلكترونية الكتابية والصوتية، مع أغاني أم كلثوم ثم أغاني معاصرة .. ثم أحبك .. ثم أكرهك ..
كيف تتخلين عني؟
حسنا .. ذوقك سيء في الثياب، نكاتك سخيفة ألم أخبرك أن لفمك رائحة كريهة ...
آسف إنه (الآخر) يا وردتي
حتى أنها أجابت أخيرا بكل جفاء واقتضاب: أنها ستنهي كل علاقة بي حتى أستطيع شراء بيت والزواج
فأردد بحنق: زواج حسنا .. لكنْ بيت ؟! تعرفين قسوة المعيشة والغلاء مع ارتفاع الأسعار بانهيار العملة المحلية ؟!

- ألم أخبرك أن كل غايتها الزواج! .. يقول (الآخر) بصوت خفيض بدا صادقا في تأثره، ليتحول فجأة إلى تقريعي مع موعظة طويلة عن نضاله لتقويمي .. ثم يتمتم وقد قطب محياه ..أنت لست سيئا لكنك جبان ضعيف حتى دمعت عيناي بتأثر ليستأنف حديثه والثقة بادية على محياه :
هكذا هن النساء يستعملن الرجال وسيلة للاستقلال المكاني ثم الانجاب ولا تنسى أهمية الضخ المادي
فأجيبه بتلطف تفاديا لشر ما يوقعني فيه، غير غافل عن القيام مرغما بواجبه بتقديم قهوتي وسيجارتي مع كرهي الشديد: قد تكون غاياتنا متشابهة أو بالأحرى مكملة لبعضها، فهي ستطبخ وتكنس وتغسل وستكون أما صالحة لأولادي
- ممممم لا تكن واثقا يا صديقي .. ربما حين تعرفك أكثر ستختار عشيقا فأنت حقيقة لا تطاق ..
- أيها التافه كيف تجرؤ؟ وقد تملكني الاستياء مع إحساس وشيك أن هذا الرجل سيدمر حياتي
لياليَّ مرة تطول مع أرقي بالتفكير المعذَّب .. كيف سأؤمن المنزل فأنا في منتصف عقدي الرابع، ما زلت عازبا لا أمتلك شيئا، هل أعود وأذكركم أنني ارتعدْتُ حين اكتشفت ميله للخروج عن القانون فبعد اختفائه لفترة هدأت فيها وساوسي يعود ليظهر بشكل مفاجئ في حمامي ليقول وهو يسوي لحيته:
- لا نستطيع في كل الظروف أن نحكّم الضمير .. لابد سيعيق أي تقدم ممكن .. مع إلغاء هذا الاعتبار يا صديقي أعتقد أنني وجدت الحل لمشكلتك .. مع اندهاشي بمباغتته مطيلا النظر بلحيته التي لم يطلقها من قبل أنشغل عن ثرثرته التي دامت زهاء ربع ساعة ..
يجب أن تخطف المدير وتطلب مقابله فدية كبيرة .. لأوشك أن أهوي جاثيا على ركبتي حين سماعي للجملة الأخيرة بلهجته الصارمة التي دبت من جديتها الذعر في قلبي مع إحساس بالتراخي خالطه شعور مؤقت بالذنب
لأصرخ بصوتي المرتعش المرعوب: أخرج من حياتي ..
لكنه يتجاهل غضبي متوجسا من الرضى الذي خامرني بدغدغته لأفكاري والذي تمثل بصراخ غير صادق ليتابع بذات الجدية:
- المدير ألم تره وعائلته يقضي إجازاته في فنادق العاصمة الضخمة ؟.. ألم تر كيف يعاملك؟ مبلغ صغير لن يضير خزينته بشي إنه يستحق عقوبة مماثلة قد يصبح طيب القلب ومرهف الإحساس وستجد لذة كبيرة في إذلاله ، لا تخف فحياته ستكون بين يديك ولن يتجرأ على فعل شيء
وإذ حاولت النوم مع تركه يثرثر ويثرثر ماضيا في وضع خطة جهنمية صعقتني فقد أشرك فيها الموظف ذو النظارات السميكة، كان على ما يبدو هو الآخر ناقما على المدير لرفضه ترقيته والضخم الجسم الذي رفض مرارا تزويجه بابنته اللثغاء الحولاء لمعرفته بطمعه بثروتها، كل دهشتي تمحورت حول دهائه كان يتصرف كلص ذو خبرة وشأن
هذا (الآخر) الذي بدا أن زجه لي في المكان الأسوأ صار جليا واضحا لدي، ما أثار الرعب في قلبي لأنام على غير عادتي نوما عميقا أثلج قلبي
في الصباحات التالية، تذهب واجهتي المتحركة للعمل ليطبطب مديري عليها ملوحا برضاه على مثابرتي واتعاظي بينما يبقى الآخر مختفيا لفترة طويلة فهو منهمك بإقناع زميليَّ في العمل اللذان حاولا الرفض بداية مع تصنع الخشوع والكياسة لكن المبلغ الذي عرض عليهما كان ليجعلهما لا يتورعان عن قتله لو تطلب الأمر
ولن أطيل عليكم فقد كان التنفيذ أسهل مما تخيلنا جميعا، وها هو المدير يتكور في زاوية من غرفة مهجورة موثق اليدين بإحكام وقد احتقن وجهه وتقطعت أنفاسه وراح يطوف ببصره أرجاء الغرفة بينما أخذ جسده يرتجف بأجمعه وقد تهدلت ثيابه وبدا من الرثاء ما يضعف القلب
كنت بجانبه كذلك موثق اليدين .. أقصد أنني قمت بنفسي بتقييد يدي ..بانفعالٍ مستعذبٍ يسري في كياني على كوننا ضحيتان لمكر الموظفين وشعرت بنظراته المرتابة ، لكنْ تساوينا في تلك المصيبة أوقعت في نفسي غرورا لذيذا ولم أفكر حينها بالانتقام إنما توجَّبَ عليّ أن أتمظهر بدور البطل المنقذ لأشرع بإنقاذ نفسي ثم النهوض كملسوع لفك وثاقه قائلا بلطافة وحذر بدا حقيقيا :
- أترى يا سيدي كيف رد موظفوك على جميل طيبتك وكرمك؟ لكن وجه المدير الذي فككت لتوي وثاقه تقمص تعابير عاطفية لم أحسبها فيه وأخذ يشد على يدي بامتنان وقد تهدجت أنفاسه وسالت العبرات من عينيه وترددت في أن أربت على كتفه لكن فيض مشاعر اللحظة جعلتني أحتضنه حقيقة وأنهمك بترتيب شعره المشعث وتشذيب ثيابه مرددا على مسمعه:
- لقد خطفونا سوية ويبدو أن القدر دفعني لأنقذك .. وشرعت أطمئنه بكلمات مملوءة بالرياء عن إخلاصي له وتفانيّ في خدمته وفهمه السابق الخاطئ لي .. وضرورة الرحيل متصنعا الذعر والخوف من عودة القتلة حيث أوحيت له بطريقة غامضة أنهم يحرسون على الجانب الآخر من الغرفة المهجورة
لابد أن أخبركم أن المدير كافأني على حسن أخلاقي ولثقته المطلقة بي ، ائتمنني على الزواج من أبنته اللثغاء الحولاء التي أغرمت بي حتى الجنون حتى أنها جعلتني ووالدها كضمان لاستمرار إخلاصي أقوم بتوقيع شيكات بلا رصيد
هل أنا سعيد؟ أمتلك الآن مكتبا أنيقا بعد خروجي من التحقيق مثل الشعرة من العجين، وأعتقد أن زميلي في العمل يخططان الآن وهما في السجن لقتلي حال خروجهما بسبب خيانتي لهما في تغيير طارئ وضعته لخطة الخطف،
كذلك أمتلك سيارة فخمة، والمدير عمي لا يفوت مناسبة ليمدح ضميري الحي وبنفس الوقت لا يفوت فرصة تجندني لخدمته وأبنته
لا أعرف بماذا أجيبكم؟ (أنا الآخر) يستمر بجلدي وتعذيبي كل يوم يؤرقني في حديثه عن لواعج قلبه ويسترسل إلى حد اتهامي بأنني قتلته وانتحلت شخصيته ويجهش بالبكاء بصوت متحشرج حتى خفت أن تتنبه زوجتي الغارقة في النوم
يقول إنه مشتاق لحبيبته التي أجبرته على هجرها لتِزوج تلك التي تخور كعجل
وأنا أهرب من نكده كل يوم بتناول المسكنات والحبوب المنومة، وأستغرب أن شيئا منها لا يؤثر فيه، حتى عند التجائي لتجرع الكؤوس يصاب بضعف بالغ، يهذي كمحموم لتكدر هواجسه التي يفاقمها الشرب قلبي وليلطخ وجهي بمخاطه ودموعه ولا أتوانى عن تهدئة روعه وحثه على تمالك نفسه
ولا أخفي عليكم بدأت أشك بميله للخروج على القانون، تصوروا، إنه يوسوس لي كل ليلة لأقتل زوجتي واخرجه من تلك الكارثة التي أوقعته بها



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن